الاثنين، 6 أبريل 2015

الذوقُ العام في حضارتنا!

حين كتب المستشرق الجاد مايكل كوك كتابه المهم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، كان دافعه من وراء هذا العمل الذي استمر معه لمدة عشر سنوات كاملة هي تلك الحادثة التي قرأ عنها في الصحف الأمريكية عن تلك المرأة التي اغتُصبت على مرأى من الجميع في محطة قطار شيكاغو سنة 1988م، وما تدخّل عشرات المشاهدين لإنقاذها أو ردع الجاني، "وماذا يعنيه ذلك في سياق المسئولية الأخلاقية والقانونية والدينية العامة"[1]. ثم انتقاله في بداية كتابه الآنف إلى قصة "صائغ مرو" الذي تصدّى لأبي مسلم الخراساني بطل الثورة العباسية؛ لردعه عن الظلم ففقدَ حياته استنادًا لاعتقاده بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارنته بين تلك الحادثتين، وما ترتّب عليه من تتبع كوك على مستوى الطرائق الفيلولوجية - التي انتهجها من قبله مستشرقو القرن التاسع عشر والعشرون في دراساتهم حول التراث الإسلامي – في القرآن الكريم والحديث النبوي والمذاهب الفقهية والكلامية والمدارس الإسلامية المعاصرة، فخلص إلى تلك النتيجة التي فصّلها حجة الإسلام الغزالي (ت505هـ) في "إحياء علوم الدين"، في الفصل الذي عقده باسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ إذ قال رحمه الله: "إن الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ هُوَ الْقُطْبُ الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين"[2].
الإطار الأخلاقي النظري
لقد رأى ذلك الباحث الأمريكي كوك أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو المبدأ الذي ميّز الأمة المسلمة عن أمته الغربية؛ فهو يعترف بصراحة تُحسب له أنه "ليست لدينا [في الغرب] في حياتنا اليومية مصطلح يشرح هذا الواجب، كما ليست لدينا نظرية عامة حول الأوضاع التي ينطبق عليها، والإرغامات التي تُسقطة. إن القيمة الأخلاقية موجودة عندنا، لكنها ليست من القيم التي أولتها ثقافتنا صياغة متطورة ومتكاملة"[3].
في المقابل، فإن من يبغي فهم قضية الذوق العام واللياقة في ديننا الحنيف لن يجد أفضل من مدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناه الأعم الأشمل، للفهم والاستيعاب، وربما الدهشة التي تُصيب القارئ والباحث على السواء لمدى الشمولية التي تُملس في هذا المبدأ الإلهي العظيم!
واستقاء هذا المبدأ كغيره من المبادئ الأخرى في الإسلام إنما يتكئ على القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو مما لا يُحصى ولا يُحصر، والآية القرآنية الجامعة التي تكشف عن أن خيرية الأمة المسلمة إنما يرتبطُ بتمسّكها بهذه الوظيفة الحضارية والأخلاقية على المستوى الفردي والجمعي على السواء كاشفة لذلك؛ إذ قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[4]. وقد علّق الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – على هذه الآية بقوله: "سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن يُنتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها. ليدلها على أنها لا توجد وجوداً حقيقياً إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تُعرف بها في المجتمع الإنساني"[5].
والحق أن حجة الإسلام الغزالي كان من أوائل من عكفوا على فهم النظرية الأخلاقية في القرآن الكريم وأثرها العملي على الذوق والسلوك العام، وذلك في كتابه "جواهر القرآن"، وقد ردّ جوهر هذه النظرية إلى عُنصرين أساسيين يتصل أحدهما بالمعرفة، ويتصل الآخر بالسلوك، وانتهى إلى أن حصر في القرآن من النوع الأول سبعمائة وثلاثًا وستين آية؛ كما حصر من النوع الثاني سبعمائة وإحدى وأربعين آية[6].
أما الأحاديث النبوية الشريفة فهي كثيرة للغاية، لعلّ أشهرها قوله r: "من رأى منكم مُنكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبِه وذلك أضعف الإيمان"[7]، وهذا الحديث الشريف من جوامع الكلم في قضية الذوق العام واللياقة؛ إذ تركُ الحرية للمفسدين أو المنحلين على إطلاقها مفسدة للمجتمع؛ والإنسان بطبعه متعجّل للمعصية قبل الطاعة، كما أخبرنا تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[8]، ولو لم يجد هؤلاء المفسدون من يقف لهم آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، لاستشرى فسادهم.
من النظرية إلى العمل!
إن أهمّ ما يميّز الحضارة الإسلامية أنها كانت على المستوى العملي نموذجًا فذًا لتطويع الحركة البشرية فكرًا ومادةً لخدمة الوحي الشريف؛ ونظرًا لأن قضية الذوق والسلوك العام، كانت قد تجلّت في آي الذكر الحكيم، وأقوال وأفعال النبي r وخلفائه من بعده؛ فقد برزت بمرور الوقت، ونضوج الفكرة، مسألة الاحتساب كسلوك واقعي، وانتقل الأمر من طور الفردانية إلى عمل مؤسسي جاد له ضوابطه وقواعده الواضحة، بل لم يتوقف الأمر عند ذلك إذ صار الاحتساب وظيفة لا غنى للدولة الإسلامية عنها، ثم شُرع في وقت لاحق في الكتابة المتخصصة عن الدور الأخلاقي والتعريف المنطقي لهذه المؤسسة، فظهرت مؤلفات الاحتساب في حقل الآداب والأخلاق العامة، وربما وجدناه في حقل السياسة الشرعية وآدابها.
أما الأمثلة التاريخية على هذا فأكثر من أن تُحصى في مجلد فضلاً عن مقال، لقد حكى الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" أن رجلا يُدعى "أبا الحسين النوريَّ اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاَّح (بحَّار) فقال: ما هذا؟ ولمن هذا؟ فقال له: هذه خمر للمعتضد [الخليفة العباسي]. فصَعِدَ أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان (أوعية ضخمة) بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دنًّا واحدًا تركه، واستغاث الملاح، فجاءت الشرطة، فأخذوا أبا الحسين، فأوقفوه بين يدي المعتضد، فقال له: ما أنت؟ فقال: أنا المحتسب. فقال: ومن ولاَّك الحسبة؟ فقال: الذي ولاَّك الخلافة يا أمير المؤمنين. فأطرق رأسه، ثم رفعه فقال: ما الذي حملك على ما فعلت؟ فقال: شفقة عليك؛ لدفع الضرر عنك. فأطرق رأسه، ثم رفعه، فقال: ولأي شيء تركت منها دنًّا واحدًا لم تكسره؟ فقال: لأني إنما أقدمتُ عليها فكسرتها إجلالاً لله تعالى، فلم أُبَالِ أحدًا، حتى انتهيتُ إلى هذا الدنِّ دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أَقْدَمْتُ على مثلك فتركته. فقال له المعتضد: اذهب، فقد أطلقت يدك، فغيِّر ما أحببتَ أن تُغَيِّره من المنكر. فقال له النوري: الآن انتقض عزمي عن التغيير. فقال: وَلِمَ؟ فقال: لأني كنتُ أُغَيِّرُ عن الله، وأنا الآن أُغَيِّر عن شرطي. فقال: سَلْ حاجتك. فقال: أحبُّ أن تُخْرِجَني من بين يديك سالمًا. فأمر به فأُخْرِج فصار إلى البصرة، فأقام بها مختفيًا؛ خشية أن يشقَّ عليه أحدٌ في حاجة عند المعتضد، فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد"[9].
لقد تدخلت وظيفة المحتسب في كل ما من شأنه المحافظة على الذوق والسلوك العام، ومن أعجب ما نقرأ؛ ما وضعه ضياء الدين ابن الإخوة (ت729هـ) في كتابه "معالم القربة في طلب الحسبة" في فصل "في الحِسبة على مؤدِّبي الصبيان" حيث قال: "يُشترط في المعلِّم أن يكون من أهل الصَّلاح والعفَّة والأمانة؛ حافظًا للكتاب العزيز، حسن الخطِّ ويدري الحساب، والأولى أن يكون مُزوَّجًا، ولا يُفسح لعازبٍ أن يفتح مكتبًا لتعليم الصِّبيان إلَّا أن يكون شيخًا كبيرًا، وقد اشتهر بالدِّين والخير ومع ذلك فلا يؤذن له بالتَّعليم إلَّا بتزكيةٍ مرضيَّةٍ وثبوت أهليَّته لذلك. وينبغي للمؤدِّب أن يترفَّق بالصَّغير ... ولا يضرب صبيًّا بعصًا غليظةٍ تكسر العظم، ولا رقيقةٍ لا تؤلم الجسم بل تكون وسطًا ... وينبغي للمؤدِّب أن لا يستخدم أحد الصِّبيان في حوائجه وأشغاله الَّتي فيها عارٌ على آبائهم كنقل التُّراب والزِّبل وحمل الحجارة وغير ذلك، ولا يرسله إلى داره وهي خاليةٌ لئلَّا يتطرَّق إليه التُّهمة ..."[10]. وهذا الكتاب يُعدّ من أروع ما كُتب في قضية الذوق العام وضوابطها فضلاً عن مؤلفات أخرى سبقته مثل كتاب "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة" للشيزري (ت590هـ).
لا ريب أن نظام الحسبة في الإسلام – كما يقول العلامة مصطفى الشكعة - "هو ذروة ما يمكن أن يفكِّر فيه الحكم الحصيف؛ للحرص على راحة الناس وأَمْنِهِم ودِعَتِهم، والحفاظ على رفاهيتهم، وتجنيبهم كل أسباب القلق والضيق، وحماية المجتمع أدبيًّا ومعنويًّا ومادِّيًّا، حمايةً مبسوطة كل البسط، غير محدودة بحدود، ولا مُقَيَّدة بقيود، إلاَّ حدود الأمن وقيود الذوق، ولا نكاد نجد حَكَمًا معاصرًا في أية دولة معاصرة يستعمل مثل هذا الأسلوب من أساليب حماية المواطنين في نطاق وظيفة بِعَيْنِهَا، مثل وظيفة الحسبة وصاحبها المحتسب"[11].

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي، عدد جمادى الآخرة 1436هـ/ إبريل 2015م.



[1] مايكل كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي، مقدمة رضوان السيد ص20. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية – بيروت، 2013م.
[2] الغزالي: إحياء علوم الدين 2/306. دار المعرفة – بيروت.
[3] كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ترجمة رضوان السيد وآخريْنِ ص25.
[4] (آل عمران: 110).
[5] سيد قطب: في ظلال القرآن 1/448. دار الشروق، الطبعة السابعة عشر – القاهرة، 1412هـ.
[6] محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن، ترجمة عبد الصبور شاهين ص5. مؤسسة الرسالة، الطبعة العاشرة – بيروت، 1998م.
[7] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (78). تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[8] (الشمس: 8).
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 11/89.
[10] ابن الإخوة: معالم القربة في طلب الحسبة ص170، 171. دار الفنون، كامبردج.
[11] مصطفى الشكعة: معالم الحضارة الإسلامية ص84.

الأربعاء، 11 فبراير 2015

أزمة الجزيرة العربية مع دول الطوق

ليس ثمة شك في أن ما تتعرض له دول الجزيرة العربية في السنوات القليلة الماضية هو تحدٍّ خطير وجوهري على المستوى الإقليمي والقُطري القريب؛ ذلك أن دخول الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط نظام صدّام منذ العام 2003م، وفشلها على مستوى ضبط الأوضاع الأمنية والسياسية في هذا البلد شديد التباين على المستوى العقدي والاجتماعي والسياسي قد أدى إلى اختلال البنية الاجتماعية للدولة العراقية وتشظيها.
لقد أدّت سيولة الأوضاع السياسية والأمنية التي أعقبت تفكيك الجيش العراقي على يد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر، إلى تعزيز انتشار السلاح بكافة أنواعه، وظهور المليشيات المسلحة التي تخدم أجندات متباينة من أول العقيدة ونهاية بالمصالح وآبار النفط ومناطق النفوذ، الأمر الذي ترتّب عليه رجحان كفة الطائفة الشيعية، وانتقال المظلومية منهم لأول مرة عبر التاريخ إلى السنة، ولمدة عقد من الصراع، تطورت الحركات الجهادية السنية العراقية، ولاقت أرضًا خصبةً ، وربما حاضنة شعبية، وتعزّزت قوة تلك الحركات المسلحة بظهور الثورة السورية وتسلّحها، ثم بإسقاط الحدود بين الجانبين على يد تنظم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
ولأول مرّة منذ حرب الخليج باتت المشيخات والممالك الخليجية عُرضة لذلك التحدي الجوهري من الشمال، فتارة تهدد بعض المليشيات الشيعية مثل "حزب الله العراقي" دولاً مثل السعودية، وتارة يهدد تنظيم الدولة ذات المملكة السعودية، وكلا الفريقين يرى في المملكة عدوًا وجارًا يضر بمصالحه، وتعزّز هذا مع انضمام عدد من دول الخليج إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
لم تتوقف التهديدات في الشمال فقط، وإنما أدى سوء السياسة الخليجية في دولة مهمة وإستراتيجية مثل اليمن إلى فشل الثورة اليمنية، ورجحان كفة جماعة "أنصار الله"/الحوثي إلى السيطرة على مناطق شمال اليمن، ثم السيطرة على العاصمة صنعاء في 22 سبتمبر 2014م، وأصبح الوضع اليمني على شفا بركان شبيه بدرجة كبيرة للغاية بالوضع العراقي والسوري.
تواجه الدولة اليمنية – إن صحّ توصيفها بالدولة – عدة تحديات بنيوية خطيرة للغاية، فجماعة الحوثي تسيطر على محافظات الشمال المحاذية للمملكة السعودية، في حين يقف أنصار الحراك الجنوبي وجماعة "أنصار الشريعة"/القاعدة ضد رغبة الحوثيين الطامعة في الاستيلاء على اليمن.
لقد تمكن الحوثيون من الاستيلاء على عدد من الألوية العسكرية في عمران وصنعاء وغيرها بما في ذلك مخازن الأسلحة، وربما عن قريب سنشهد استيلاء الحوثي على طائرات ومطارات عسكرية مما سيغيّر من موازين القوى بلا شك، وتواجه معه الدولة اليمنية مزيدًا من السيولة السياسية، والتردّي الأمني الخطير الذي لن تقف خطورته على الأوضاع الداخلية اليمنية، بل سنرى خطورتها على مضيق باب المندب المدخل الأهم لتجارة البحر الأحمر، وعنق قناة السويس، ثم الخطورة التي قد تشهدها الحدود السعودية والعُمانية مع اليمن.
بالطبع يمكن أن يُعزى فشل السياسة الخليجية في دول الطوق الخليجي (العراق – سوريا – اليمن) إلى ما يمكن تسميته بالحرب الباردة بين السعودية وإيران، ونجاح المشروع الإقليمي الإيراني حتى الآن في دعم وتثبيت أذرعه الإقليمية في تلك الدول، لكن لا يُمكننا تجاهل اختلال السياسة الخليجية في ملف العلاقات الخارجية بدول الطوق المحيطة بها دون فهم الدور الأمريكي في هذا الملف المهم والمحوري.
إن تشظي الحالة السياسية والأمنية في دول العراق وسوريا واليمن سينعكس بمردود سيء للغاية على الجزيرة العربية، وخاصة الدولة السعودية التي تمتد حدودها مع العراق لمسافة تقارب ال900كم في الشمال، وحدودها مع اليمن في الجنوب لمسافة 1460كم، والكويت التي تقع حدودها الشمالية كلها مع العراق وتمتدّ لمسافة 190كم وربما على عُمان التي تمتد حدودها مع اليمن لمسافة 288كم.
ولا شك أن دول الخليج تسعى بصورة جاهدة لتأمين حدودها مع مناطق التوتر كما في العراق واليمن، فقد بدأت المملكة السعودية إطلاق مشروع "السياج الأمني" لمسافة 900كم على الحدود الشمالية، ويضم المشروع 8 مراكز للقيادة والسيطرة و32 مركز استجابة على طول الحدود مجهزة بثلاث فرق للتدخل السريع و38 بوابة خلفية وأمامية مزودة بكاميرات مراقبة وعدد أبراج المراقبة والاتصالات بالمشروع 78 برجاً منها 38 برج اتصالات و50 كاميرا نهارية وليلية و40 برج مراقبة و85 منصة للمراقبة و10 عربات مراقبة واستطلاع، وكان الملك المتوفى عبد الله بن عبد العزيز قد افتتح المرحلة الأولى منه في سبتمبر 2014م، وبُدئ العمل فيه في شهر يونيه من نفس العام، بعد ظهور خطر تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان قد تمكن من الاستيلاء على الموصل ثاني أهم وأكبر المدن العراقية آنذاك، لكن حادثة عرعر التي وقعت في بدايات يناير 2015م وأدت إلى مقتل قائد حرس الحدود الشمالية السعودية العميد معوض البلوي وعدد من مساعديه على يد انتحاري وعدد من المقاتلين الآخرين القادمين من العراق، قد فتح الباب مجددًا حول جدوى مشروع "السياج الأمني السعودي" مع العراق!

ومهما يكن من أمر، فإن التحديات الخارجية القادمة من دول الطوق على الجزيرة العربية غير مستبعدة إطلاقًا، ولأول مرة تقف الجزيرة العربية حائرة بين تنظيمات سنية معادية، وتنظيمات شيعية متربصة، وكلّ منهما في الشمال والجنوب يتزايد نفوذه، وتتضاعف قوته التسليحية والعددية يومًا بعد يوم!

نُشر في موقع ساسة بوست الإلكتروني

الأربعاء، 4 فبراير 2015

من دوافع العنف لدى الشباب!

العنف ظاهرة قديمة، يمكن للمرء أن يلحظ ذلك بكل سهولة حينما يطالع مصدرًا من مصادر التاريخ العام لدى أي حضارة من الحضارات، والإنسان بطبعه كائن مركب يميل إلى الفجور أكثر مما يميل إلى التقوى، ولما كان الشباب ذروة القوة لدى الإنسان، تجلّت هذه الظاهرة بوضوح.
أرقام مفزعة!
لقد جاء في تقرير صحيفة وقائع التابعة لمنظمة الصحة العالمية الصادر في أغسطس 2011م، حول عنف الشباب أنه "يُسجّل كل عام في جميع أنحاء العالم، حدوث نحو 250,000 جريمة قتل بين الشباب من الفئة العمرية 10-29 سنة، ممّا يمثّل 41% من العدد الإجمالي لجرائم القتل التي تحدث سنوياً على الصعيد العالمي. وتتباين معدلات القتل التي تُسجّل بين الشباب، بشكل كبير، بين البلدان وداخلها. غير أنّ الذكور يشكّلون، في كل البلدان، معظم مقترفي جرائم القتل وضحاياها. أمّا معدلات جرائم القتل المُسجّلة بين الإناث فهي أكثر انخفاضاً بكثير في كل الأماكن تقريباً. ولوحظ، في الفترة بين عامي 1990 و2004، ارتفاع معدلات جرائم القتل المُسجّلة بين الشباب في كثير من البلدان النامية، وانخفاضها في عدة بلدان متقدمة"[1].
ونتيجة لهذه الأرقام المرعبة، فيجب أولاً أن نعرف ماهية العنف لدى علماء النفس والاجتماع لنرصد أهم أسبابها ودوافعها في المنطقة العربية.
ماهية العنف
يقدم علم النفس عدد من النظريات التي تفسّر حدوث العنف، فوفق النظرية  البيولوجية فإن العنف ينشأ نتيجة عمليات التطور في الإنسان، بالإضافة لكونه تعبير عن الطاقة الداخلية للفرد. بينما تري النظرية النفسية الاجتماعية أن العنف غريزة تدميرية ملتصقة بالفرد بصورة جِبلّية، أو هو تقليد لنماذج العنف التي يراها الشاب في مجتمعه وخاصة المواد الإعلامية العنيفة التي تبثها وسائل الإعلام على مدار الساعة، وهناك وجهة نظر أخرى ترى أن هناك بعض المنظمات الاجتماعية بالمجتمع تدعم وتشجّع العنف، كتشجيع أولياء الأمور أبنائهم على الاعتداء على الآخرين، أو على الممتلكات العامة، و هناك العنف الذي يصدر نتيجة للشعور بالإحباط الذي يسيطر على الفرد عندما لا يحقق بعض احتياجاته المشروعة كالزواج  وبناء أسرة، وكذلك هناك العنف الذي يصدر عن الشباب كردة فعل مضادة لعنف يمارس ضدهم من بعض القوى في المجتمع، وهذا العنف هو المسبب الرئيسي للعنف في مجتمعاتنا العربية[2]
على أننا سنقف مع سببين رئيسيين من أسباب انتشار العنف بين الشباب العربي والإسلامي، وهما: الفراغ، والقراءة المعوجة لنصوص الدين، بغية الوقوف أمامها ومعالجتها من العقلاء والنابهين.
إشكالية الفراغ
غالبًا ما يكون وقت الفراغ هو الوقت الذي يتحرر فيه الفرد من المهام الملتزمة بأدائها بصورة مباشرة وغير مباشرة.
ومما يُنتبه له، أن رسول الله r قد حذّر من ضياع الفراغ فيما لا يفيد، فدعا إلى استثماره، ونعته بالنعمة، فقال r: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"[3].
 على أننا يجب أن نتفهّم أن الفراغ الفكري كذلك هو الأشد خطورة وأحد الأسباب الرئيسة في تكوين ظاهرة العنف لدى الشباب، فالفراغ الفكري ليس مقصوده خلو عقل الإنسان من المعلومات، وإنما خلو عقله من الفكر الذي هو ناتج عن جمع معلومات من مصادر مختلفة وتحليلها والاستفادة منها والخروج بقناعات وثوابت فكرية محددة.
ويشير بعض الباحثين إلى أن الفراغ الفكري يرجع إلى:
1-    الجهل الناتج عن الأمية الفكرية.
2-    عدم وجود التوعية الأبوية الكافية منذ الصغر.
3-    عدم مبالاة الإنسان بالأحداث التي تجري حوله والاستفادة منها.
4-    عدم وجود مناعة فكرية تقي العقول من الغلو والإفراط الفكري[4].
العنف باسم الدين!
إن أشد التحديات التي تواجه الشباب المسلم اليوم، والتي توصله إلى العنف باسم الدين، غالبًا ما تكون بسبب القراءة المنقوصة للنصوص، وهي التي تنبع إما من غرور أو هوى أو قراءة خاطئة للنصوص الشرعية وخلل في فهمها.
فالهوى هو ما تدفع به النفس صاحبها لتحقيق حظوظها، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، وخاطب به نبي الله داود بقوله: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [5].
ولقد رأينا الأهواء ممزوجة بلباس زائف من الدين في أمثلة عديدة من التاريخ، فالذي قتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه هو عمرو بن الحمق الذي ظن أنه فعل ذلك ديانة، وقد طعنه تسع طعنات، وقال حينما طعنه :"فأما ثلاث منها فإني طعنتها إياه لله، وستٌ لِما كان في صدري عليه"[6]!
ولذلك حذّر الإمام الشاطبي من أصحاب الأهواء، فقال:"فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان ولايكترث بمن خالفه"[7].
وثمة إشكالية أخرى، تتسبّب في ذلك، هي اعوجاج منهج الشاب في التلقي الشرعي والديني سواء من المجاهيل أو الوسائل الإعلامية والتوعوية غير المنضبطة، لذا الأصل في منهج التلقي أن يكون عن القرآن والسنة والأئمة العدول، والالتزام بقواعد الاستدلال الشرعي، والمتأمل في الوقائع يجد أن أكثر من ترك الحق أو صدَّ عنه، واتبع الباطل كان سببه هذا الخلل[8].
ومما يُروى عن نتائج هذا الاعوجاج في التلقي، وسوء الفهم عن الله ورسوله r، ما ذكره ابن قتيبة أن "واصل بن عطاء كان في رفقة فلقيهم ناس من الخوارج، فقالوا لهم: من أنتم؟ قال لهم واصل: مستجيرون حتّى نسمع كلام اللّه، فاعرضوا عليّنا. فعرضوا عليهم فقال واصل: قد قبلنا. قالوا: فامضوا راشدين. قال واصل: ما ذلك لكم حتى تبلغونا مأمننا. قال اللّه تعالى: "وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه ثم أبلغه مأمنه" فأبلغونا مأمننا. فجاءوا معهم حتى بلغوا مأمنهم"[9]، وهي الحكاية التي تتكرر بتكرر سنة سوء الفهم عن الله ورسوله في كل زمان ومكان!
آثار العنف الشبابي
إن آثار العنف الشبابي على المجتمعات العربية شديدة الخطورة، وعلى رأسها ذلك العدد المفزع من حالات القتل السنوية، لكن الأشد خطورة هو أولئك الذين مروا بتجارب العنف ولم يلقوا حتفهم، فلقد ذكرت منظمة الصحة العالمية في تقريرها لعام 2011م "أنّ حالات العنف غير المميتة المُسجّلة بين الشباب لا تسهم بقدر وافر في العبء العالمي الناجم عن الوفيات المبكّرة والإصابات والعجز فحسب، بل تلحق أيضاً بوظائف الشخص النفسية والاجتماعية آثاراً خطيرة تدوم مدى الحياة في غالب الأحيان. ويمكن أن يؤثّر ذلك على أُسر الضحايا وأصدقائهم ومجتمعاتهم المحلية. ويزيد عنف الشباب، بشكل كبير، من التكاليف الصحية وتكاليف خدمات الرعاية والعدالة الجنائية؛ ويتسبّب في خفض الإنتاجية وتراجع قيمة الممتلكات وتفكيك النسيج الاجتماعي عموماً"[10].

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية - عدد  595 ربيع الأول 1436هـ - يناير 2015 م




[1] منظمة الصحة العالمية – صحيفة وقائع رقم 356 لسنة 2011م.
[2] صلاح الدين عبد القادر: مقال بعنوان "العنف المنتشر بين الشباب، الأسباب والحلو"،  المركز الوطني لأبحاث الشباب – جامعة الملك سعود.
[3] صحيح البخاري 7/170. دار الفكر – بيروت.
[4] رانيا نظمي: علاقة الانحراف الفكري بظاهرة الفراغ عند الشباب – من منشورات قسم الثقافة الإسلامية، جامعة الملك سعود.
[5] (ص26)
[6] ابن كثير: البداية والنهاية 10/309. تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة، الطبعة الأولى – الرياض، 1997م.
[7] الشاطبي: الاعتصام 2/778، 779. تحقيق سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، الطبعة الأولى – الرياض، 1992م.
[8] محمد سويد الدقلة: الشباب ومواجهة تحديات العصر، منشور ضمن تدويناته الخاصة.
[9] ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/293. دار الكتب العلمية – بيروت، 1997م.
[10] منظمة الصحة العالمية – صحيفة وقائع رقم 356، لسنة 2011م.

الأربعاء، 21 يناير 2015

مكتبات الأمويين في الأندلس!

ما إن استقرت أحوال الأندلس تحت حكم "صقر قريش" عبد الرحمن الداخل (ت 172هـ)، حتى بدأ الاهتمام بالعلوم والثقافة والتربية يأخذ مجراه بصورة متنامية، ففي عهد محمد بن عبد الرحمن الأوسط (ت273هـ) بدأ المؤرخون يُشيرون إلى المكتبة الأموية كواحدة من أشهر مكتبات قرطبة، واشتهر عبد الرحمن الناصر (ت350هـ) بحب الكتب، والشغف بها، وبلغ ذلك الشغف الآفاق حتى وصل إلى بيزنطة العدو التقليدي للمسلمين آنذاك، وحين أراد إمبراطورها قسطنطين السابع أن يستميل الخليفة الأندلسي، فكّر أن يهدي عبد الرحمن الناصر أحب شيء إلى قلبه: كتابًا جديدًا لم يعرفه من قبل، فأرسل إليه كتاب ديسقوريدس في الطب "مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب، وكان الكتاب مكتوباً بالإغريقي الذي هو اليوناني، وبعث معه كتاب هروسيس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم عجيب"([1]).

وفي ذلك الحين كان اثنان من أبناء عبد الرحمن الناصر، وهما: الحكم ومحمد، قد بدءا دراستهما تحت إشراف مؤدِّبين وعلماء كان لهم شهرة واسعة، ومن ثم استيقظت هوايتهما، حتى إن خوليان ريبيرا ذلك المؤرخ الإسباني الكبير كان يقول عنهما: "إن مكتبة أبيهما لم تعد تشبع نهمهما، وتنافس كلاهما أيهما يستطيع أن يسبق الآخر في تكوين مكتبة أدق اختيارًا وأكثر عددًا، وبعد فترة توفي الأمير محمد، وورث أخوه الحكم مكتبته، وبوفاة عبد الرحمن الناصر والدهما أخذ الحكم مكتبته، وجمع المكتبات الثلاث في واحدة، وأصبحت هذه مكتبة القصر، وكان أسلافه من قبله قد أحاطوها بكل رعايتهم"([2]).
ولقد كان يعمل في مكتبة القصر دون توقف، أمهر المجلِّدين في الأندلس، إلى جانب آخرين جيء بهم من صقلية وبغداد، ومعهم جمهرة من الرسامين والمزوقين والمنمقين، فكانوا يزخرفون الكتب بالزخارف الجميلة، بعد أن نسخها أدق الخطاطين لتقديمها إلى لجنة من كبار العلماء تقوم بمعارضتها وتصحيحها، وتدفع لهم الدولة مرتباتهم في سخاء.
وقد ذكر المؤرخ ابن الفرضي طائفة من هؤلاء العلماء ممن كانت مهمتهم تنحصر في مراجعة الكتب ومعارضتها وتصحيحها في المكتبة الأموية في قرطبة والزهراء، منهم الرباجي محمد بن يحيى الأزدي، قال عنه ابن الفرضي: "كان: فَقِيهاً، إماماً، موثوقاً أخذ كتاب: سيبويه رواية عن ابن النّحاس، وكان جَيّد النظر، دقيق الاسْتِنْبَاط، حاذقاً بالقياس. نظر النّاس عنده في الإعراب، وأدَّب عند الملوك، وَاسْتَأدَبه أمير المؤمنين الناصر رضي الله عنه لابنه المِغيرة، ثم صار إلى خدمة المُستَنْصِر بالله في مقابلة الكتب وتوسع له في الجراية. وكان: رجُلاً صَالِحاً متديناً. و تُوفِّي (رحمه الله): في شهر رمضَان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة"([3]).
وكان من بين هؤلاء المعارضين والمصححين الأديب اللغوي محمد بن الحسين الفهري القرطبي، وهو ناسخ ووراق، وقد تقدم أقرانه في حفظ الأدب والعلم باللغات، وقد استعمله الحكم المستنصر في مهمة علمية لمكتبته؛ فقد "تولى مع رفيقه محمد بن معمر الجياني نسخ مالم يهذبه أبو علي القالي من تأليفه الذي سماه: البارع وتهذيبه مع أصوله التي بخطه وخطهما عما كتب بين يديه، وكان هو قد عمل فيه من سنة خمسين إلى أن توفي لسبع خلون من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين (وثلاثمائة)، وصحح منه كتاب الهمزة وكتاب العين، فلما كمل الكتاب، وارتفع إلى الحكم المستنصر بالله وأراد أن يقف على ما فيه من الزيادة على النسخة المجتمع عليها من كتاب العين، فبلغ ذلك إلى خمسة آلاف وست مائة وثلاث وثمانين كلمة"([4]).
ومن الغريب والطريف أن الدولة في تلك المرحلة المبكرة في منتصف القرن الرابع الهجري كانت تستعين بالنساء في النسخ والتخطيط في المكتبات والخزائن العامة، فقد كانت بعضهن مشتهرات بحذق هذه الصنعة، فعلى سبيل المثال اشتهرت الخطاطة الأندلسية لُبنى، وكانت كاتبة للخليفة الحكم المستنصر (ت366هـ)، قال عنها ابن بشكوال: "كانت حاذقة بالكتابة، نحوية شاعرة، بصيرة بالحساب، مشاركة في العلم، لم يكن في قصرهم أنبل منها، وكانت عروضية، خطاطة جداً. وتوفيت سنة أربع وسبعين وثلاث مائة"([5]).وهناك "مزنة: كاتبة الخليفة الناصر لدين الله. كانت حاذقة في أخط النساء، توفيت سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة"([6]) هناك فاطمة بنت زكرياء بن عبد الله الكاتب المعروف بالشبلاري، فهي كاتبة ابنة كاتب، قال عنها ابن بشكوال: "كانت كاتبة جذلة متخلصة عمرت عمراً كثيراً واستكملت أربعاً وتسعين سنة تكتب على ذلك الكتب الطوال، وتجيد الخط، وتحسن القول. ذكرها ابن حيان وقال: توفيت سلخ جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربع مائة. ودفنت بمقبرة أم سلمة وشهدها جمع الناس ماتت بكراً رحمها الله"([7]).
ويصف لنا العلامة ابن حزم (ت456هـ) ضخامة المكتبة الأموية، بحديثه الذي أجراه مع القائم بأعمالها في عهد الحكم المستنصر ويُدعى تليد الفتى، قال ابن حزم: "وأخبرني تليد الفتى - وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان بالأندلس - أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط"([8]). أي أن عدد فهارس المكتبة الأموية كان 2200 ورقة فيها أسماء المؤلفات فقط، وهذا دليل على ضخامة تلك المكتبة الملكية التي يمكن تقدير عدد الكتب بها بأكثر من 100 ألف كتاب.
والحق أن تشجيع الناصر الأموي (ت350هـ) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر (ت366هـ) للعلماء والأدباء والفقهاء من كل المشارب والمدارس، كان له دوره في تضخيم المكتبة الأموية بصورة جعلتها أعظم المكتبات في العالم في ذلك الوقت، فقد كان للحكم المستنصر "ورّاقون بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التواليف، ورجال يوجههم إلى الآفاق عنها. ومن وراقيه ببغداد محمد بن طرخان، ومن أهل المشرق والأندلس جماعة. وكان مع هذا كثير التهمّم بكتبه والتصحيح لها والمطالعة لفوائدها، وقلما تجد له كتاباً كان في خزانته إلا وله فيه قراءة ونظر من أي فن كان من فنون العلم: يقرؤه ويكتب فيه بخطه - إما في أوله أو آخره أو في تضاعيفه - نسب المؤلف ومولده ووفاته والتعريف به، ويذكر أنساب الرواة له، ويأتي من ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده، لكثرة مطالعته وعنايته بهذا الفن. وكان موثوقاً به مأموناً عليه. صار كل ما كتبه حجة عند شيوخ الأندلسيين وأئمهم، ينقلونه من خطه ويحاضرون به. قلتُ (أي ابن الأبّار): وقد اجتمع لي من ذلك جزء مقيد مما وجد بخطه، ووجدتُ أنه يشتمل على فوائد جمة في أنواع شتى. وكان قد قيد كثيراً من أنساب أهل بلده، وكلف أهل كور الأندلس أن يلحقوا كل عربي أُخمل ذكره قبل ولايته، وأن يصحح نسبهم أهل المعرفة بذلك، ويؤلف من الكتب، ويرد كل ذي نسب إلى نسبه، وفرج ذلك بالعلم فتم له من ذلك ما أراد، ونفع الله بكرم قصده البلاد والعباد"([9]).
وقد أصاب المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا حين وصف هذه الحالة النشطة في طلب الكتب والعناية بها، حين قال: "لم تكد الحركة الثقافية تأخذُ طريقها بين الإسبان المسلمين حتى أصبح الكتاب موضع التقدير والإعجاب، ويكفي أي عائد من رحلة إلى المشرق أن يحمل معه كتاباً جديدًا، حتى يُصبح مناط الإعجاب والحفاوة من مواطنيه، ومع الكتاب يأخذ اسمه طريقه إلى مدونات الأدب والتاريخ، وأغلى الجواهر ثمنًا، وأعظمها قيمة، كتاب نادر يستطيع التاجر الماهر أن يأتي به من المشرق إلى إسبانيا، وكان المسلمون من أصل إسباني أو وافدين، واليهود والمسيحيون والموالي يتنافسون في أن تكون لهم مكتبات خاصة وغنية، ولم يَبقَ الأمويون في آخر الصف بالنسبة لهذه الحركة، فأخذوا منذ البدء يجمعون من الكتب مجموعات كبيرة، وبلغت قمّتها في حياة الحكم الثاني، عاشق الكتب، وأكثر أمراء بني أمية غرامًا بها، وأصبحت قرطبة مدينة الفكر، والعقل المدبّر لكل الغرب الإسلامي"[10]. وحسبنا أن ننهي هذا المقال بتلك الكلمات المنصفة للحضارة الأموية في الأندلس.




([1]) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا ص493.
([2]) خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس، ترجمة الطاهر مكي ص156.
([3]) ابن الفرضي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، تحقيق عزت العطار 2/71.
([4]) أبو عبد الله القضاعي: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق عبد السلام الهراس 1/298.
([5]) ابن بشكوال: الصلة، تحقيق إبراهيم الإبياري 3/992. ترجمة رقم 1541.
([6]) ابن بشكوال: الصلة 3/992. ترجمة رقم 1542.
([7]) ابن بشكوال: السابق 3/994. ترجمة رقم 1548.
([8]) ابن الأبار: الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس 2/203.
([9]) ابن الأبار: الحلة السيراء 2/203.
[10] خوليان ربيبرا: التربية الإسلامية في الأندلس ص126.