يمكن لمن لا يعرف سيرة
طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية العراقية أن يرجع لموقع "ويكيبيديا"
ليعرف من هو الرجل الذي انتقل من السلك العسكري إلى الجبهة الإسلامية وخاصة جماعة
الإخوان المسلمين لينظم من خلالها المقاومة السنية في مواجهة المحتل الأمريكي
وأذنابه من طوائف الداخل ثم إلى ائتلاف العراقية بقيادة إياد علاوي مقتًا منه
للتخندق الطائفي، برغم ما لحقه من أوصاف الانتهازية والبحث عن المصلحة الذاتية.
لقد كتب الدكتور محمد يُسري سلامة المتحدث
السابق لحزب النور السلفي في مصر مقالاً مهمًا عن تجربة طارق الهاشمي قائلاً فيه:
"بعد احتدام جرائم الاحتلال العسكري الأمريكي، واشتعال القتال الطائفي مع
الميليشيات الشيعية التابعة له أو المدعومة من إيران، وما صاحب ذلك من جرائم بشعة،
رأى الهاشمي وطائفةٌ من الذين معه أن المقاومة ليست الحل، وأنه من الأفضل نبذ
القوة وترك الكفاح المسلَّح، والاحتكام إلى السياسة وآليات الديمقراطية التي بشَّر
بها الأمريكيون، لا لشيءٍ سوى أنهم أرادوا حفظ الدولة العراقية من السقوط، وحقن
دماء العراقيين التي كانت تسيل بغزارةٍ في كل يومٍ وفي كلِّ شارعٍ من شوارعهم. وكان
تأسيس الحزب الإسلامي كواجهةٍ سياسية لإخوان العراق، ثم كانت الانتخابات التي
عُيِّن الهاشمي بعدها نائبًا لرئيس الجمهورية.والحقُّ أن الرجل قد تعرض لمحنٍ
شديدةٍ ومحاولاتٍ قاسية من بعض الميليشيات الشيعية لجرِّه إلى القتال مرةً أخرى،
ودفعه للتخلي عن النهج السلمي الذي اختاره، وتمثل ذلك في اغتيال ثلاثةٍ من أشقائه
تباعًا في عامٍ واحد، لكنه آثر أن لا يتحرى عن قتلة أشقائه لينتقم لهم، كي لا يكون
سبباً في نشر ثقافة الانتقام والثأر بين أبناء وطنه، وهو موقفٌ يُحسب له من دون
شك، ويدل على إخلاصه وتجرده، لكن الإخلاص أمرٌ، وإصابة الحق أمرٌ آخر".
صدق الدكتور يُسري،
وإصابة الحق شيء آخر؛ وبعد 4 أعوام كاملة في منصبه وفي ديسمبر الماضي حدثت تفجيرات
بجوار البرلمان العراقي بالتزامن مع مرور رئيس الوزراء العراقي "الشيعي"
نوري المالكي، وبعد البحث والاستقصاء والتحري و"التلفيق" على ما يبدو،
واستنطاق الشهود تحت الإكراه والتعذيب والتهديد – بحسب الهامشي نفسه – تم إلصاق
التهمة بنائب الرئيس العراقي الإخواني السابق؛ وتحول الرجل بقدرة قادر وبين عشية
وضحاها إلى عدو الوطن، وقائد الإرهاب، ومن ثم التشهير به على تلفزيون
"العراقية" الرسمي وغيره.
لم ينفع الإخلاص
والتجرد والبحث عن التوافقية الهاشمي شيئًا بعد كل ما مر به؛ لقد وصل به الحال قبل
أن يئول مصيره للطرد والملاحقة في إقليم كردستان العراق إلى أن حاصرت الدبابات
بيته في المنطقة الخضراء أهم مناطق التمركز السياسي في العاصمة، بل وأقواها من
ناحية السيطرة الأمنية؛ بل وصل به الحال إلى "البهدلة" السياسية، وعدم
إعطائه الحصانة القانونية التي من المفترض أن يتمتع بها من هم دونه في المنصب
والمكانة، وقال في مؤتمر صحفي إثر هذه الاتهامات إنه كان "محاصرًا في المنطقة
الخضراء منذ شهرين وأن بيته دوهم وصودرت حواسيب ووثائق". بحسب تقرير أعدته بي
بي سي العربية في 20 ديسمبر الماضي بعنوان "الهاشمي ينفي الاتهامات الموجهة
إليه".
لقد ساعد طارق الهاشمي
في "العملية السياسية" بالقضاء على المقاومة العراقية وإنشاء ما يُسمى
بالصحوات، وتعني أن تُرشد كل قبيلة سُنية عن أفراد المقاومة بها ليتم التخلص منهم
أو قتالهم إذا لزم الأمر وبالمقابل ضربت القوات الأمريكية بالاشتراك مع بعض
الميليشيات التابعة للمالكي ميليشيات مقتدى الصدر التي كانت المنفِّذَ لأعمال قتل
السنَّة؛ تم بعدها السيطرة على القتل الممنهج للسنة في العاصمة؛ لكن ذلك كان له
مآله الخطير إذا تم السيطرة على القوة السنية وتحجيمها وتقليم أظافرها ثم تدجينها
في عملية سياسية يسيطر عليها نوري المالكي بقواته المسيطرة على الشرطة والأمن؛ ولم
ينفع الهاشمي وائتلاف العراقية مثقال ذرة من ذكاء سياسي ونضال اتكأ على الإخلاص
والتجرد!
هنا يذكرني الهاشمي بآخر
خلفاء العباسيين في بغداد المنكوبة المستعصم العباسي الذي ورث عن أبيه المستنصر جيشًا
قوامه 100 ألف مقاتل، استعادت به خلافة العباسيين رونقها وقوتها التي اشتهرت بها
في زمن هارون والمأمون والمعتصم؛ لكن المستعصم الذي يمكن أن نصفه
بـ"الإسلامي" إذ كان ذا خُلق حميد هو الآخر، مستمسكًا بشرع الله،
متحريًا أوامره، كان فقط حسن النية إلى الدرجة التي تماهى فيها خلف وزيره ابن
العلقمي الشيعي وبعض خفيفي العقل ممن قدمهم في رأس السلطة وجعلهم مواليه، خفّض ابن
العلقمي عدد قوات الجيوش العباسية من 100 ألف إلى بضعة آلاف كان أهل بغداد يعطفون
عليهم لفقرهم وعوزهم؛ ثم تراسل مع المغول من الباطن ليخطب ودهم ويشجعهم على احتلال
بغداد؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يُقتل المستعصم، ويدخل المغول بغداد، وتنكب
الخلافة العباسية إلى الأبد!
في مصر يتناسى
إسلاميوها الذين يسيرون على درب الهاشمي كل هذه التجارب، وآخرها تجربة الهاشمي
الإخواني في العراق، وهي تجربة مثيرة ومهمة؛ إنهم يتذرعون بأن البرلمان الذي هم
أغلبيته سيحميهم من أي غدر أو انقلاب أو ابتزاز وتناسوا أن الهاشمي نائب لرئيس
دولة العراق؛ يقولون لأنصارهم لن نختار رئيسًا إسلاميًا قويًا لأن أمريكا والقوى
الدولية ستضغط علينا وتجعلنا مثل حماس في غزة؛ وكأن حماس في تقييم ساذج، واختزال
مخل، أضحت مضربًا للمثل في الفشل والاندحار!!
إنهم يتناسون لحظة
فاصلة في تاريخ الوطن تجمعت فيها المعطيات الغالية التي لم يكن أحد ليحلم بها منذ
أشهر قليلة فقط؛ لحظة تشبه ظهور المذنبات النادرة التي تتجلى للفلكيين كل عشرات
السنين؛ لحظة زخم ثوري مع سقوط بعض أركان النظام الفاسد مع صعود التيار الإسلامي
مع ترنح الاقتصاد العالمي الذي يكبل كل طواغيت الخارج في التدخل المباشر في الشئون
الداخلية كل هذه المعطيات يتم تجاهلها وهدرها والدوس عليها لصالح إعادة ترميم
النظام القديم بإرهاب أو ابتزاز أو صفقات أو غباء؛ الآن الشعب يريد رئيسًا قويًا يطهر
كل المؤسسات والأفراد الفاسدون، ويقطع كل صلة بالنظام البائد أيًا كان موقعه؛ ويبدأ
بداية نقية ينفذ فيها إستراتيجية الثورة و"الشعب يريد"، وإسلاميونا يرون
اللحظة لم تحن بعد، فما أعجب من يريد الذهاب للإسكندرية ليركب قطار أسوان!!
ثمة تجربتان مهمتان
مرت بهما الحركة الشعبية الإسلامية في مصر؛ لو تم استغلالهما لتغير شكل مصر وربما شكل
المنطقة بأسرها، ولا أدري كيف لا ينظر إسلاميو مصر لهما: الأولى حينما احتلت قوات
نابليون بونابرت مصر في يوليو عام 1798م لتجد مقاومة وثورة استمرت منذ أول يوم
وحتى خروج بونابرت وجيوشه خائبة مدحورة بعد ثلاث سنوات فقط وكان زعيم هذا الزخم
الثوري شيخ المقاومة الشعبية الأزهري الإسلامي عمر مكرم، لقد بحث عمر مكرم عن قائد
"توافقي" يبدو منه الصلاح ويثق فيه ليسلم إليه مصر، فأعطاها لمحمد علي
الذي لم يكونوا يعرفون تاريخه وأخلاقه على سبيل القطع واليقين، فتسلمهما محمد علي
ليحطم المجتمع المدني المصري، ويقضي على طبقة المماليك فيه، وينفي عمر مكرم وقادة
المقاومة الشعبية، بل ويجمع السلاح من المصريين؛ ليتم السيطرة على مصر، وتُغير
البنية الاجتماعية فيها؛ ويصبح المصري ذليل وأسير الدولة المركزية المستبدة إلى
الآن؛ فماذا لو اختار عمر مكرم أحد قادة الثورة الفعليين ليكون رئيسًا لمصر، بل
ماذا لو عرض نفسه هو ليكون واليًا على مصر، هل كان سيجد ممانعة، وماذا ستكون
النتيجة غير نهضة حقيقية مصرية يقوم بها أهل مصر، ربما لتغير التاريخ، ولم نكن
سنرى الاحتلال الانجليزي الذي استمر 70 عامًا متصلة وما بعده من حقبة استبدادية
طويلة !!
والتجربة الثانية كانت
في إقالة عبد الناصر لمحمد نجيب في المرة الأولى عقب انقلاب يوليو 1952م، وكان ذلك
في فبراير عام 54 وكانت تجربة تؤكد للكل بوادر الانقلاب على الديمقراطية بالكلية؛
لكن سرعان – تحت ضغط الشارع – ما أُرغم عبد الناصر ومن معه لإعادة نجيب مرة أخرى،
وفي أثناء ذلك خرج الإخوان المسلمون في مظاهرة حاشدة كان قوامها 150 ألفًا حاصرت
قصر عابدين وكان على رأسها الدستوري الإخواني عبد القادر عودة الذي كان سببًا في
انفضاضها، الأمر الذي أكد لعبد الناصر أن القضاء على هذه القيادات قضاء على أي زخم
يقاوم مخططهم، وهذا ما تم بالفعل؛ فقد أُعدم عبد القادر عودة وآخرين معه، واعتقل
محمد نجيب تحت الإقامة الجبرية، وضاع الزخم الثوري والثورة بكاملها لتنتهي مصر إلى
الفشل والتبعية للقوى العظمى!
مع كل هذا التاريخ لا
أفهم كيف يطاوع الإسلاميون أنفسهم بتجاهله، كيف يسعون كما جاء على لسان عصام
العريان القيادي الإخواني ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب بإنشاء مجلس للدفاع
الوطني قد يكون للعسكر القيادة فيه سائرين على النموذج التركي قبل 80 عامًا، بل
كيف لا يقفون خلف مرشح إسلامي قوي يتلافى كل هذا التاريخ الكريه، ويحقق أخيرًا ما
حلمت به الجماهير منذ عمر مكرم قبل مائتي عام كاملة؟!
يؤكد التاريخ لنا أن
القوة – أيًا كان نوعها وظروفها - أصل السيطرة، ومن حاد أو تنازل عن قوته لخصمه،
فلا يلومن إلا نفسه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق