الثلاثاء، 24 مايو 2011

دور المجتمع المدني في النهضة المنشودة (2)

إن ثمة مقومات حقيقية ساعدت الأمة على القيام بما أرادت القيام به فعلاً، لقد كان للمجتمع الإسلامي ذمته المالية المستقلة – إن صح التوصيف – عن الدولة التي كان يهمها في غالب الأوقات الاهتمام بالأمور السياسية والعسكرية وغيرها، وكان هذا الاستقلال باعثه ومورده الذي لا ينضب النظامَ الوقفي الذي أمد الأمة بما تحتاجه من الأموال والأراضي، ومن هنا ساعدت المشاريع الخيرية والاجتماعية والعلمية والصحية التي كان باعثها من الواقفين ابتغاء الأجر والثواب من الله U، ساعدت على نهضة المجتمع الإسلامي في كل المجالات، وإن نظرة لما كتبه الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابهه "من روائع حضارتنا"، في باب روائع الأوقاف ليدلل على مدى الرقي الحقيقي الذي وصل إليه المجتمع الإسلامي بفضل هذا المعين الفياض.


ففي معمعة الحروب الصليبية، وفي مخاض المقاومة الإسلامية التي كان يقودها صلاح الدين في منذ منتصف القرن السادس الهجري، كان من الطبيعي أن تتجه المصارف المالية للدولة إلى المشاريع العسكرية، وتُقام حالة الطوارئ والإجراءات العرفية والتعسفية التي تحدث في مثل هذه الظروف، ويندمج المجتمع في "العسكر" والعسكر في المجتمع كما يحدث في المجتمعات الحديثة، غير أنه من العجيب أن الذمة المالية التي استقل بها المجتمع الإسلامي منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم والمتمثلة في الأوقاف، قد أتاحت لجناحي الأمة وقتها الخير العميم، فالأوقاف قد تنوعت ما بين العسكرية والجهادية والرباطية، ووجدت كذلك الأوقاف الخيرية والأهلية وحتى الذُّرية في مثل تلك الأوقات العصيبة!

وإن رحّالة القرون الوسطى ليسجلون بإعجاب بالغ مدى تأثير الإرادة المجتمعية في الواقع الذي سجله هؤلاء الرحالة، لقد مرّ الرحالة الأندلسي ابن جبير البلنسي (ت614هـ) على دمشق مركز المقاومة الشامية للصليبين في عام 581هـ، أي قبل فتح صلاح الدين لبيت المقدس بعامين فقط، وسجل بإعجاب ما رآه وعايناه من تقدم المجتمع الإسلامي المدني هذا فضلاً عن العسكري، بل الأعجب أن حضّ صراحة طلبة العلم من المغاربة والأندلسيين أن يرتحلوا للعلم في هذه البلاد، ولا يخافوا المئونة والنفقة لأنها متوفرة بكثرة في هذه الأرجاء، قال رحمه الله: "ومرافق الغرباء بهذه البلدة (يقصد دمشق) أكثر من أن يأخذها الإحصاء، ولا سيما لحفاظ كتاب الله، عزّ وجل، والمنتمين للطلب؛ فالشأن بهذه البلدة لهم عجيب جدًا، وهذه البلاد المشرقية كلها على هذا الرسم، لكن الاحتفال بهذه البلدة أكثر والاتساع أوجد، فمن شاء الفلاح من نشَأَة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد، ويتغرب في طلب العلم، فيجد الأمور المعينات كثيرة، فأولها فراغ البال من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها، فاذا كانت الهمة فقد وجد السبيل إلى الاجتهاد، ولا عذر للمقصر إلا من يدين بالعجز والتسويف، فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه، وإنما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد، وتقرع سن الندم على زمن التضييع"[1].

فالذي ذكره ابن جبير، وهو غيض من فيض، والذي ذكره من بعده العبدري وابن بطوطة وابن الأثير والبرزالي وغيرهم دليل لدور المجتمع المدني الذي تجلى في كتاباتهم بأبدع ما تكون الوظيفية الجمعية للأمة المسلمة، وكي لا يحسبن القارئ أن زمن صلاح الدين فلتة، فقد لا نجد مثل هذا الدور للمجتمع المدني الإسلامي في أعصر أخرى، فإني أدعو القارئ الكريم أن يراجع الأحوال الاجتماعية لعامة المسلمين والأدوار المهمة التي قاموا بها في ظل فترات الضعف والانكباب العسكري والسياسي للدولة الإسلامية؛ فلقد بُنِيَتْ المدرسة المستنصرية على سبيل المثال في سنة (631هـ) والتتار في ذلك الوقت يجتاحون شرق العالم الإسلامي، ويهدِّدُون الخلافة العباسية تهديدًا مباشرًا، وقد وصلت الخلافة العباسية إلى أضعف درجاتها، ومع ذلك تمَّ إنشاء هذه المدرسة الخالدة من أوقاف المسلمين، وقد علّق ابن كثير رحمه الله على هذه المدرسة، والاحتفالية العظيمة التي حضرها الخليفة العباسي بقوله: "ولم يُبنَ مدرسةٌ قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيهًا، وأربعة معيدين، ومدرِّس لكل مذهب وشيخ حديث وقارئان، وعشرة مستمعين، وشيخ طبٍّ، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطبِّ، ومكتب للأيتام، وقدّرَ للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد، ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها، وحضر الخليفة المستنصر بالله -بنفسه الكريمة- وأهلُ دَوْلَتِه من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يَتَخَلَّف أحد من هؤلاء، وعُمِلَ سماط عظيم بها؛ أَكَلَ منه الحاضرون، وحُمِلَ منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواصِّ والعوامِّ، وخُلِعَ[2] على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين، وكان يومًا مشهودًا، وأَنْشَدَتِ الشعراءُ الخليفةَ المدائح الرائقة والقصائد الفائقة، وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مُطَوَّلاً مبسوطًا شافيًا كافيًا، وقدّرَ لتدريس الشافعية بها الإمام محيي الدين أبو عبد الله بن فضلان[3]، وللحنفية الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني[4]، وللحنابلة الإمام العالم محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي[5]، ودَرَّس عنه يومئذٍ ابنه عبد الرحمن[6] نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك، ودَرَّس للمالكية يومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضًا، حتى يُعَيَّنَ شيخٌ غيره، ووُقِفَتْ خزائن كتب لم يُسْمَعْ بمثلها في كثرتها وحُسْنِ نسخها، وجودة الكتب الموقوفة بها"[7]، وبعد 25 سنة فقط تسقط بغداد، وتندب رزئها ومصيبتها وما صنعت يد أبنائها الذين سقطوا تحت جحافل التتار الملاعين.

إن هذين المثالين الآنفين دليل على قدرة المجتمعات الإسلامية في تسيير مصالحها، وتطبيق الإرادة والروح الجماعية إذا توافرت الظروف المادية والثقافية لذلك، وثمة ملحوظة مهمة تتمثل في أن القيادة المجتمعية في ظل الحضارة الإسلامية كانت دومًا للعلماء المخلصين، والناس بحكم العادة قد وثقوا في هذا الفريق الذي رأوا منه كل خير، وحُق للعلماء أن يقودوا زمام المبادرة، وهذا ما يؤكده بل ويوجبه العلامة القرضاوي من منظار شرعي بقوله: "إن الناس قد يعدُّون الأمر منفعة وهو في نظر الشارع مفسدة، وبالعكس، فليس هناك تلازم بين المصلحة والمفسدة في عرف الناس، وبينهما في عرف الشارع، أو بعبارة أخرى فإن المصلحة في نظره هي المحافظة على مقاصد الشارع ولو خالفت مقاصد الناس، فإن الأخيرة عند مخالفتها للأولى ليست في الواقع مصالح، بل أهواء وشهوات زيَّنتها النفس، وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصالح. فقد كان أهل الجاهلية في العرب يرون المصلحة في وأد البنات، وحرمان الإناث من الإرث، وقتل غير القاتل، وما كانوا يعتقدون أن في شرب الخمر ولعب الميسر واتِّخاذ الأخدان، ونسبة الولد إلى غير أبيه مفسدة"[8].

وقد تنبه الإمام محمد عبده رحمه الله لأمر في غاية الأهمية لصلاح المجتمع المدني الإسلامي الذي يؤمل منه النهضة والتقدم، لقد أشار إلى ضرورة تربية المدنيين فصلاح المجتمع لا يتم بدون صلاح الرعية، ولا يحسبن السلطان أن تجهيله وتسطيحه لعقول رعيته سيجعله قادرًا على سياستهم والتحكم فيهم بسهولة، فإن هذا ضرر فادح لسلطانه ومجتمعه، قال رحمه الله: "يُقال إن الرعية في كثير من البلاد آلة للحاكم في بلوغ مقاصده في دولته، فقد يكون ذلك حقًا، لكنها آلة ذات شعور وإرادة، وما له شعور وإرادة، فجميع أعماله إنما تكون عن شعوره وإرادته، فتصلح الأعمال بصلاح الشعور والإرادة، وتفسد بفسادهما، فلا يمكن أن تكون تلك الآلة صالحة للعمل، إلا إذا كان الشعور والإرادة صالحين له، وصلاحهما بأن يكون الشعور وجدانًا، للفرق بين النافع والضار، وبين النظام والاختلال، ليكون ما يقرره الحاكم من القوانين وأصول الإدارة معروفًا عند أغلب الرعية، وأن تكون الإرادة صادرة عن ذلك الوجدان حتى يكون النظام منها في مكانة الاحترام، فإذا كان الشعور مختلاً، والإرادة فاسدة، كانت الأحلام طائشة، والأهواء متحكمة، ومداخل السوء كثيرة، فويل لذي السلطة من تلك الرعية، وبعيد عليه أن يستقر لسلطانه فيها قرار، وكل ما يتخيله إصلاحًا لهم أو له فيودعه في أصول حكومته، فهو كالنقش على الماء أو الرسم في الهواء"[9].

إن الإمام محمد عبده رحمه ما ذكر هذا الكلام الذي ينم عن حسرة وألم وقهر إلا حينما رأى تأخر المجتمع المدني في مصر عن دوره المنوط به، بل إن هذا المجتمع بما فيه النخبة من العلماء باتوا في حالة من الجمود والركود والانغلاق على قشور معرفية لم تكن جديرة بالنهضة التي كان يؤملها محمد عبده ومن قبله الأفغاني، والحق أن إصلاحات هذه المدرسة الفكرية الجديدة من هؤلاء العلماء إضافة إلى الشيخ رشيد رضا فيما بعد قد حرّك بلا شك المياه الراكدة في هذا المجتمع الذي تجلى دوره فيما بعد في ثورة 1919 وما تلاها.

وخير ما أختم به هذين المقالين ما ذكره الصحفي الإسلامي محمد جلال كشك رحمه الله في كتابه المبدع "قراءة في فكر التبعية" من المحاولات التاريخية التي قاد فيها المجتمع الإسلامي لا سيما المصري زمام أمره، ومتطلباته وأهدافه، بقوله: "إن المجتمع المدني بدأ في التراجع في مصر أو إن شئت في العالم الإسلامي منذ الحروب الصليبية، واستمر تدهوره ومقاومته في نفس الوقت، فكان ينتعش مع تدهور طبقة العسكر، وابتعاد الخطر الخارجي، وقدرة المصريين على المقاومة، حتى جاءت الحملة الفرنسية (1798م) وانهار العسكر ففر منهم من فر إلى الشام، أما الذين أحيط بهم فلجأوا إلى خيمة الجنرال بونابرته حيث عملوا في خدمته كعملاء، وعندما غاب عسكر المماليك من الساحة وسقطت شرعيتهم بتخليهم عن المعركة التي حكموا البلاد باسمها أربعة قرون على الأقل، خلت الساحة للمجتمع المدني المصري الذي حمل المواجهة ضد جيش الاحتلال الفرنسي، وخلال ثلاث سنوات نما هذا المجتمع، وسيطر على الأحداث فاستهلك قوة الحملة الفرنسية، وهزمها وطوى صفحتها، وتحدى المصريون السلطان في أهم مميزاته وهي تعيين الوالي، ولكن هذا الوالي كان عسكريًا حتى النخاع، إذ سرعان ما حطم قيادات المجتمع المدني، ثم عسكر المجتمع كله ووضعه في خدمة الجيش.. دار تاريخ مصر منذ الجملة الفرنسية إلى اليوم[10] في دائرة مغلقة، المجتمع المدني يحاول أن ينهض فيضرب بيد العسكر سواء العسكر المصري أو الأجنبي حتى نصل لضربة عبد الناصر القاتلة، ورغم ذلك عاد المجتمع المدني يطل برأسه من جديد في فترة السادات وما بعدها وكان أبرز مظاهر هذه النزعة الاستقلال عن الدولة في الخدمات والاقتصاد، وتطورت الأمور إلى نوع من الإدارة الذاتية في مواجهة البيروقراطية الفاسدة، وكان من الطبيعي أن تسحق الدولة الأكبر محاولة التمرد هذه!!"[11].

إن هذين المقالين يهدفان في الأساس إلى ترك الحرية للإنسان المسلم، إلى إقامة أحد أهم مقاصد التشريع الحكيم المتمثل في "إخراج العباد من عبادة العباد" إلى حرية التفكير، إلى قدرة المجتمعات الإسلامية على الإرادة والفعل، تلك الإرادة والحرية التي استخلصتها المجتمعات الأوربية بالحديد والنار عبر قرون غابرة تمت التجربة فيها آلاف المرات على الإنسان والفكر والبيئة، غير أن المنهج الإسلامي قد أراحنا من مثل تلك المجازر الدموية التي سعت من خلالها المجتمعات الغربية لكي تتحرر من براثن الظلم والطاغوت، لقد هدانا ربنا السُّبل، وأنار لنا الطريق، وأكد لنا نبينا أن خير الناس قرنه ثم الذين يلونه ثم الذين يلونه[12]، في إشارة واضحة على أن مثالية التطبيق كانت في تلك القرون الطاهرة!!


نشر هذا المقال في المكز العربي للدراسات والأبحاث


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش


[1] ابن جبير: الرحلة ص233. طبعة دار الهلال.

[2] خلع: أعطاهم أموالاً من خِيار المال، وهي من الخُلْعةُ أي خِيار المال. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادَّة خلع 8/76.

[3] ابن فضلان: هو محيي الدين أبو عبد الله بن فضلان، مدرِّس المستنصرية، قاضي القضاة. تُوُفِّي في شوال سنة (631هـ/ 1233م) . انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 5/132.

[4] الفرغاني: هو عمر بن محمد بن الحسين، تُوُفِّي سنة (632هـ) . انظر: ابن أبي الوفاء القرشي: الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/662، 663.

[5] يوسف بن الجوزي: هو محيي الدين يوسف بن الجوزي القرشي البغدادي (580- 656هـ / 1185- 1258م) ، وهو ابن العلامة أبي الفرج بن الجوزي، تفقه على أبيه وغيره. قتله التتار شهيدًا صَبْرًا، هو وأولاده الثلاثة. انظر: الزركلي: الأعلام 8/236.

[6] عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي: توفي شهيدًا مع والده، قتل ببغداد عند دخول هولاكو إليها سنة (656هـ/ 1258م) وقد جاوز الخمسين. من آثاره: ديوان شعر. انظر: كحالة: معجم المؤلفين 5/200.

[7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/139، 140.

[8] القرضاوي: مقال بعنوان " المصلحة المرسلة وشروط العمل بها" على موقعه على الانترنت.

[9] محمد عبده: الأعمال الكاملة "الإصلاح الاجتماعي والتربوي والإلهيات" ص110.

[10] صدر كتابه قراءة في فكر التبعية في العام 1993م عقب وفاته بقليل.

[11] محمد جلال كشك: قراءة في فكر التبعية ص12، 13 بتصرف.

[12] قال r: "خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2533).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق