الثلاثاء، 25 نوفمبر 2014

لماذا سقطت بغداد العباسية (2) ؟

رأينا في مقالنا السابق كيف اختارت الحاشية خليفة ضعيف الرأي، مهيض الجناح، سهل القياد، وأرغمت الأسرة العبّاسية وعلى رأسها أعمام الخليفة الجديد على المبايعة قسرًا بعد منع الطعام، والإقامة الجبرية، ورأينا كيف ساهمت هذه الحاشية الفاسدة في إقصاء الخافجي وهو الشخصية التي ينتابها الغموض، خلا ما وصفت به في مصنفات ذلك العصر بالقوة والنجابة والشجاعة، ومن ثم كان عاقبة هذا الاختيار الفاسد وخيمة فيما بعد، ليس على العراق فقط أو بغداد بل على أجزاء واسعة من العالم الإسلامي!
لقد ازدادت حالة العراق الداخلية سوءًا في زمن المستعصم؛ ففضلا عن كونه ساذجًا في أمور الحكم والرعية كان تسلط أعوانه عليه، وطمعهم فيه، وعملهم على الاستئثار بالسلطة دونه السبب في التنازع والشقاق ومن ثم السقوط في الهاوية في نهاية الأمر، ومن هنا كان استهتار العامة بالحكومة وكثرة الفتن، وتفشي القلاقل، فضلا عن بخل المستعصم وجمعه للأموال من العوامل الأساسية لهذا الانهيار!
حاشية متنازعة!
فعلى صعيد التنازع بين كبار رجال الدولة؛ ظهرت عند موت الخليفة المستنصر والد الخليفة المستعصم قوى نظامه في ثوب التآمر، وكان أبرز رجاله الأمير الكبير إقبال الشرابي قائد الجيوش العباسية منذ عام 626هـ وقد توفي سنة 653هـ، والدوادار الصغير مجاهد الدين أيبك وكان من كبار أمراء الجيش العباسي يرأس فرقة مكونة من 10 آلاف جندي وقتله هولاكو لما استولى على بغداد سنة 656هـ، وأستاذ دار الخلافة أي القائم على مدينة الحكم والخلافة مؤيد الدين بن العلقمي (ت656هـ) والذي أصبح وزيرًا للمستعصم منذ عام 642هـ.
هؤلاء الثلاثة اتفقوا فيما بينهم على البيعة للمستعصم ليتمكن كل منهم من الاستئثار بالسلطة لنفسه؛ لكن ذلك كان له الأثر السيء فيما بينهم كذلك، إذ كان سببًا في العداوة والمكر والتنازع وهو ما ظهر أثره على الخليفة والخلافة كلها؛ منذ بداية تعيين ابن العلقمي وزيرًا سنة 642هـ.
يبدو أن مجاهد الدين أيبك كان يتمنى أن يكون وزيرًا للخليفة المستعصم؛ فضلا عن ذلك رأى أن ابن العلقمي بدأ ينافسه في التقرب من الخليفة بل تطورت العلاقة إلى أصبح ابن العلقمي محببًا من الخليفة وكاتم أسراره الأمر الذي دفع مجاهد الدين لإبعاد ابن العلقمي بكل ما أوتي من قوة، ورأى أن خير طريقة هي إرهابه، وقد سلك لهذا الغرض طريقًا غير شريف إذ جمع حوله كثيرًا من اللصوص والعيارين وأخذ يهدد أمن العاصمة، ولما أعيته الحيل أخذ يدبر لخلع الخليفة نفسه؛ وإقامة آخر مكانه؛ غير أن ابن العلقمي كان فطنًا لهذه المحاولات اليائسة من مجاهد الدين؛ فأعلم الخليفة بها وطلب منه أن يقضي على مدبرها.
أثر التنازع !
لكن الخليفة انصاع للأقوى فيهما مجاهد الدين أيبك، بل استدعاه وأخبره بما نقله إليه ابن العلقمي، وأكد له أن ثقته منوطة به، بل كتب له مرسومًا يجدد له الثقة فيه، وأن كل ما قاله عنه ابن العلقمي كذب وخداع، بل أكثر من ذلك أمر بذكر اسمه في الخطبة بعد اسم الخليفة وتخلى بمنتهى السهولة عن ابن العلقمي[1]!
وكان لتقريب مجاهد الدين أكبر الأثر في حنق ابن العلقمي على الخليفة والخلافة كلها، لأن مخططه للسيطرة على الخلافة ولنشر التشيع في العاصمة بدا أنه سقط من على ارتفاع شاهق، وإن ظل برغم ذلك قريب منه، مدبر للمكائد مدة 14 عامًا متوالية؛ ولنا وقفة معه بعد قليل.
وقد كان لهذا النزاع الذي استمر أعومًا طويلة، والبلاهة التي امتاز بها المستعصم الأثر الكبير على إضعاف قوام الجيش وقوته ومعداته، فرغم القوة التي كان قد وصل لها الجيش في العدد والعتاد في خلافة المستنصر والتي ظهرت جلية حتى الأعوام الأولى لخلافة ولده المستعصم والتي انتصر فيها الجيش العباسي في بعقوبا شمال بغداد على التتار سنة 643هـ[2] إلا أن هذا الوضع قد تغير إلى الأسوأ مع الشح وسوء التقدير الذين وصف بهما الخليفة الأخير، للدرجة التي وبّخ هولاكو – عند احتلاله بغداد – المستعصم بسببها؛ فقد ذكر بعض المؤرخين أن المستعصم حينما وقع في الأسر ومُنع عنه الطعام وشعر بالجوع أمر هولاكو أن يُقدم إليه الكنوز؛ فقال له: إن الكنوز لا تُزيل جوعًا، فرد عليه هولاكو بقوله: "إذا كانت الكنوز لا تسد الرمق، وإذا كانت لا تحفظ الحياة؛ فلماذا لم تعطها لجنودك ليحموك أو إلى جنودي ليُسالموك"[3].
وأيًا ما كان صحة هذا الحوار المنقول بين المستعصم وهولاكو فإن عدد الجيش العباسي قد تقلص بالفعل، قال أبو الفداء في "المختصر في أخبار البشر": "كان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس، فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس"[4].
ولا شك أن إستراتيجية تقليل عدد الجيش توفيرًا للأموال، ولحمل جزء منها إلى التتار كان من مشورات ابن العلقمي التي وجدت بلا شك هوى عند المستعصم المحب للمال بطبعه؛ بل يؤيد ذلك قول الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك: "لو مكنني أمير المؤمنين المستعصم لقهرتُ التتار، ولشغلت هولاكو بنفسه"[5]. الذي يبدو منه بلا شك أن المستعصم كان عازفًا عن سماع نصيحة قادة جيوشه، غير آبه لهم، بل يأمرهم بلزوم أماكنهم وعدم مجاهدة التتار. ولا شك أن هذه كارثة في القيادة بكل تأكيد، ولذلك لا نستغرب الوصف المتكرر في تراجم المؤرخين والباحثين عنه والتي تصفه كلها بالخليفة "ضعيف الرأي"!
قال ابن الفوطي: "كان الخليفة قد أهمل حال الجند ومنعهم أرزاقهم وأسقط أكثرهم من دساتير ديوان العرض[6]، فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس، وبذل وجوههم في الطلب في الأسواق والجوامع، ونظم الشعراء في ذلك الأشعار فمما قاله المجد النشّابي[7] من قصيدة جاء فيها:
يا سائلي ولمحض الحقّ يرتاد ... أصخ فعندي نشدان وإنشاد
أما الوزير فمشغول بعنبره *** والعارضان فنسّاج ومدّاد
وحاجبُ الباب طورًا شاربٌ ثملٌ *** وتارة هو جنكي وعوّادُ
وشيخ الإسلام صدر الدين همّته *** مقصورة لحُطام المال يصطادُ
وا ضيعة الملك والدّين الحنيف وما *** تلقاه من حادثات الدّهر بغدادُ
أين المنية مني كي تُساورني *** فللمنية إصدار وإيرادُ
هتك وقتل وأحداث يشيب بها ... رأس الوليد وتعذيب وأصفاد[8]
كل هذا قد صاحبه سوء الخدمات واضطراب الأمن في العاصمة، للدرجة التي غرقت فيها في جمادى الأولى سنة 654هـ وكان هذا الغرق سببًا في سوء الأوضاع الاجتماعية بل وتدمير العتاد الحربي الذي كان في الخزائن آنذاك، يقول اليونيني: "أصابها غرق عظيم حتى دخل الماء من أسوار بغداد إلى البلد وغرق كثير من البلد ودخل الماء دار الخليفة وسط البلد وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً وانهدم مخزن الخليفة وهلك من السلاح شيء كثير وعادت السفن تدخل إلى وسط البلد وتتخرق أزقة بغداد"[9].
مع هذا الخراب الذي لحق بالعاصمة ومؤنها وعتادها، تجدد المناوشات بين السنة والشيعة وقد وصلت إلى أعلى ذروتها في سنة 655هـ أدى لتدخل الخلافة – وهذه من المرات القليلة التي تتخلى فيها عن حيادها – إلى توجيه ضربة قاسية لحي الكرخ الشيعي، يقول ابو الفداء في تاريخه: "جرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد، على جاري عادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركنُ الدين الدوادار العسكرَ، فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء، وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد"[10].
باختصار لا نرى في نهاية هذا المقال أفضل من وصف الدكتور الصلابي لشخصية المستعصم وسياسته التي يقول فيها: "كان الضعف القيادي في شخصية المستعصم من الأسباب والمقدمات في زوال الدولة العباسية، لم يحسن اختيار الوزراء، وليست له قدرة على المتابعة والمحاسبة وكان يقاد ولا يقود، وكان سلوكه هذا سبباً لجرأة بعضهم عليه واستغفاله وتحديه فازدادت الفتن في زمانه وازداد التذمر وازداد تدهور الحياة الاقتصادية وانتشار الغلاء وسيطر اللصوص والشطار العيارون ينهبون ويسلبون أمام الشرطة وصاحبها أو بالتواطؤ معه والخليفة لا يحاسب صاحب الشرطة ولا يحاسب الوزير الذي هيمن على حميع الأمور في البلاد وولاياتها التي انفصلت واستقلت، والوزير ابن العلقمي يمهد للانقلاب، حتى يسهل تمرير المؤامرة لازالة السيادة الإسلامية، واسقاط الخلافة، لقد غابت القيادة الحكيمة الربانية والتي تحدث عنها المولى عز وجل في كتابه وبين صفاتها وأخلاقها لكي تعمل الأمة على إيجادها، ولكن الأمة تركت حقها في الاختيار، وتأثرت مع الزمن والوقت بمعاول هدم روح المبادرة، والمحاسبة والمتابعة والوقوف ضد أخطاء الحكام، وأصبح الخليفة محمي بقداسة وهمية صنعت لهذا المنصب مع مرور الزمن، والابتعاد عن روح الشريعة ومقاصدها الغراء"[11].




[1] مصطفى بدر: محنة الإسلام الكبرى ص133، 134.
[2] الدياربكري: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس 2/372.
[3] مصطفى بدر: محنة الإسلام الكبرى ص135.
[4] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/194.
[5] الذهبي: سير أعلام النبلاء 32/371.
[6] أحد الدواوين المتعلقة بالشئون العسكرية في زمن العباسيين المتأخر.
[7] هو مجد الدين أسعد بن إبراهيم بن الحسن الكاتب الإربلي ولد سنة 581هـ استوطن بغداد وكان أحد شعراء الديوان، كان مقدامًا على الهجو والسب، كثير التعرّض بأرباب الدولة، سلم من وقعة المغول سنة 656هـ لكنه توفي في آخر السنة نفسها. الحوادث الجامعة هامش ص350.
[8] ابن الفوطي: الحوادث الجامعة ص350، 351.
[9] اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/8.
[10] أبو الفدا: المختصر في أخبار البشر 3/193.
[11] الصلابي: المغول بين الانتشار والانكسار ص212.

الاثنين، 17 نوفمبر 2014

ملاذكرد .. انتصار القلة المؤمنة!

كان السلاجقة قوما من قبائل وسط آسيا، بدأوا بتكوين دولتهم من خلال استعانة الدويلات الإسلامية بهم في الجهاد والتوسع، وسرعان ما توسعوا وقويت شوكتهم على أنقاض السامانيين والغزنويين، ثم استعانت بهم الخلافة العباسية للتخلص من نير البويهيين الشيعة وتسلّطهم سنة 447هـ، وظهر منهم سلاطين عظام مثل ألب أرسلان وملكشاه وطغريل بك وغيرهم، واستطاعوا أن يجاهدوا في سبيل الله، وينشروا الإسلام في مناطق التماس مع الروم والأرمن وغيرهم، ونتيجة لهذا التوسع قرر الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس في سنة 463هـ أن يخرج لمهاجمة الديار الإسلامية في جيش جرار قوامة مائتي ألف مقاتل، جمعهم من بلاد الروم والروس والفرنج والأرمن وغيرهم، لقد كانت الحرب كانت حربًا أوربية بامتياز، يقول ابن الأثير: "جاءوا في تجمل كثير، وزيّ عظيم، وقصد بلاد الإسلام فوصلوا إلى ملازكرد من أعمال خلاط فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر وهو بمدينة خوى من أذربيجان قد عاد من حلب وسمع ما فيه ملك الروم من كثرة الجموع فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو"[1].
ومنطقة ملاذكرد تقع عند أعلى نهر الفرات شمال بحيرة فان بالقرب من أرمينيا والتي تقع الآن أقصى شرقي تركيا، ويبدو أن الإمبراطور البيزنطي كان يريد اختراق ثغور المسلمين من ناحية الجزيرة والتوغل في الأراضي الإيرانية، وقد فطن السلطان ألب أرسلان لخطة العدو، وكان في ذلك الوقت قد بلغ أذربيجان في خمسة عشر ألف مقاتل فقط، فتقدم بسرعة لوقف زحف العدو، ويقال إنه انزعج عندما شاهد ضخامة جيش العدو لدرجة أنه أرسل إلى الإمبراطور رومانوس يطلب المهادنة، وكان هدفه من ذلك كسب الوقت ريثما تصله الإمدادات، غير أن الإمبراطور قد أصر على الحرب ومواصلة الزحف، وقال: "إني قد أنفقتُ الأموال الكثيرة، وجمعتُ العساكر الكثيرة، للوصول إلى مثل هذه الحالة، فإذا ظفرت بها، فكيف أتركها هيهات، لا هدنة إلا بالرّى [عاصمة السلاجقة] ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فُعل ببلاد الروم"[2].
 وهذه الرواية التي يذكرها ابن الجوزي في "المنتظم" توضح الدافع الذي أخرج رومانوس بهذه الجيوش الجرارة؛ فقد كانت في نظره ردة فعل طبيعية لجهاد السلاجقة في منطقة القوقاز الجنوبي، واستيلائهم على أجزاء وحصون كبيرة منها، مما هدد الروسيين في الشمال والبيزنطيين في الشرق ومن ورائهم الفرنجة في الغرب الأوربي، ومن ثم لا نستغرب من هذا الجيش المختلط من أمم شتى!
لذا أيقن السلطان ألب أرسلان أن انتظاره لقوات معاونة تأتي من العراق أو الري في إيران سيستغرق وقتًا طويلاً وسيتسبب حتمًا في احتلال البلاد الإسلامية إن تقاعس عن الدفاع، ومن ثم نراه يتخذ قرارًا شجاعًا لأقصى درجة يقرر فيه بإيمان المؤمن بالله، المستمد قوته منه وحده، مواجهة القوة البيزنطية التي تقدر بمائتي ألف بجيشه الصغير الذي لا يتعدى الخمسة عشر ألف مقاتل، وهذا ما ينقله الأصفهاني بقوله: "ورأى السلطان أنه إن تمهّل لحشد الجموع ذهب الوقت وعظم البلاء وثقلت أعباء العباد، فركب في نخبته، وتوجه في عصبته وقال: أنا أحتسبُ عند الله، وإن سعدتُ بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر ... وإن نُصرتُ فما أسعدني، وأنا أمسى ويومي خير من أمسي"[3].
وينقل لنا المؤرخ الكبير ابن الأثير الموصلي رواية أخرى يظهر فيها دور العلماء في تحفيز القادة والجند، فإن ألب أرسلان لما قوبل طلبه للهدنة بالرفض انزعح للغاية حتى بدا عليه ذلك، فما كان من إمامه وفقيهه ومعلمه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي أن قال له: "إنك تقاتلُ عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فألقهم يوم الجمعة بعد الزوال بالساعة التي تكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة"[4].
وبالفعل ارتضى ألب أرسلان هذا القول من فقيهه، وهو موقف يشبه إلى حد كبير ما كان من آق شمس الدين مؤدب محمد الفاتح فاتح القسطنطينية بعد ذلك بأربعة قرون كاملة، "فلما كان تلك الساعة صلى بهم وبكى السلطان فبكى الناس لبكائة، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف فما ههنا سلطان يأمر وينهى وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله ولبس البياض وتحنط وقال: إن قُتلتُ فهذا كفني، وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجّل وعفّر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت إليه العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقُتل منهم ما لا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى وأُسر ملك الروم"[5].
وينقل عدد من المؤرخين حوارًا رائعًا بين ملك مسلم له قاعدة واضحة يتكئ عليها في كل معاملاته بما في ذلك أوقات حروبه وجهاده، وبين إمبراطور الروم الذي وقع في الأسر، يقول ابن الأثير: "وأخبره بأسر الملك فأمر بإحضاره، فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاثة مقارع بيده، وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيتَ. فقال: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد. فقال السلطان: ما عزمت ما تفعل بي إن أسرتني. فقال: أفعلُ القبيح. قال له: فما تظن أنني أفعل بك. قال إما أن تقتلني وإما أن تُشهّرَني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبًا عنك. قال: ما عزمتُ على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها"[6].
والحق أن هذه الموقعة الحربية التي تبهر كل من يقرأ تفاصيلها التي لا يتسع المقام عن ذكرها، ويتتبع كم الشجاعة الفائقة التي اتصف بها السلطان السلجوقي وعساكره الأقوياء، تبهرنا كذلك في النتائج التي ترتبت عليها؛ فقد مهدت الطريق أمام جيوش المسلمين للتوغل في بلاد آسيا الصغرى، واقتطاع هذه الأقاليم المهمة من ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية لأول مرة منذ قيامها؛ فقد وجه إليها ألب أرسلان ابن عمه سليمان بن قتلمش الذي استوطنها برجاله، وأقام هناك دولة سلاجقة الروم، وستكون هذه الدولة أطول الدويلات السلجوقية عمرًا، وعلى إثرها يخرج العثمانيون أسياد العالم في القرون الوسطى الحديثة.
والنتيجة الأخرى المهمة التي ترتبت على هذه المعركة الحاسمة هي قيام الحروب الصليبية، "وذلك لأن أخبار هزيمة الروم وعدم تمكنهم من حشد جيش آخر لرد الخطر التركي السلجوقي أثار مخاوف الدول الأوربية، صحيح أن العلاقات بين روما والقسطنطينية كانت عدائية بسبب ما قام بين الكنيسة الرومانية من خلاف مذهبي انتهى بانفصال الكنيسة الشرقية في القسطنطينية عن الكنيسة الغربية في روما سنة 1054م أي قبل موقعة ملاذكرد بنحو ثمانية عشر عامًا، إلا أنه على الرغم من ذلك كان الغرب اللاتيني ينظر إلى الدولة البيزنطية على أنها الحصن الأمامي الذي يحمي المسيحية ضد الإسلام في الشرق، ومن ثم يجب على الغرب المسيحي أن يمد لها يد المساعدة، وقد اهتم البابوات في روما بأمر هذه المساعدة، نذكر منهم البابا جريجوري السابع (1073 – 1085م)، والبابا أوربان الثاني (1088 – 1099م) فأخذوا يحرضون ملوك أوربا على مساعدة بيزنطة واتخذوا من هذه المسألة عاملاً مهمًا لتحقيق أهدافهم الصليبية"[7].




[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/323. تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى – بيروت، 1997م.
[2] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك 16/124. تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 1992م.
[3] الأصفهاني: تاريخ آل سلجوق ص37، 38. دار الكتب العربي – مصر، 1900م.
[4] ابن الأثير: الكامل 8/388.
[5] ابن الأثير: الكامل 8/388، 389.
[6] ابن الأثير: الكامل 8/389.
[7] أحمد مختار العبادي: في التاريخ العباسي والفاطمي ص187، 188. دار النهضة العربية – بيروت.

الأحد، 2 نوفمبر 2014

الخان .. قصة مُنشأة خدمية في حضارتنا!

الخان كلمة فارسية الأصل معناها المنزل، وقد تطورت دلالتها للمكان المخصّص للمسافرين والتجّار وطلبة العلم وغيرهم، قال ابن منظور: "والخَانُ الحانُوتُ أَو صاحب الحانوتِ؛ فارسي معرّب، وقيل الخانُ الذي للتِّجارِ"[1].
فالخان بمثابة الفندق الذي أُعدّ لهؤلاء المسافرين أيًا كانت مهنتهم، وكان الهدف الأساسي من وجوده "توفير الغذاء والمأوى للمسافرين والتجّار، وقد ظهرت الخانات في الدولة الإسلامية منذ فترة مبكرة في عصر الدولة الأموية في أواخر القرن الأول من الهجرةِ"[2]؛ ومِن أقدم المصادر التاريخية التي ذكرت الخانات واهتمام ولاة المسلمين ببنائها، نجد ابن سعد ت230هـ/844م في "الطبقات الكبرى"، فقال: "كتب عمر بن عبد العزيز أن تُعمل الخانات بطريق خراسان"[3].
 وقد كان وجود الخانات ضروريًا نتيجة للمساحة الهائلة للدولة الإسلامية من بلاد ما وراء النهر شرقًا إلى المغرب والأندلس غربًا، ومن بلاد الروم شمالاً إلى بلاد النوبة والسودان جنوبًا وغربًا، وهو ما أدى إلى التمازج بين أبناء هذه الدولة، وازدهار حركة العلم وطلبه، والتجارة والمعاملات الاقتصادية، فكانت الخانات تيسيرًا على هؤلاء من عناء السفر.
أنماط الخانات
كانت الخانات في أول عهدها بسيطة الشكل، تؤدي الحاجة المطلوبة منها، ثم سرعان ما تطور شكل الخان ونمطه ليلبّي المرجوّ منه متأثّرا بالثقافة والعمارة الإسلامية؛ فقد جرت العادة أن يتألّف الخان من باب كبير ذي مصراعين ضخمين يتسع لدخول الرواحل المحمّلة بالبضائع، أو من باب كبير واحد، فيه بابٌ صغير في وسطه يسمى "الخوخة" لدخولِ الناس إذا لم يكن هناك حاجة لفتح الباب الكبير، وهذا الباب تحيط به واجهة مزخرفة ذات عقود وأبراج، ويؤدي إلى باحةٍ سماوية واسعة قد تتوسطها بركة ماء، ويحفّ بالباحة حُجرات متنوعة، ومحلاتٍ لإيداع البضائع أو بيعها، ومكاتب للتجارة تودع فيها العروض وما إليها، إضافة إلى المسجد، وبئر الماء في جانب تلك الباحة. وثمة أقسام ملحقة بهذا الطابق الأرضي لإيواء الدوابّ، وفيه أيضاً بيطريّون وعلفٌ للرواحل.
وفوق هذا الطابق الأرضي طابق علوي مخصص لنوم نزلاء الخان من المسافرين والتجار والحجّاج وطلاب العلم الوافدين من بلاد أخرى، فيجتمعون في الخان الذي يشرف على إدارته رجال مهمتهم تجهيز النزلاء بما يحتاجون إليه من مبيت وإقامة، يضاف إليهم عمال يقومون بتنظيم أمور الخان وتنظيفه[4].
على أن الخانات في بلاد الشام والعراق ومصر والروم قد اتخذت في الغالب نمطين من الأشكال تنوعا بحسب مكان الخان، فالخان الذي في طرق السفر والمناطق النائية والبعيدة عن المدن والعُمران، غالبًا ما كان يُبنى بالقرب من الأنهار والآبار والعيون كل ميزته وجود مكان للدواب في الأسفل والمسافرين في الأعلى ولا غير، بخلاف الخان الذي كان يُبنى في المدن أو في مداخلها، فقد كان يشترك مع خانات الطرق فيما تقدّم لكنه يمتاز عنها بخدمات أخرى كوجود الحمّام والمطعم والبيطار وقربه من الأسواق أو فيها[5].
وظيفة الخان الحضارية
أُنشئ الخان كمصلحة اقتضتها الحاجة الملحّة، واللافت أن هذه المنشأة الخدمية لم يتوقف بناؤها على عاتق الدولة الإسلامية فقط، فقد قام أهل الخير والغنى بإنشاء هذه الخانات والفنادق في طول البلاد وعرضها؛ ابتغاءً للأجر والثواب؛ واللافت كذلك اشتراك بعض المحدّثين وطلبة العلم في إنشائها فهذا المحدّث أحمد بن محمد الأستراباذي يبني خانًا في بلدته أستراباذ في شمال إيران فيُشتهر به[6]، وهذا أبو جعفر محمد بن عاصم الشهير بصاحب الخانات المحدّث الشهير في بغداد[7] وغيرهم.
وهذا باب عظيم لم نكد نره في أي حضارة من الحضارات السابقة على هذه الصورة التي قدّمتها الحضارة الإسلامية وتوسّعت فيها؛ إذ كان كثير من هذه الخانات موقوف، والوقف كما هو معروف حبس الأصل وتسبيل المنفعة ابتغاء لرضا الله وثوابه، أو كان أهل اليسار والغنى يوقفون على هذه الخانات أوقافًا لعمارتها وتجديدها وتقديم ما يلزم للمسافرين والتجار وطلبة العلم والقائمين عليها من وسائل الراحة والأمان والغذاء والكسوة في بعض الأحيان دون تقديم مقابل مالي، اللهم في حالات قليلة أخرى!
فهذان عالمان يحضر أحدهما للآخر المسافر في خان قرب دمشق للتدارس في حديث رسول الله r في القرن الرابع الهجري على ما يذكر ابن عساكر في تاريخه[8].
وهذان شاعران أحدهما الشاعر الشهير دعبل بن علي والآخر أحمد بن الحجّاج مولى أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، يلتقيان في القرن الثالث الهجري بخان على الطريق من بغداد إلى مصر، يذكر صدفة اللقاء في الخان وطرافة قصتهما ابن المعتزّ ت 296هـ/908م في كتابه "طبقات الشعراء"[9].
وهذا المحدّث سعدان بن يزيد البزّاز المتوفى سنة 262هـ/875م يتّقي المطر والرعد بخان في الطريق يتأمل فيه عظمة الخالق، فيقول: "كنتُ في بعض أسفاري، فنزلتُ بعض الخانات، فكانت ليلة مطيرة ورعد وبرق، فنام أهل الخان، وجلستُ أفكّر في عظمة الله، يعني: فنمتُ، فإذا ابن لي قد كنت أقصيته وأبعدته، وإذا هو يخضع لي ويقرب مني، وأنا أقصيه وأبعده، ثم انتبهت، فصاح بي صائح من جانب الخان، يا سعدان بن يزيد قد رأيت عظمته، فافهم كذا يغضب عليك إذا عصيته ويتحنّن عليك إذا أرضيته"[10].
وقد وصف لنا المستشرق الفرنسي جاستون فييت بعض خانات القاهرة في العصر المملوكي في كتابه الماتع "القاهرة مدينة الفنّ والتجارة" بقوله: "هناك خان من نوعٍ خاصّ عند مدخل المدينة شمالي باب الفتوح سُمح للمسافرين بالنزول فيه مجانًا، ونظرًا لموقعه في ظاهر المدينة فقد تحوّل إلى مستشفى للمرضى بأمراض معدية، وهناك خان آخر استُخدم كمصرفٍ أودع فيه التجّار صناديق المال المملوءة بالذهب والفضّة ... وفي الحيّ نفسه كان هناك خان قوصون أو وكالة قوصون الذي استخدمه التجّار السوريون لخزن بضائعهم مثل الزيت والسيرج والصابون والدّبس والفستق والجوز واللوز والخرنوب. وكان فندق دار التفّاح بالقرب من مسجد المؤيّد أشبه بوكالة كبيرة للفواكه على اختلاف أنواعها، كما وُجد خان آخر كانت تُستخدم إيراداته لفدية أسرى الحرب واشتمل على اثني عشر حانوتًا وخمسة حمّامات وثمانية وخمسين مخزنًا وست غرف كبيرة وفناء وخمسة رِباع، وخمسًا وسبعين حُجرة للنُزلاء، وخمسة حمّامات في الطوابق العلوية"[11].
ويُفهم من هذا أن وظيفة الخان في المدن في العصور الإسلامية المتأخرة كانت استقبال التجار بشكلٍ عامٍ؛ من باعة الجُملة ومُروّجي البضائع ومراسلي المستوردين والوسطاء، وفي هذا المكان كان يتمّ البيع والشّراء، وكأنّ المكان لم يعد لإيواء المُسافرين بل استقبالهم ريثما يتمّون تجارتهم، وكما كان لكلّ بضاعةٍ دار، صار لها خان يرتبط اسمه بها، إن لم يرتبط باسم مؤسّسه أو مالكه؛ فهنالك خان الحرير وخان الحبّالين في دمشق، وخان الجوخ في استنبول، وخان الخيّاطين والصّابون في طرابلس، وخان الزّيت وخان الحرير في حلب. وكان بعضها عظيم الاتساع كخان الجُمرك في حلب الذي يعود تاريخه إلى عام 1574م. فقد ضمّ اثنين وخمسين مخزنًا، وسبعًا وسبعين غرفة، وسوقين مبنيين بالحجر المُهندَم، يصل إليهما الضّوء من قببٍ عشر تعلوها، وكان مجموع دكاكينه ثلاثمائة وأربعة وأربعين، وإلى جانبها سبيلان ومسجد[12].
وبعد هذا التطواف السريع رأينا كيف أنّ منشأة الخان أو الفندق أو الوكالة كانت إبداعًا حضاريًا إسلاميًا رائقًا، قدّمت عبر مئات القرون خدماتها المجّانية في الغالب لكافة الناس من المسافرين والتجّار وطلبة العلم وغيرهم داخل المدن الإسلامية وخارجها، فكانت صورة ذهبية من صور هذه الحضارة الخالدة واهتمامها بالمسلم في ترحاله!

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي - عدد مجرم 1436هـ/نوفمبر 2014م



[1] ابن منظور: لسان العرب، مادة خون 13/144. دار صادر، الطبعة الأولى – بيروت.
 Encyclopedia Britannica: khan [2]
[3] ابن سعد: الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا 5/266. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 1990م.
[4] محمود الفاخوري: الموسوعة العربية، مادة "الخانات" ص741.
[5] انظر: ثروت عكاشة: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية ص70 وما بعدها. دار الشروق – القاهرة، 1994م.
[6] الجرجاني: تاريخ جرجان، تحقيق محمد عبد المعيد خان ص511. عالم الكتب، الطبعة الرابعة – بيروت، 1987م.
[7]  الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، تحقيق بشّار عواد 4/232. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى – بيروت، 2002م.
[8] تاريخ ابن عساكر، تحقيق عمرو بن غرامة العمروي 5/115. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995م.
[9] ابن المعتزّ: طبقات الشعراء، تحقيق عبد الستار فرج ص301. دار المعارف، الطبعة الثالثة – القاهرة.
[10] تاريخ بغداد 10/281.
[11] جاستون فييت: القاهرة مدينة الفنّ والتجارة ص198، 199. مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر – بيروت، 1968م.
[12] نبيلة القوصي: الخانات في دمشق القديمة 1، مقال على موقع نسيم الشام على الإنترنت.