من أوائل من كتبوا
رسائل ومؤلفات خاصة تتعلق بالتربية والتثقيف في المغرب العلامة المالكي التونسي
ابن سحنون واسمه محمد بن عبد السلام بن سعيد (ولد سنة 203 هـ وتوفي سنة 256هـ)،
وكتابه بعنوان "آداب المعلمين" عكف على تحقيقه وإخراجه مجموعة من
الأساتذة المحققين.
وجاء هذا الكتاب أو
الرسالة كمجموعة من النصائح العامة، وطرائق التعليم والتربية من خلال فصول مثل: ما
جاء في تعليم القرآن العزيز، ما جاء في العدل بين الصبيان، باب ما يكره محوه من
ذكر الله، ما جاء في الأدب وما يجوز في ذلك وما لا يجوز، ما جاء في الختم وما يجب
في ذلك للمعلم، ما يجب للمعلم من لزوم الصبيان، ما جاء في إجازة المعلم ومتى تجب،
ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه..
وممن ألفوا في كتابة
المناهج التربوية في المغرب الإسلامي أحد أعلامها في القرن الرابع الهجري أبو
الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي القيرواني (ولد 324هـ - توفي 403هـ)، وقد أخرج
كتابه "الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين والمتعلمين" الأستاذ الدكتور
عبد العزيز الأهواني في كتابه "التربية في الإسلام" وهو كتاب يشرح ويفصل
رسالة القابسي الآنفة.
يقول الدكتور الأهواني
عن كتاب القابسي وبيان أهميته: "عنوان كتاب القابسي يُرشدنا إلى الاتجاه الذي
سلكه في معالجة مشكلة تعليم الصبيان، فهي الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين،
وأحكام المعلمين والمتعلمين، والأحوال والأحكام كلاهما مستمد من الواقع لا من
المثال؛ فقد ينصرف الذهن إلى أن هذه الصورة المذكورة عن الصبيان وما يتلقون من
مواد مختلفة، وعن طريقة تعليمهم وتأديبهم وسلوكهم، وعن صلة المعلم بهم، ليست
منتزعة من الواقع، بل هي المثل الأعلى الذي ينشده القابسي في التعليم. وليس غريبًا
أن يسلك بعض المفكرين والفلاسفة طريقة مثالية في كتابتهم عن التربية؛ في الزمن
القديم كتب أفلاطون عن التربية في الجمهورية، وفي العصر الحديث أخرج روسو كتاب
"أميل" في تربية الطفل، وكلاهما مثالي لم يصف حقيقة الحال، ولم يأخذ
الناس بجميع آرائهما بعدهما، وكثيرًا ما يخرج المفكرون في مُثُلهم عن حدود القوانين
الطبيعية والاجتماعية، مما يجعل تطبيق نظرياتهم العقلية ضربًا من المستحيل، فقد
أراد روسو أن يعود بالإنسان إلى نوع من المعيشة البدائية الفطرية لا يستقيم مع حال
الحضارة، ولا يتفق مع طبيعة العمران، ولم يكن القابسي مثاليًا من طراز هؤلاء
المربين، وإنما كان يصف الواقع لا ما ينبغي أن يكون، ثم هو لا يتعدى في أحكامه
القوانين الاجتماعية"([1]).
فهذا الكتاب واقعي
يلمس الحال والحكم، أي الواقع وطريقة تكييفه والتعاطي معه بما يخدم حال التربية
الإسلامية في وقته، بل وفي وقتنا إن أحسنا الاستفادة منه.
إن مرحلة التأليف
المتخصص في مجال التربية كانت محل اهتمام جل الفقهاء، ولم يكن يشغلهم الاهتمام
بكبريات القضايا في عصرهم عن هذه المسألة المهمة التي قد يستصغرها البعض شيء؛
لكونهم رأوها إحدى المسائل الملحة التي تُكوّن الضمير والوعي العام للمجتمع
الإسلامي.
وإن لنا في ابن التبان
المالكي التونسي (ت374هـ) الذي عاصر القابسي الآنف الذكر أبرز الدليل وأبينه؛ فلقد
"كان من العلماء الراسخين، والفقهاء المبرزين. ضُربت له أكباد الإبل من
الأمصار، لعلمه بالذب عن مذهب أهل الحجاز ومصر، ومذهب مالك، وكان من أحفظ الناس
بالقرآن والتفنن في علومه، والكلام على أصول التوحيد، مع فصاحة اللسان، وكان عالماً
بالفقه والنحو والحساب والنجوم"([2]).
لقد كان لرأي ابن
التبان في مسألة تعليم وتربية النشء والشباب سابق تجربة، وكان رأيه – على سبيل
المثال – في مسألة اختيار المؤدبين أثرٌ من ماضيه في مجال التربية والتأديب، وهو
بهذا ينحو منحى القابسي في واقعية التعليم وتجريبيته، وقبل ذكر رأيه في مسألة
اختيار المؤدبين علينا أن نعايش تجربته الشخصية التي تُبين لنا مثابرته في التحصيل
والتأديب، ثم الاجتهاد والتأليف، قال رحمه الله: "كنتُ أول ابتدائي أدرسُ
الليل كله، فكانت أمي تنهاني عن القراءة بالليل، فكنتُ آخذ المصباح فأجعله تحت
الجفنة، وأتعمد النوم، فإذا رقَدَتْ أخرجتُ المصباح وأقبلتُ على الدرس - وكان كثير
الدرس ذكر أنه درس كتاباً ألف مرة - إلى أن قال لي أبي ذات يوم: يا بني ما يكونُ
منك؟ لا تعرف صنعةً، واشتغلت بالعلم ولا شيء عندك. فلما كان ذات ليلة سمعته يقول
لوالدتي: عرفت أني عُرّفت اليوم بابني؟ وذلك أني حضرت إملاكاً([3])
في مسجد - سماه - فوجدته ممتلئاً بالناس، ولم أجد مجلساً، فقام لي رجل من موضعه
وأجلسني فيه، فسأله إنسان عني، فقال له أسكت هذا والد الشيخ أبي محمد. وقال آخر:
خرج والدي محمد بن التبان يوماً من مسجد المسند، فزلق في طين، فبادر رجل وأخذ
بيده، وقال لصاحبه: هذا والد الشيخ أبي محمد الفقيه. قال: فرجع وحرّض ابنه على طلب
العلم، والتزم القيام بشأنه من يومئذ"([4]).
هذا التأديب وهذه
التنشئة التي اهتم بها والده لما رأى من إقبال الناس عليه وهو شاب صغير السن وُسِم
بالفقه والعلم، جعلته يحرّص الناس على ضرورة اختيار الأصلح والأفضل من المربين
لأبنائهم؛ فقد أُثر عنه قوله: "لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين،
فدينُ الصبي على دين معلمه ... قال: وبلغنا عن معلم عفيف، رُئي وهو يدعو حول
الكعبة ويقول: اللهم أيما غلام علمته، فاجعله في عبادك الصالحين، فبلغني أنه خرج
على يديه نحواً من تسعين عالم وصالح. وكان يتعلّم عنده جماعة من أولاد الكتاميين([5])،
ولا يأخذ منهم شيئاً، ولا يعلمهم يكتبون، يقول: لم يصلحوا بعد لذلك، حتى يصلح.
فخرج كل كتامي علمه على الكتاب والسنّة. وكان يعلّم اليتامى والفقراء لله عزّ وجلّ،
وكان صبيان الكتاب يأتونه، بدجاج وفراخ وطير بلغ، يعطونه إياه، ويقولون صدناه، لم
يقبله منهم. فإذا قالوا له وجهه إليك آباؤنا قَبِلَه؛ لأن عطيّتهم لا تجوز"([6]).
وهو بهذين النموذجين
يؤكد على واقعية التربية واعتمادها على التجريب والتطوير والتحديث عمومًا؛ لأنها
من العلوم والأساليب التي ينظر إلى الثمرة المرجوة منها في أبناء المجتمع، كما ضرب
مثلاً بالمعلم الصالح الذي خرج من تحت يديه تسعين عالمًا.
وحتى في العصور
المتأخرة سار المغاربة على الدرب ذاته في الاستقصاء والتحري على المعلم الجيد الذي
يُرجى من ورائه الخير للأولاد، وقد ربط ابن الحاج العبدري محمد بن محمد (ت737هـ)
في كتابه الرائع "المدخل"([7])
الصلة بين جودة المربي وجودة الصبي الذي يتخرج على يديه، قائلاً: "وينبغي
لآباء الصبيان أن يتخيروا لأولادهم أفضل ما يمكنهم في وقتهم ذلك من المؤدبين، وإن
كان موضعًا بعيدًا فيختارون لهم أولاً أهل الدين والتقوى، فإن كان مع ذلك عنده علم
من العربية فهو أحسن، فإن زاد على ذلك بالفقه فهو أولى، فإن زاد عليه بكبر السن
فهو أجلّ، فإن زاد عليه بورع وزهد فهو أوجب، إلى غير ذلك إذ إنه كيفما زادت الخصال
المحمودة في المؤدب زاد الصبي به تجملاً ورفعة"([8]).
نُشر في مجلة الوعي الإسلامي الشبابي الإلكترونية
نُشر في مجلة الوعي الإسلامي الشبابي الإلكترونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق