الخميس، 27 أغسطس 2015

أندلسيون في المشرق!

كنّا قد وقفنا في مقالنا السابق عن أهمية الرحلة في طلب العلم في ظل الحضارة الإسلامية، ورأينا أنها سمة عامة لم تنقطع حتى انقطعت أواصر المسلمين بتقسيمهم الجغرافي والديمغرافي والسياسي، وفي هذا المقال نستكمل حديثنا مع ثلاث رجال من رجالات الأندلس والمغرب ممن خرجوا من ديارهم عشقًا للمشرق، وطلبًا للعلم، ونيلاً للأجر، وفي قصة كل منهما ما يكشف تفاصيل الحياة المشرقية، وانكباب هؤلاء الطلبة على العلم، وسعيهم الحثيث لنيله دون فتور أو كسل، وهي حياة قلّما نراها في صفحات التاريخ السياسي والعسكري حيث القصور والحاشية والبلاط والقوة والبطش والسلطان!
قال العلامة ابن العربي: "سمعتُ الحافظ أبا بكر الطرطوشي يقول: لم أرحل من الأندلس حتى تفقهتُ ولزمت الباجي (علامة الفقه في الأندلس) مُدّة فلما وصلتُ إلى بغداد دخلت المدرسة العادلية فسمعتُ المدرسَ يقول: مسألة إذا تعارض أصل وظاهر فأيها يحكم؟ فما علمتُ ما يقولُ، ولا دريتُ إلى ما يشير حتى فتح الله وبلغ بي ما بلغ .... واشتمل أهل الإسكندرية على الحافظ أبي بكر (الطرطوشي)، وقعد للتدريس، ونفع الله به كل من قرأ عليه وانتشر علمه... أخبرني شيخي أبي بكر المفضل عبد المجيد، بن دليل قال: كنتُ أبيتُ أكثر الليالي بمدرسة الحافظ أبي بكر فسمعتُه ذات ليلة قد قام إلى ورده على عادته وافتتح من سورة الصافات حتى بلغ إلى قوله تعالى )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ([1])( ولم يزل يردد هذه الآية ويبكي إلى أن طلع الفجر. ولقد أخبرني أنه رآه في اليوم الذي توفى فيه وعليه فروته التي ساقها معه من طَرطُوشة([2]). وكانت وفاته في سنة خمس وعشرين وخمسمائة. روى عنه جماعة من الحفاظ منهم: الحافظ أبو بكر بن العربي، وأبو علي الصدفي، وأبو الطاهر بن عوف وغيرهم. وتواليفه كثيرة منها "التعليقة في الخلافيات" في خمسة أسفار. وله كتاب يعارض به كتاب "الأحياء" رأيتُ منه قطعة يسيرة. وألف "سراج الملوك" في مجلس كان بينه وبين صاحب مصر يطول ذكره. وكان أوحد زمانه علماً وورعاً وزهداً لم يتشبث بمن الدنيا بشيء، إلى أن توفى وصلى عليه"([3]).
وثمة قصص مشابهة لقصة الطرطوشي الأندلسي الذي رحل من الأندلس إلى المشرق واستوطنها، لكن هناك من رحل من القيروان إلى المشرق ثم رجع للقيروان ثم رجع للمشرق مرة أخرى ثم استقر به الحال في الأندلس، وقصة هذا الراحل الذي لم يستقر إلا في أخريات عمره في قرطبة هي نموذج لحالة طالب العلم الذي عانى في طلبه هذا حتى أصبح من أكابر علماء عصره في مجال تخصصه، هذا الرجل هو مكي بن أبي طالب بن مختار المقرئ (ت437هـ)، ذكر حكايته ابن بشكوال في كتابه "الصلة" بقوله: "قال صاحبه أبو عمر أحمد بن محمد بن مهدي المقرئ: كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، حسن الفهم والخلق، جيد الدين والعقل، كثير التأليف في علوم القرآن، محسناً لذلك، مجوداً للقراءات السبع، عالماً بمعانيها. ولد لتسع بقين من شعبان سنة خمس وخمسين وثلاث مائة، وكان مولده بالقيروان. ثم أخبرني أنه سافر إلى مصر وهو من ثلاث عشرة سنة في سنة ثمان وستين وثلاث مائة، واختلف([4]) بمصر إلى المؤدبين في الحساب، ثم رجع إلى القيروان وكان إكماله لاستظهار القرآن بعد خروجه من الحساب وغيره من الآداب في سنة أربع وسبعين وثلاث مائة، وأكمل القراءات سنة ست وسبعين، ثم نهض إلى مصر ثانية بعد إكماله القراءات بالقيروان في سنة سبع وسبعين وثلاث مائة، حجّ تلك السنة حجة الفريضة عن نفسه، ثم ابتدأ بالقراءات على أبي الطيب في أول سنة ثمان وسبعين، فقرأ عليه بقية سنة ثمان وبعض سنة تسع، ورجع إلى القيروان وقد بقي عليه بعض القراءات، ثم عاد إلى مصر ثالثة في سنة اثنتين وثمانين فاستكمل ما بقي عليه في سنة اثنتين وبعض سنة ثلاث. ثم عاد إلى القيروان في سنة ثلاث وثمانين وأقام بها يقرئ إلى سنة سبع وثمانين، ثم خرج إلى مكة فأقام بها إلى آخر سنة تسعين وحج أربعة حجج متوالية نوافل، ثم قدم من مكة سنة إحدى وتسعين إلى مصر ثم قدم من مصر إلى القيروان في سنة اثنتين، ثم قدم إلى الأندلس في رجب سنة ثلاث وتسعين، ثم جلس للإقراء بجامع قرطبة فانتفع على يديه جماعات، وجوّدوا القرآن، وعظم اسمه في البلدة وجل فيها قدره.. وقد نزل أبو محمد مكي بن أبي طالب المقرئ أول قدومه قرطبة في مسجد النخيلة في الرقاقين عند باب العطارين فأقرأ به، ثم نقله المظفر عبد الملك بن أبي عامر([5]) إلى جامع الزاهرة وأقرأ فيه حتى انصرمت دولة آل عامر. فنقله محمد بن هشام المهدي إلى المسجد الجامع بقرطبة وأقرأ فيه مدة الفتنة كلها إلى أن قلده أبو الحزم بن جهور الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع بعد وفاة القاضي يونس بن عبد الله. وكان قبل ذلك يستخلفه القاضي يونس على الخطبة، وكان ضعيفاً عليها على أدبه وفهمه. وبقي خطيباً إلى أن مات رحمه الله. وكان خيراً فاضلاً، متواضعاً، متديناً، مشهوراً بالصلاح وإجابة الدعوة. من ذلك ما حكاه عنه أبو عبد الله الطرفي المقرئ قال: كان عندنا بقرطبة رجلٌ فيه بعض الحدة وكان له على الشيخ أبي محمد مكي المقرئ تسلط. كان يدنو منه إذا خطب فيغمزه، ويحصي عليه سقطاته. وكان الشيخ كثيراً ما يتلعثم ويتوقف. فجاء ذلك الرجل في بعض الجمع وجعل يحد النظر إلى الشيخ ويغمزه، فلما خرج ونزل معنا في موضعه الذي كان يقرأ فيه قال لنا: امنوا على دعائي. ثم رفع يديه وقال: اللهم اكفينه، اللهم اكفينه، اللهم اكفينه فأمنا. قال: فأُقعِد ذلك الرجل وما دخل الجامع بعد ذلك اليوم"([6]).
فهذا المقرئ الذي رحل إلى مصر ثلاث مرات متتاليات في أعوام مختلفة ليكمل دراسته وحفظه لكتاب الله U ويتعلم القراءات على كبار أهلها، ثم انتقاله لمكة المكرمة ومكوثه فيها لأعوم خمسة يُدلل بلا ريب على أن الرحلة لطلب العلم كانت جزءًا أصيلاً من الحياة الفكرية والعلمية ثم التربوية التي هي جماع ذلك كله.
لقد كان الشوق للمشرق، والتعلم على أيدي علمائه الأجلاء حلم يرواد جُل الأندلسيين والمغاربة، ولنا مع الحافظ الأندلسي أبي الحسن بن مؤمن (ت597هـ) أبرز المثل على ذلك، فهو يعبّر عن حبه لشيخه بهذه القصيدة التي نظمها قبل أن يلقاه: قال أبو الحسن علي بن مؤمن: لما اجتمعتُ بالحافظ أبي الطاهر السلفي([7]) ودخلتُ إليه في منزله أكرمني وأبدى لي مبرة وإقبالاً، وأثنى على أهل الأندلس خيراً ثم سألني عن حوائجي، فذكرتُ له مقاصدي، وإن جُلّ قصدي بتلك البلاد لُقياهُ والأخذ عنه، فأنعم بذلك ووعدني بكل خير؛ ثم أنشدته أبيات كنتُ رويتها وأنا بالبحر في مدحه وهي هذه:
ظمئتُ فهل لي في مواردِكُم رِيُّ
 

وهل لي في أكناف عزّكم فَيُّ

وقد طُفْتُ في الآفاقِ على أَنْ أَرَى


بِهَا أَحَداً والحيُّ ما إِنْ بهِ حَيُّ

قصدتُ إليكم مِنْ بِلادٍ بَعِيدةٍ


وأنصب جِسْمي بالسّرى نحوكم طَيُّ

لعلّك تَجْلُو عن فُؤَادِي صَدَاءَهُ


فقد مدّ إطناباً به الجهلُ والعيُّ

وَتَقْبسني كفّاكَ مِنْ شَرعِ أَحْمَد


كواكبٌ أبدتها خُراسانُ والرِّيُ

وحَاشَاكُم من أن يضيعَ لديكُمُ


رَجَائِي أو يَخْشَى عَلَى حَاجَتِي لَيُّ

أَبَا طاهر أَحْرَزتَ دِينَ محمدٍ


ونَاهِيكَ فَخْراً لا يُمَاثِلُه شَي

فأَوْضحتَ مِنْ عِلمِ الحديثِ مَعَالماً


وبيّنت مَوْقُوفاً وما هُو مَرويُّ

وعَلَّمْتَنَا نَقْدَ الرِّجَالِ وميْزَهُم


وَمنْ كَانَ ذا جَرحٍ وَمَنْ هُوَ مَرضيُّ


وَمِنْ أَجْلِ حفْظِ الدّينِ سُمّيتَ حَافِظَاً


فَلا زِلتَ مَحْفُوظاً وَقَدرُكَ مَرعِيُّ

فزاد من إكرامي وبِرّي؛ لأنه كان كثير الاهتزاز للشعر([8]).

نُشر في موقع إضاءات - مصر العربية



([1]) (الصافات: 24).
([2]) هي مدينة تقع شمال شرق الأندلس على البحر المتوسط، وهي قريبة من مدينة  بلنسية، سقطت في يد نصارى إسبانيا سنة 543هــ.
([3]) ابن عميرة الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس1/178، 179.
([4]) أي أكثر التعلم والرحال إلى المعلمين.
([5]) ثاني أمراء الأندلس من الأسرة العامرية. كان في أيام أبيه (المنصور) ينوب عنه في الحجابة للمؤيد الأموي (هشام بن الحكم) بقرطبة. ثم كان مع أبيه في غزوته التي مات بها (في مدينة سالم) ولما شعر أبوه بدنو أجله رده إلى قرطبة وأوصاه بضبطها. فأسرع إليها وجاءه نعي أبيه، فدخل على المؤيد، فأخبره، فخلع عليه وكتب له بولاية الحجابة مكان أيبه (سنة 392 هـ ) فقام بأمور الدولة كبيرها وصغيرها، وأسقط عن البلاد سدس الجباية، وتلقب بسيف الدولة " الملك المظفر بالله "، توفي سنة 399هـ.
([6]) ابن بشكوال: الصلة ص910، 911.
([7]) أحد أعلام الحديث النبوي الشريف في القرن السادس الهجري، جاءه صلاح الدين الأيوبي وتعلم على يديه وسمع منه وهو سلطان مصر، توفي سنة 576هـ.
([8]) ابن عبد الملك: الذيل والتكملة 1/262، 263.

الخميس، 21 مايو 2015

سؤالُ الأخلاق بين الإسلام والغرب!

تبدو أزمة الأخلاق المعاصرة مسألة إشكالية معقّدة للوهلة الأولى؛ ذلك لأن هذه الأزمة لا ترتكن في جانب واحد من جوانب الحياة الإنسانية المعاصرة، بل أضحت مأزقًا في كافة أشكال التمظهر الإنساني من السياسي إلى الاجتماعي إلى المعرفي إلى الاقتصادي إلى التكنولوجي، فجل الحقول الإنسانية والعلمية اليوم معنية بسؤال الأخلاق، وأسباب غيابها، وآثار هذا الغياب.
وتأتي أهمية "الأخلاق" لكونها الأساس الركين في قيام وسقوط الحضارات، وإننا نرى هذه الحقيقة جلية في تاريخ الحضارات البشرية؛ ففي كتابه "قصة الحضارة" لم يغب عن المؤرخ الأمريكي الجاد "ول ديورانت" أثناء استعراضه لمسار الحضارات الإنسانية منذ القدم حتى بدايات العصر الحديث، تتبع قضية الأخلاق وأشكالها في جل الحضارات التي وقف معها، وغالبًا ما أفاض في الحديث عن أثر الأخلاق ومصادرها في تلك المجتمعات، فهو يقول عن دين اليونان: "يبدو لأول وهلة أن الدين اليوناني لم يكن ذا أثر كبير في الأخلاق، فقد كان في أصله طائفة من قواعد السحر لا من قواعد الأخلاق القويمة، وبقي إلى حد كبير على هذا النحو إلى آخر أيام اليونان"[1]. وعند حديثه عن سقوط الإمبراطورية الساسانية: "سادت وقتئذ الفوضى في تلك البلاد التي أنهكتها الحروب مدى ستة وعشرين عاماً، وفشا في الدولة التفكك الاجتماعي بعد أن عمها الفساد الأخلاقي بتأثير الثروة التي جاءت في أعقاب النصر الحربي"[2].

المذاهب الغربية ومأزقها الأخلاقي

وما بين الحضارة الغربية التي قامت ولا تزال على فلسفة الأخلاق التي وضعها فلاسفة اليونان الأقدمين كأرسطو وأفلاطون وغيرهما، والأخلاق الإسلامية التي ما جاءت إلا لتُكمل محاسن الأخلاق وصالحها عامة ثم تحض على ثباتها واستمراريتها، كما نفهم من حديث نبينا r: "إنما بعثتُ لأتمم صالحَ الأخلاقِ"[3]. تسير البشرية اليوم بين طريقين نقيضين!
إنّ خطورة ضعف المسلمين اليوم، وتراجعهم أمام المأزق الأخلاقي العالمي الذي تفرضه أخلاق الحداثة المعاصرة، لا تنطوي آثاره على حضارتهم وأمّتهم – برغم مأساوية هذا الوضع – وإنما تتكشف هذه المأساة على العالم كله؛ ذلك أن الفلسفة الأخلاقية اليونانية دفعت الإنسان الغربي إلى تحقير ما دونه من أجناس أخرى، وتبرير استعمار واستغلال واستعباد غير الغربيين، يقول برتراند رسل: "لقد أخطأ اليونان خطأ فاحشًا حين أحسّوا شعور السيادة على الشعوب البربرية، ولا شكّ أن أرسطو قد عبّر عن فكرتهم العامة في ذلك حين قال: إن أجناس الشمال مليئة بشعلة الحياة، وأجناس الجنوب متحضّرة، واليونان وحدهم هم الذين يجمعون الطرفين، فشُعلة الحياة تملؤهم وهم في الوقت نفسه متحضّرون. وأفلاطون وأرسطو كلاهما قد ذهبا إلى أنه من الخطأ أن يُتّخذ من اليونان عبيد، لكن ذلك عندهما جائز بالنسبة للشعوب البربرية!"[4].
وسار الغربي المعاصر على درب أسلافه الأقدمين، وجل الأيديولوجيات والأفكار الأخلاقية التي انتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين وإلى الآن لم تخرج قيد أنملة عن التصورات اللا أخلاقية التي قعّدتها الفلسفة الأخلاقية اليونانية أم الفلسفات الغربية المعاصرة.
وقد تنوعت تلك المذاهب؛ ف"النفعية" تجلت عند بعض فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر، وفلاسفة الانجليز مثل بنثام وجون ستيورات مل في القرن التاسع عشر والعشرين، و"معالم المذهب النفعي تتلخّص في التقاء مفكريه على القول بأن اللذة أو المنفعة هي الخير المرغوب فيه، والألم هو الشر الذي يجب تفاديه، ومن ثم فإن المنفعة عندهم هي مقياس الخيرية"[5].
وفي القرن العشرين تفرّع المذهب النفعي فروعًا شتّى وانتصر له طائفة من الفلاسفة الأمريكيين بوجه خاص، ويتضح المذهب بصورة أوضح عند أحد كبار فلاسفته وهو وليم جيمس الذي يرى أن الخير يقوم في إشباع مطالب الإنسان وتحقيق رغباته، وجاء بعده جون ديوي الذي اعتبر الأفكار والمثل العُليا والمبادئ مجرد وسائل وذرائع يستعين بها الإنسان فيتوجّه سلوكه إلى حيث تتحقق مطالبه وغاياته[6].
أما ماركس زعيم الفلسفة الاشتراكية فبسبب اعتقاده في أن التقدم لا مندوحة عنه؛ ظنّ أنه من الممكن "الاستغناء عن الاعتبارات الأخلاقية؛ فإذا كانت الاشتراكية آتية فهي لابدّ أن تكون تحسينًا"[7].

الإسلام يُقدم الجواب!

في المقابل يقدم الدين الإسلامي الجواب الكافي حول سؤال الأخلاق؛ إنه لا يُقدم مادة وفيرة حول ماهية الأخلاق وأنواعها، وكيفية عملها في الإنسان وبالإنسان، وإنما يُقدم الحلول الناجعة للمشكلات الأخلاقية الفردية والجماعية والعالمية على السواء.
لقد كشفت الحضارة الإسلامية في سيرتها الأولى وما تلاها اتكاءها على الأخلاق والقيم والمثل النبيلة، تجلت هذه الحقيقة في سيرة النبي r وسنته والوحي الإلهي المنزل عليه، وكشف r أن خير الناس أحسنهم أخلاقًا، قال r: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقا"[8]، وفي رواية أخرى: "إن من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقا"[9]، وأمر r أن يتخلّق أصحابه وأتباعه بالخُلق الطيب، فقال في الحديث الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه عن النبي r: "قال لي رسول الله r: اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلق حسن"[10]. وبيّن r - خلافا للفلسفة اليونانية والغربية المعاصرة - أن الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى وهي مخافة الله تعالى، فقال r في حجة الوداع: "يا أيُّها النَّاس، ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلَّا بالتَّقوى، أبلَّغتُ؟"، قالوا: بلَّغَ رسول الله"[11].
وقدّم النبي r القدوة الأخلاقية، حتى إن الله تعالى صرّح بهذا في قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾[12]. وسار الصحابة - رضوان الله عليهم - على طريق النبي r، ولم يتجل نُبلهم وأخلاقهم فيما بينهم وفقط، وإنما في تعاملهم مع الآخر، في السلم والحرب، ولم تكن الحرب دافعة لهم لتجاوز ما اعتنقوه من أخلاق الإسلام، فنرى خليفة رسول الله r أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول ليزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - قُبيل خروجه لفتح الشام: "إني موصيك بعَشرٍ: لا تقتلنّ امرأة، ولا صبيًا، ولا كبيرًا هرما، ولا تقطعن شجرًا مُثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاة  ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نحلاً، ولا تُفرّقنّه، ولا تغلل، ولا تجبن"[13]. وهي الوصايا التي تكشف الهُوّة الأخلاقية - عند المقارنة – بين ما قام به الفاتحون المسلمون وما قامت به الدول الاستعمارية الغازية في العصر الحديث ولا تزال.
أما القرآن الكريم فهو دستور الأخلاق بحق؛ لأنه قد تميز عن الكتب والرسالات السابقة "بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقاً في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسّسين والمصلحين، الذين تباعد بعضُهم عن بعض، زماناً ومكاناً، وربما لم يترك بعضُهم أثراً من بعده يحفظ تعاليمه"[14].
وما بين دين وحضارة قامت على الأخلاق، وحضارة أخرى قامت على النفعية وتجنب سؤال الأخلاق ينزلق الإنسان المعاصر إلى هوة سحيقة من الانحلال والصراعات، طالما ظل الإسلام والمسلمون في موقع بعيد عن التأثير العالمي، هوّة أعلنها منظرو الغرب دون مواربة في أطروحات "نهاية التاريخ" و "صراع الحضارات"!

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي، شعبان 1436هـ/ مايو - يونيه 2015م





[1] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 6/365. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – تونس، 1988م.
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 12/304.
[3] مسند أحمد، ح (8939) 2/381. مؤسسة قرطبة للنشر. وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح قوي الإسناد.
[4] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود 1/251. لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة، 1967م.
[5] مصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص61. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 2004م.
[6] توفيق الطويل: الفلسفة الحديثة ص276، ومصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص66.
[7] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي 3/434. الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 1997م.
[8] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي r ح (3366). تحقيق مصطفى البُغا. دار اليمامة، الطبعة الثالثة – بيروت، 1987م.
[9] البخاري ح (3549).
[10] سنن الترمذي، ح (1987). تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[11] مسند الإمام أحمد 38/474، ح (23489). وقال الأرناءوط حديث صحيح الإسناد.
[12] (الأحزاب: 21).
[13] موطّأ الإمام مالك، رواية يحيى الليثي (965). تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[14] محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص8. مؤسسة الرسالة – القاهرة.

الاثنين، 27 أبريل 2015

تأملات في "التقوى"!

لا يزال الإنسان منا تتلاطمه أمواج الحياة بشواغلها وملاهيها حتى كأنه ينسى أو يُنسيه الشيطان سبب وجوده، وغاية خلقه؛ وبينما يخلو الإنسان بنفسه بين جنبات آي القرآن الحكيم، تتكشف أمامه حقيقة نفسه، وحقيقة التاريخ البشري، ومراد الرب من العباد؛ إنك ترى في هذا القرآن الكريم ربّاً عظيمًا محيطًا قيومًا، وسع كرسيه السموات والأرض، يعلم السر وما أخفى من السرِّ، فإذا بك تتمهّل، وإذا بك تراجع نفسك مليًا، فتتذكر أخطاءك وذنوبك، وكيف تجرأت على الخالق الذي سترك يوم كذا في ساعة كذا، حينها تتيقن أن التقوى التي ذُكرت في القرآن بمشتقاتها أكثر من 170 مرة لها من المكانة ما لها.
إن كلمة التقوى كانت من المفردات القرآنية الجديدة التي لم يعتد العربُ في جاهليتهم على سماعها، مثلها مثل كلمة الهداية والنفاق وغيرها من الألفاظ الإسلامية الجديدة التي أرادت أن تؤصّل واقعًا جديدًا طاهرًا لا يتوقف عند المادة وفقط، بل يخترق النفس وأسرارها، ويبحث عن القلب، الذي هو عماد الإنسان وبصيرته وعقله ومناط هدايته، ومستودع إيمانه!
فالمتَّقون هم الموصوفون بتقوى الله عزَّ وجلَّ. وأساس التَّقوى: خشية الله. ولذلك أشار النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى صدره، وقال ثلاث مرات: "التقوى ها هنا"[1]. والتقوى كما ذكر القرآن أصلها في القلب، وثمرتها على الجوارح بأداء الفرائض والنوافل، واجْتناب المحرَّمات، قال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]، ومن اللافت أن الإنسان يرتقي بتقواه، كما جاء في بعض الأحاديث: "لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين، حتى يَدَعَ ما لا بأس به، حذرًا لما به البأس"[2]، فالجنة لا يدخلها إلا المتقون!
إن حقيقة التقوى فعل المأمورات واجتناب المنهيات. وأفضل ما قيل فيها، ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حيث قال: التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل والاستعداد للرحيل.
فمن فعل ذلك فقد اتقى الله حق تقاته، فالخوف من الجليل وهو الله سبحانه وتعالى، والعمل بالتنزيل وهو الكتاب والسنة، والاستعداد للرحيل من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة وذلك بالعمل الصالح، وهذا كما في قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]،  فليكن شعار المؤمن دائماً تقوى الله في السراء والضراء في حالة غيبته عن الناس وفي حالة وجوده معهم، يتق الله بترك ما حرّم الله عليه، ويفعل ما أمره الله به، ويكثر من التوبة والاستغفار عما يحصل منه من التقصير[3].
وإن من فوائد التقوى وأد الفتن، والسعي لإصلاح ما بين الناس، قال التابعي الجليل طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى. قالوا: يا أبا علي: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
ومن اللافت أن الإسلام – خلافًا لملل ونحل وحضارات – قد جعل التقوى ميزانًا دقيقًا، ومعيارًا نافذًا لتصنيف الناس، ومقياسًا للحُكم عليهم، وهيأ لها أمينًا وأميرًا، إن أخَذ بها صلَح أمرُه كلُّه، وإن فرَّط فيها فسَد أمرُه كلُّه، ألا وهو القلب؛ فإن القلب أميرُ البدن وأمينُه؛ فإن عمّر الإنسانُ قلبَه بتقوى الله تعالى صلح قلبه، ومَن صلح قلبه صلحت سائر جوارح بدنه، ومَن فسد قلبه فسدت سائر جوارح بدنه، وعلامة فساد هذا القلب: تركُ التقوى، وهي رقابة الله جل وعلا، واستشعار معيَّته تعالى، فلا يراك - تبارك وتعالى - حيث نهاك، ولا يفقِدُك حيث أمرك، وهو العليمُ العلام الذي يعلم جهرك وسرَّك ونجواك[4].

نُشر في مجلة الوعي الشبابي الإلكترونية



[1]  رواه مسلم في البر والصلة (2564)، أحمد (8722)، عن أبي هريرة.
[2] رواه الترمذي في صفة القيامة (2451) وقال: حسن غريب.
[3] صالح الفوزان: معنى تقوى الله سبحانه وتعالى وثمراتها، موقع الشيخ الفوزان.
[4] عبد المنعم نعيمي: التقوى معيار الاحترام والمفاضلة بين الناس، مقال على موقع الألوكة.

الاثنين، 20 أبريل 2015

قصف التراث الإسلامي!

إن التراث هو تلك الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها لنا التاريخ كاملة أو مبتورة، فوصلت إلينا في صورة كُتب مخطوطة أو لفائف أو كرّاسات، وليس هنا حدود معيّنة لتاريخ أي تراث كان؛ فكلُّ ما خلّفه المؤلّف بعد حياته من نتاجٍ يُعدُّ تُراثًا فكريًا[1].
لكن التراث الإسلامي تعرّض لنكبات حقيقية ومفصلية في تاريخه الطويل، إننا يمكن أن نرجع لأول مصادر القوائم "الببليوجرافيا" التي كُتبت باللغة العربية، وهو كتاب "الفهرست"[2] لمحمد بن إسحاق النديم الذي ألّفه سنة 377هـ/987م جامعًا فيه أسماء معظم الدراسات التي كُتبت في عصره في مركز العاصمة العباسية بغداد في مجالات الدراسات الشرعية واللغوية والنحوية والأدبية والصوفية والمصنفات العامة والفرق والمذاهب والعلوم البحتة، لنرى أنه أحصى 8360 كتابًا ل 2238 مؤلِّفًا حتى الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري، لم يصلنا منها  سوى من 10 إلى 20% على الأكثر طبقا لما ذكره محقق الفرست العلامة الدكتور أيمن فؤاد سيد في سلسلة محاضرات عن "المخطوطات العربية" سمعتُها عنه في "معهد المخطوطات العربية" بالقاهرة، في نوفمبر 2013م.
وقد قاس على ذلك أساتذة المناهج التراثية والمخطوطات أن تراثنا الإسلامي في المجالات المختلفة لم يصلنا منه إلا الخُمس تقديرًا، ما يعني أن أكثر من 80% من تراثنا لا يزال مفقودًا!
رسم بالخط العربي لشكل طائر تعود إلى سنة 1177هـ/1763م
وبالرغم من ذلك فثمة بعض الإضاءات والمجهودات الجبّارة التي حاولت ولا تزال إحياء التراث الإسلامي المخطوط من خلال فهرسة المخطوطات وترميمها وحفظها في كل المكتبات والمعاهد العلمية المتخصصة في هذا المجال، ولعلّ أشهر مؤلّفين قاما بجمع مظانّ التراث العربي المخطوط في مكتبات العالم تمثّلت في "تاريخ الأدب العربي" للمستشرق الألماني كارل بروكلمان الذي حظي كتابه ولا يزال باهتمام الباحثين في الدراسات التراثية، وكتاب العلامة التركي فؤاد سزجين الذي استدرك ما فات بروكلمان في كتابه "تاريخ التراث العربي" وقد جاء في عشرة أجزاء، نال صاحبها جائزة الملك فيصل العالمية لمجهوده الجبّار في هذا الكتاب، حيث توقف للأسف الشديد عند سنة 430هـ/1038م.
نعود فنقول؛ إن المأساة التي نكبت بالتراث الإسلامي ترجع لعدة أسباب سياسية واقتصادية وعسكرية وفكرية في مجملها، وقد اتخذت أشكالاً متنوعة في التاريخ الإسلامي وفي العصر الحديث.
نهبُ التراث قديمًا
يمكن من خلال التأمل في حادثتين مهمتين في تاريخ الحضارة الإسلامية في المشرق والأندلس أن نكشفَ الأسباب التي دفعت إلى القضاء على شطر كبير من التراث الإسلامي، وهما:
1.    الصدام العسكري: الذي قام به المغول في بلاد المشرق الإسلامي مثل مرو وخوارزم، قال المؤرخ الأمريكي ول ديورانت: "كان المغول يضعون الأسرى في مقدمة جيوشهم ويخيرونهم بين قتال مواطنيهم-من أمامهم أو قتلهم من خلفهم. وفتحت مرو خيانة وأحرقت عن آخرها، ودمرت في اللهب مكتبتها التي كانت مفخرة الإسلام"[3]. فضلا عن إشراف وزيرهم نصير الدين الطوسي في بغداد على عملية نهب منظّمة لمكتبات بغداد، قال الصفدي (ت764هـ): "فابتنى بمدينة مراغة قبة ورصدًا عظيمًا واتّخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمع فيها زيادة على أربع مائة ألف مجلد"[4].
2.    الصدام الحضاري والديني: الذي قام به الإسبان مع التراث الأندلسي؛ فقد "أبدت السياسة الإسبانية اهتماماً خاصاً بالقضاء على تراث الأندلس الفكري، وبدأت بارتكاب فعلتها الشائنة فى سنة 1499 م أعنى لأعوام قلائل من سقوط غرناطة، فجمعت الكتب العربية، وأحرقت بأمر الكردينال خمنيس حسبما فصلنا من قبل، ولم تبق معاول التعصب والجهالة إلا على بقية صغيرة من الكتب العربية، جمعت فيما بعد من مختلف الأنحاء، وأودعت أيام فيليب الثاني في قصر الإسكوريـال على مقربة من مدريد، وحُجبت عن كل باحث ومتطلع. وفى أوائل القرن السابع عشر، وقع حادث كان سبباً في مضاعفة المجموعة العربية الإسبانية. ذلك أن السفن الإسبانية استطاعت أن تأسر مركباً مغربية لمولاى زيدان ملك المغرب كانت مشحونة بالكتب ومختلف التحف، و"من جملتها ثلاثة آلاف سِفْر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك"[5]. وتضع الرواية الإسبانية تاريخ هذا الحادث في سنة 1612 في عصر فيليب الثالث، وذلك حينما اشتد اضطراب العلائق بين اسبانيا والمملكة المغربية. وقد حملت هذه المجموعة النفيسة من الكتب العربية إلى اسبانيا، وأودعت قصر الإسكوريـال، إلى جانب بقية التراث الأندلسي التي كانت مودعة فيه منذ أيام فيليب الثاني. وكانت مجموعة مولاي زيدان المغربية تحتوى عدد كبير من الكتب الأندلسية التي كثر استنساخها، "اقتنائها بالمغرب، بعد سقوط غرناطة. ولبثت هذه المجموعة من المخطوطات العربية الأندلسية مودعة بمكتبة الإسكوريـال الملكية حتى أواسط القرن السابع عشر، وكانت تبلغ يومئذ عدة آلاف، وكانت أغنى وأنفس مجموعة من نوعها بإسبانيا. ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس. ففي سنة 1671 شبت النار في الإسكوريـال، والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين، هي التي مازالت تثوى حتى اليوم في أقبية مكتبة الإسكوريـال التي يُشرف عليها الآباء الأوغسطنيون. وكانت الحكومة الإسبانية أثناء هذه العصور تحرصُ على إخفاء الآثار العربية عن كل قارىء"[6].
الغارة على التراث حديثًا
أما الغارة على التراث الإسلامي حديثًا، فاتخذت منحىً آخر، لم يكن بالاستيلاء على المخطوطات الإسلامية بالسرقة فقط كما فعل المستشرقون ولصوص المخطوطات الإسلامية من قراصنة الغرب الثقافي، وإنما بأداة أشد نكاية تمثّلت في ليّ عنق هذا التراث والهجوم عليه بلا هوادة من المدرسة العلمانية بفرعيها الليبرالي واليساري.
وفي كتابه "شهادة العصر والتاريخ" يقرر الأستاذ أنور الجندي ذلك- بعد رحلة عطاء في مجال الفكر الإسلامي بلغت خمسون عامًا - بقوله: "تكشَّفَت لي أبعاد هذه المؤامرة الخطيرة التي بدأها مخطط عنوانه (حرب الكلمة)، وذلك بعد هزيمة الغرب في الحروب الصليبية، في دعوة عريضة للعمل على إعلان حرب تقوم على تزييف مفاهيم الإسلام وتدمير قيمه؛ وذلك عن طريق التأويل والتمويه في محاولة لإخراج الإسلام من ذاتيته الخاصّة، وتميّزه المتفرد"[7].
لقد حمل لواء الهجوم على التراث الإسلامي زمرة من المستشرقين – لا نقول جل المستشرقين – الذين عكفوا بجد يُحسدون عليه على التراث الإسلامي؛ قراءة واستيعاباً وفهمًا، وسفراً مضنيًا ليكتشفوا ما فيه، ويقدّموه لأقوامهم. على أنهم قدّموا لهم "أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قومٌ بُداةٌ جُهّال لا علم لهم كان، جياعٌ في صحراء مُجدبة، جاءهم رجل من أنفسهم فادّعى أنّه نبيٌّ مرسلٌ، ولفَّق لهم دينًا من اليهودية والنّصرانية، فصدّقوه بجهلهم واتّبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يفتحونها بسيوفهم، حتى كان ما كان، ودان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافةٌ وحضارةٌ جُلّها مسلوب من ثقافات الأمم السالفة كالفُرس والهند واليونان وغيرهم، حتّى لغتهم كلُّها مسلوبة وعالةٌ على العبرية والسُّريانية والآرامية والفارسية ..."[8]. ويستطرد العلامة محمود شاكر رحمه الله في كشف طرائق هجوم هؤلاء المستشرقين على التراث الإسلامي والإسلام ذاته بخبرته المعهودة في المجال التراثي والاستشراقي على السواء.
لكن هؤلاء المستشرقين الكبار فرّخوا لنا من أبناء جلدتنا مجموعات سارت على دربهم في النيل من التراث بلا هوادة، وساعدهم في هجومهم ذاك، تملّكهم لزمام وسائل الإعلام، ومنابر الثقافة في البلدان العربية والإسلامية، فصار ضجيجهم أقوى، وطنينهم يُشوّش على الناس فهمهم، ويخلخل لديهم الثقة في تراثهم.
إننا يمكن أن نُلخّص مظاهر الهجوم على التراث الإسلامي في العصر الحديث من خلال ثلاثة مظاهر جلية، وهي:
1.    سرقة الاحتلال الغربي وأذرعه من المبشّرين والمستشرقين للتراث الإسلامي من مخطوطات وتحف وذخائر[9].
2.    الجهل بالتراث الإسلامي روحًا وفكرًا ومصطلحاتٍ بل وتحريفه من قِبل كثير من المستشرقين[10].  
3.    العداء للتراث الإسلامي من العلمانيين بكافة أطيافهم، إما بالتأويل الحداثي المناقض لبنية التراث وأهدافه، أو بالهجوم المباشر والنيل منه بالسخرية والاستهزاء[11].
لقد كان للعوامل السياسية والمذهبية والعسكرية والطبيعية، والصدام الحضاري بين المسلمين والمغول والمسلمين والصليبيين والمسلمين والبيزنطيين، فضلاً عن سرقة المخطوطات الإسلامية في عصر الغفلة الذي انتاب الأمة المسلمة في القرون الأربعة الأخيرة دوره في عمليه قصف التراث الإسلامي، ولم يخرج الاحتلال من بلادنا إلا وقد زرع مجموعات "وظيفية" استكملت مهمة القصف والنيل من التراث الإسلامي، إما جهلاً بالتراث أو عداءً له، ولكن بالرغم من هذه المحاولات العاتية المستمرة منذ قرنين على الأقل، فإن أجيالاً جديدة من الباحثين المسلمين، وطلبة العلم المجدين صار لهم الفضل في الحد من هذا العدوان، بل وتفكيكه، على أن هؤلاء المدافعين في حاجة إلى الدعم المادي والمعنوي من الحكومات والأفراد.

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي - عدد رجب 1436هـ / إبريل 2015م



[1] عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي؛ منهجه وتطوره ص12. دار المعارف – القاهرة.
[2] النديم: الفهرست، تحقيق أيمن فؤاد سيد، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي – لندن، 2009م.
[3] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 13/378. دار الجيل – بيروت، 1988م.
[4] الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى 1/147. دار إحياء التراث – بيروت، 2000م.
[5] السلاوي: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري 6/70. دار الكتاب – الدار البيضاء.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/504. مكتبة الخانجي، الطبعة الرابعة – القاهرة، 1997م.
[7] أنور الجندي: شهادة العصر والتاريخ ص3. دار المنارة، الطبعة الأولى – جدة، 1993م.
[8] محمود محمد شاكر: المُتنبى "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" ص59، 60. دار المدني – جدّة، 1987م.
[9] مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون؛ مالهم وما عليهم ص19. دار الورّاق للنشر والتوزيع.
[10] عبد العظيم الديب: المستشرقون والتراث ص26 وما بعدها. دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الثانية -  المنصورة، 1992م.
[11] إبراهيم بن عمر السكران: مآلات الخطاب المدني ص129 وما بعدها. دار الوعي للنشر والتوزيع – الرياض، 1435م. وللمؤلّف نفسه: التأويل الحداثي للتراث؛ التقنيات والاستمدادات ص133 وما بعدها. دار الحضارة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى – الرياض، 2014م.