كثيرا ما نُرجع أسباب التقدم في الحضارة الإسلامية إلى التفوق الذي شهدته هذه الحضارة في الأعمدة الرئيسة من مكوناتها الأساسية، أي إننا نستطيع أن نقرر أن الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية وغيرها من المقومات المادية الأخرى كانت ناجحة بمقاييس التقدم والتخلف في مسيرة الحضارات الإنسانية الأخرى، بيد أننا نغفل أو نتجاهل – عن عمد أو غيره – الأسباب الحقيقية لتقدم الحضارة الإسلامية!
إن الحضارة أثر من آثار الإنسان في الكون، صحيح أن مفاهيم العلوم الإنسانية والاجتماعية والدينية قد تفاوتت في تعريف هذا المصطلح الكبير، غير أنها في مجملها تدور حول الإنسان والكون وفي المنظور الإسلامي نجد الإله الذي ترتبط به هذه الحضارة[1].
وإذا كان الكتاب الأشهر الذي يؤرخ لقصة الحضارة يعرفها بأنها "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق"[2]، فإن الإنتاج الثقافي الذي يُشير إليه ديورانت هو الانعكاس الحقيقي الذي يُضيفه الإنسان ويستلهمه الإنسان كذلك في هذه المنظومة المهمة.
الإنسان إذن مناط الحضارة وقطبها، والشيء اللافت أن الحضارة الإسلامية حضارة موغلة في الإنسانية؛ ذلك أنها انطلقت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذان المصدران الأساسيان يؤكدان باستمرار على أن الإنسان هو "الخليفة" الذي حُمل الأمانة الإلهية وقبل عن رضًا أن يحملها قال تعالى: )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [3](، واختلاف جمهور المفسرين حول تحديد مفهوم الأمانة التي ذكرتها الآية الكريمة، وتنوع التفسيرات المختلفة والمتفاوتة حولها يدلل على المعنى الرحب لهذه الكلمة التي تتعلق بقدرة "الإنسان" والإنسان فقط على أدائها، رغم تعذّر قيامه بها على الوجه الأكمل والأمثل الذي أراده الله من الإنسان في كثير من الأوقات[4]!
وإنسانية الحضارة الإسلامية تقوم على التعارف والتعاون، التعارف على الآخر والاستفادة منه وتقريب وجهة النظر المسلمة إليه، والتعاون لإخراج "الصفات الذاتية" للمجتمع المسلم بتعبير مالك بن نبي[5].
إن "الصفات الذاتية" للمجتمع هي التي تضمن استمراره وتحفظ شخصيته ودوره عبر التاريخ، وتتجسد هذه الصفات في شبكة من العلاقات الاجتماعية تربط أفراد المجتمع فيما بينهم، وتوجه ألوان نشاطهم المختلفة في اتجاه وظيفة عامة، هي رسالة المجتمع الخاصة به، وإن "مجال المجتمع ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات؛ لأن أي حل ذي طابع اجتماعي يشتمل تقريبًا ودائمًا على عناصر لا توزن، ولا يمكن تعريفها، ولا يمكن أن تدخل في صيغة التعريف ... وبعبارة أدق هذه العناصر هي جزء من المحيط الاجتماعي تُطبق تلقائيًا في صورة فكرة يفرضها الوسط على سلوكنا، فإذا لم توجد يصبح التعريف زائفًا تقريبًا؛ إذ تنقصه بعض الأشياء التي ضاعت حين انفصل عن ظروفه الأصلية"[6].
وهذا ما يؤكده الدكتور العمري في كتابه الماتع "المجتمع المدني في عصر النبوة" والعنوان لا يُقصد به "المجتمع المدني" الذي أشار إلى مفهومه ابن نبي، وإنما يقصد مجتمع المدينة المنورة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إن العمري يؤكد على ما قاله ابن نبي بصورة أخرى، تبين أن الأفراد والمجتمعات مع مالها من مميزات وخصوصيات مغايرة عن المجتمعات الأخرى، إلا أنه من السهل أن تؤمن بفكر أو فلسفة فيحولها من النقيض إلى النقيض، هذا وارد الحدوث مع كل المجتمعات إلا المجتمعات الإسلامية!!
إنه يقول إنه "لا شك أن لكل حضارة وفكر ودين طابعًا يطبعه، وصبغة تصبغه ولونًا يميزه، وعلى قدر أصالة الحضارة وعمقها وشمولها يكون تأثيرها في الإنسان الذي يعيش في إطارها، وقد تتشابه الأفكار والمعتقدات ولا تستقل عن بعضها إلا في جوانب معينة كما هو الحال في الفلسفات المادية المهيمنة على عالمنا المعاصر، فإن التحول من واحدة إلى أخرى لا يتطلب تغييرًا جذريًا وانقلاباً شاملاً في حياة الإنسان بل يكفي أن تتغير قناعته بمبدأ منها، وتزداد بآخر ليتم التحول الفكري إلى المبدأ الجديد، إن هذا التحول لا يحتاج إلى مجهود كبير إذ ليس له أثرٌ على السلوك اليومي والعادات المتأصلة في النفس فلا ينعكس إذًا على واقع الحياة ... إن هذه الظاهرة لا تنطبق على الإسلام، فهذا الدين منذ ظهوره أحدث انقلابًا جذريًا في حياة الفرد والجماعة بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيرًا كليًا، كما تغيرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان، وكذلك تغيرت بنية المجتمع بصورة واضحة فاختفت مظاهر وصور وبرزت معالم وظواهر جديدة"[7]، وهو يُدلل على هذه الكلمات بأدلة كثيرة تحت عنوان "أثر الإسلام في المجتمع المدني".
ومع تسليمنا بما قاله العلامة العمري، من أن المجتمعات الإسلامية مغايرة كل المغايرة عن المجتمعات الأخرى التي من السهل أن تتبنى فلسفة أو فكرًا تسير على خطاها، ووفق رؤيتها، إلا أن الإسلام كمنهج لم تستطع المجتمعات الإسلامية أن تسير وفق الرؤية الحقيقية له إلا في زمن النبوة والخلافة الراشدة، وتخلف المجتمع المدني الإسلامي عن كشف "الصفات الذاتية" له في الأعصر المتأخرة، وإن تجلت لهم حضارة مادية تشهد بالعظمة والتنظيم الجيد.
ومالك بن نبي رحمه الله يكشف مقومات المجتمع المدني، الذي تكمن قوته في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تُشكل قاعدة تُمكن مصادر الفعل الإنساني من العمل والتأثير في صناعة التاريخ، وهي تتشكل في رأيه من تأثير عوالم ثلاث: عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء والتي لا تعمل متفرقة بل يفعلها ويسيّر عملها عالم رابع من شبكة العلاقات، ونجد في طرحه أن ثمة تأثيرًا ملموسًا لمفهوم شبكة العلاقات الاجتماعية، تتجلى في مدرسة أو مصنع أو نقابة أو غيرها، وهذه النتائج الملموسة إنما هي النتيجة الأولى الرئيسية لروح المجتمع[8].
والقارئ في تاريخ الحضارة الإسلامية يجد الآثار الأدبية والحسية التي خلفها المجتمع المدني، وكشفت عن نتيجة مفادها أن ترك زمام المبادرة لهذا المجتمع، وإعطائه الحرية التي قصدت الرسالة الإسلامية بها جمهور الناس، أدى إلى التقدم "الحضاري" للأمة المسلمة، واللافت بل المدهش أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا في فتوحاتهم تحقيق هذا المقصد العظيم، لقد فهموا هذا الأمر فهمًا عميقًا تجلى في ذلك الحوار المبهر بين ربعي بن عامر t وبين رستم الذي سأله مستفسرًا، ومستغربًا من هؤلاء العرب الذين لم يكن لهم رسم ولا وسم ولا قيمة بين الأمم: "ما جاء بكم؟!" فأجابه قاطعًا: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.."[9]، ومن ثم لم يكن من المستغرب أن تكون رقعة الدولة الإسلامية قد امتدت من الصين إلى فرنسا ومن أذربيجان وقازان إلى اليمن والحبشة في مائة عام فقط؛ ذلك أنها دعوة قد حررت الأفراد والمجتمعات من ربقة الطواغيت، واستطاعت الأمم أن تتفهم هذه الحقيقة دون الحديث عن سخافة نشر الإسلام بالسيف التي رددها كثير من الحمقى!!
على أن الدعوة الإسلامية التي جاءت محررة للمجتمعات من نير الظلم والانغلاق والإمساك بزمام المبادرة والقيادة والإصلاح سرعان ما انتابها العطب، وتخلفت عن تحقيق المقومات التي ذكرها ابن نبي آنفًا، ومن اللافت أن أواخر القرن التاسع عشر قد شهد معارك ضارية بين الإصلاحيين الذين أرادوا أن يستعيد المجتمع الإسلامي دوره الذي ضاع بسبب الجهل بحقيقة الإسلام الذي هو الطابع الشديد الخصوصية للمجتمعات المدنية "الإسلامية"!
لقد استطاع الشيخ محمد عبده رحمه الله أن يكشف عن السبب الذي أدى إلى جمود المجتمع المدني الإسلامي في أوقات كثيرة، لا سيما في زمنه في القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين، وكان تفسيره تفسيرًا تاريخيًا لم يتوقف عند حدود قرنه "الثالث عشر الهجري" بل أرجعه إلى القرن "الثالث" الهجري، وبالتحديد إلى القهر السياسي الذي مارسه بعض خلفاء بني العباس!!
قال رحمه الله في أثناء رد له على سائل يسأله عن سبب حمود المجتمع الإسلامي: "أما ما وصفت بعد ذلك من الجمود، فهو مما لا يصحُّ أن يُنسب إلى الإسلام وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها... إنما على عرضت للمسلمين عندما دخلت على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم، وكان السبب من في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم هو السياسة ... لم أرى كالإسلام دينًا حفظ أصله، وخلط فيه أهله، ولا مثله سلطانًا تفرق عنه جنده، وخُفر عهده ... لا هم فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية من الناس اتصلوا به، ووصلوا نسبهم بنسبه، وقالوا نحن أهله وعشيرته، وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه في شيء، إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله: كان الإسلامُ دينًا عربيًا، ثم لحقه العلم فصار عربيًا بعد أن كان يونيًا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له؛ ظن أن الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتخذ له جيشًا من الترك والديلم وغيرها من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه ... خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه، وبئس ما صنع بأمته ودينه، لقد أكثر من ذلك الجند الأجنبي، وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم، وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم"[10].
إن تفسير الأستاذ محمد عبده رحمه الله، تفسير جيد طرحه من قبله جمال الدين الأفغاني وأشار له بعض المفكرين الآخرين الذين تصدوا للحديث عن علل وأمراض ومن ثم مقومات النهضة الجديدة للمجتمعات الإسلامية، وهو تفسير متماسك لا مشاحة فيه، غير أن ثمة آثارًا لا تحصى لما قام به المجتمع المدني الإسلامي في طوال تاريخه المجيد، حتى إننا رأينا أدوارًا عظيمة شارك فيها هذا المجتمع في ظل فترات الضعف السياسي والعسكري الذي مرّت به الأمة.
وسنرى في المقال القادم الآثار الرائعة التي قام بها المجتمع المدني الإسلامي، والأسباب التي أدت لتخلفه في القرون الأخيرة، والآليات التي اقترحها بعض العلماء والمفكرين لإعادة الدور المنوط لهذا المجتمع.
· باحث مصري في التاريخ والتراث.
نشر في موقع المركز العربي للدرسات والأبحاث
______________________________________________
[1] راجع: حسين مؤنس: الحضارة ص8.
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 1/3.
[3] (الأحزاب: 72).
[4] راجع: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/254.
[5] مازن هاشم: مقال بعنوان "شبكة العلاقات الاجتماعية ومفهوم المجتمع المدني"، ص36، مجلة رؤى، العدد 20، 2003م.
[6] مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، ترجمة عبد الصبور شاهين ص102.
[7] أكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة ص62 وما بعدها.
[8] مالك بن نبي: ميلاد مجتمع ص28 – 32.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية 7/47، والكندهلوي: حياة الصحابة 1/236.
[10] محمد عبده: الأعمال الكاملة "الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات"، تحقيق محمد عمارة ص338، 339.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق