الأحد، 2 نوفمبر 2014

الخان .. قصة مُنشأة خدمية في حضارتنا!

الخان كلمة فارسية الأصل معناها المنزل، وقد تطورت دلالتها للمكان المخصّص للمسافرين والتجّار وطلبة العلم وغيرهم، قال ابن منظور: "والخَانُ الحانُوتُ أَو صاحب الحانوتِ؛ فارسي معرّب، وقيل الخانُ الذي للتِّجارِ"[1].
فالخان بمثابة الفندق الذي أُعدّ لهؤلاء المسافرين أيًا كانت مهنتهم، وكان الهدف الأساسي من وجوده "توفير الغذاء والمأوى للمسافرين والتجّار، وقد ظهرت الخانات في الدولة الإسلامية منذ فترة مبكرة في عصر الدولة الأموية في أواخر القرن الأول من الهجرةِ"[2]؛ ومِن أقدم المصادر التاريخية التي ذكرت الخانات واهتمام ولاة المسلمين ببنائها، نجد ابن سعد ت230هـ/844م في "الطبقات الكبرى"، فقال: "كتب عمر بن عبد العزيز أن تُعمل الخانات بطريق خراسان"[3].
 وقد كان وجود الخانات ضروريًا نتيجة للمساحة الهائلة للدولة الإسلامية من بلاد ما وراء النهر شرقًا إلى المغرب والأندلس غربًا، ومن بلاد الروم شمالاً إلى بلاد النوبة والسودان جنوبًا وغربًا، وهو ما أدى إلى التمازج بين أبناء هذه الدولة، وازدهار حركة العلم وطلبه، والتجارة والمعاملات الاقتصادية، فكانت الخانات تيسيرًا على هؤلاء من عناء السفر.
أنماط الخانات
كانت الخانات في أول عهدها بسيطة الشكل، تؤدي الحاجة المطلوبة منها، ثم سرعان ما تطور شكل الخان ونمطه ليلبّي المرجوّ منه متأثّرا بالثقافة والعمارة الإسلامية؛ فقد جرت العادة أن يتألّف الخان من باب كبير ذي مصراعين ضخمين يتسع لدخول الرواحل المحمّلة بالبضائع، أو من باب كبير واحد، فيه بابٌ صغير في وسطه يسمى "الخوخة" لدخولِ الناس إذا لم يكن هناك حاجة لفتح الباب الكبير، وهذا الباب تحيط به واجهة مزخرفة ذات عقود وأبراج، ويؤدي إلى باحةٍ سماوية واسعة قد تتوسطها بركة ماء، ويحفّ بالباحة حُجرات متنوعة، ومحلاتٍ لإيداع البضائع أو بيعها، ومكاتب للتجارة تودع فيها العروض وما إليها، إضافة إلى المسجد، وبئر الماء في جانب تلك الباحة. وثمة أقسام ملحقة بهذا الطابق الأرضي لإيواء الدوابّ، وفيه أيضاً بيطريّون وعلفٌ للرواحل.
وفوق هذا الطابق الأرضي طابق علوي مخصص لنوم نزلاء الخان من المسافرين والتجار والحجّاج وطلاب العلم الوافدين من بلاد أخرى، فيجتمعون في الخان الذي يشرف على إدارته رجال مهمتهم تجهيز النزلاء بما يحتاجون إليه من مبيت وإقامة، يضاف إليهم عمال يقومون بتنظيم أمور الخان وتنظيفه[4].
على أن الخانات في بلاد الشام والعراق ومصر والروم قد اتخذت في الغالب نمطين من الأشكال تنوعا بحسب مكان الخان، فالخان الذي في طرق السفر والمناطق النائية والبعيدة عن المدن والعُمران، غالبًا ما كان يُبنى بالقرب من الأنهار والآبار والعيون كل ميزته وجود مكان للدواب في الأسفل والمسافرين في الأعلى ولا غير، بخلاف الخان الذي كان يُبنى في المدن أو في مداخلها، فقد كان يشترك مع خانات الطرق فيما تقدّم لكنه يمتاز عنها بخدمات أخرى كوجود الحمّام والمطعم والبيطار وقربه من الأسواق أو فيها[5].
وظيفة الخان الحضارية
أُنشئ الخان كمصلحة اقتضتها الحاجة الملحّة، واللافت أن هذه المنشأة الخدمية لم يتوقف بناؤها على عاتق الدولة الإسلامية فقط، فقد قام أهل الخير والغنى بإنشاء هذه الخانات والفنادق في طول البلاد وعرضها؛ ابتغاءً للأجر والثواب؛ واللافت كذلك اشتراك بعض المحدّثين وطلبة العلم في إنشائها فهذا المحدّث أحمد بن محمد الأستراباذي يبني خانًا في بلدته أستراباذ في شمال إيران فيُشتهر به[6]، وهذا أبو جعفر محمد بن عاصم الشهير بصاحب الخانات المحدّث الشهير في بغداد[7] وغيرهم.
وهذا باب عظيم لم نكد نره في أي حضارة من الحضارات السابقة على هذه الصورة التي قدّمتها الحضارة الإسلامية وتوسّعت فيها؛ إذ كان كثير من هذه الخانات موقوف، والوقف كما هو معروف حبس الأصل وتسبيل المنفعة ابتغاء لرضا الله وثوابه، أو كان أهل اليسار والغنى يوقفون على هذه الخانات أوقافًا لعمارتها وتجديدها وتقديم ما يلزم للمسافرين والتجار وطلبة العلم والقائمين عليها من وسائل الراحة والأمان والغذاء والكسوة في بعض الأحيان دون تقديم مقابل مالي، اللهم في حالات قليلة أخرى!
فهذان عالمان يحضر أحدهما للآخر المسافر في خان قرب دمشق للتدارس في حديث رسول الله r في القرن الرابع الهجري على ما يذكر ابن عساكر في تاريخه[8].
وهذان شاعران أحدهما الشاعر الشهير دعبل بن علي والآخر أحمد بن الحجّاج مولى أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، يلتقيان في القرن الثالث الهجري بخان على الطريق من بغداد إلى مصر، يذكر صدفة اللقاء في الخان وطرافة قصتهما ابن المعتزّ ت 296هـ/908م في كتابه "طبقات الشعراء"[9].
وهذا المحدّث سعدان بن يزيد البزّاز المتوفى سنة 262هـ/875م يتّقي المطر والرعد بخان في الطريق يتأمل فيه عظمة الخالق، فيقول: "كنتُ في بعض أسفاري، فنزلتُ بعض الخانات، فكانت ليلة مطيرة ورعد وبرق، فنام أهل الخان، وجلستُ أفكّر في عظمة الله، يعني: فنمتُ، فإذا ابن لي قد كنت أقصيته وأبعدته، وإذا هو يخضع لي ويقرب مني، وأنا أقصيه وأبعده، ثم انتبهت، فصاح بي صائح من جانب الخان، يا سعدان بن يزيد قد رأيت عظمته، فافهم كذا يغضب عليك إذا عصيته ويتحنّن عليك إذا أرضيته"[10].
وقد وصف لنا المستشرق الفرنسي جاستون فييت بعض خانات القاهرة في العصر المملوكي في كتابه الماتع "القاهرة مدينة الفنّ والتجارة" بقوله: "هناك خان من نوعٍ خاصّ عند مدخل المدينة شمالي باب الفتوح سُمح للمسافرين بالنزول فيه مجانًا، ونظرًا لموقعه في ظاهر المدينة فقد تحوّل إلى مستشفى للمرضى بأمراض معدية، وهناك خان آخر استُخدم كمصرفٍ أودع فيه التجّار صناديق المال المملوءة بالذهب والفضّة ... وفي الحيّ نفسه كان هناك خان قوصون أو وكالة قوصون الذي استخدمه التجّار السوريون لخزن بضائعهم مثل الزيت والسيرج والصابون والدّبس والفستق والجوز واللوز والخرنوب. وكان فندق دار التفّاح بالقرب من مسجد المؤيّد أشبه بوكالة كبيرة للفواكه على اختلاف أنواعها، كما وُجد خان آخر كانت تُستخدم إيراداته لفدية أسرى الحرب واشتمل على اثني عشر حانوتًا وخمسة حمّامات وثمانية وخمسين مخزنًا وست غرف كبيرة وفناء وخمسة رِباع، وخمسًا وسبعين حُجرة للنُزلاء، وخمسة حمّامات في الطوابق العلوية"[11].
ويُفهم من هذا أن وظيفة الخان في المدن في العصور الإسلامية المتأخرة كانت استقبال التجار بشكلٍ عامٍ؛ من باعة الجُملة ومُروّجي البضائع ومراسلي المستوردين والوسطاء، وفي هذا المكان كان يتمّ البيع والشّراء، وكأنّ المكان لم يعد لإيواء المُسافرين بل استقبالهم ريثما يتمّون تجارتهم، وكما كان لكلّ بضاعةٍ دار، صار لها خان يرتبط اسمه بها، إن لم يرتبط باسم مؤسّسه أو مالكه؛ فهنالك خان الحرير وخان الحبّالين في دمشق، وخان الجوخ في استنبول، وخان الخيّاطين والصّابون في طرابلس، وخان الزّيت وخان الحرير في حلب. وكان بعضها عظيم الاتساع كخان الجُمرك في حلب الذي يعود تاريخه إلى عام 1574م. فقد ضمّ اثنين وخمسين مخزنًا، وسبعًا وسبعين غرفة، وسوقين مبنيين بالحجر المُهندَم، يصل إليهما الضّوء من قببٍ عشر تعلوها، وكان مجموع دكاكينه ثلاثمائة وأربعة وأربعين، وإلى جانبها سبيلان ومسجد[12].
وبعد هذا التطواف السريع رأينا كيف أنّ منشأة الخان أو الفندق أو الوكالة كانت إبداعًا حضاريًا إسلاميًا رائقًا، قدّمت عبر مئات القرون خدماتها المجّانية في الغالب لكافة الناس من المسافرين والتجّار وطلبة العلم وغيرهم داخل المدن الإسلامية وخارجها، فكانت صورة ذهبية من صور هذه الحضارة الخالدة واهتمامها بالمسلم في ترحاله!

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي - عدد مجرم 1436هـ/نوفمبر 2014م



[1] ابن منظور: لسان العرب، مادة خون 13/144. دار صادر، الطبعة الأولى – بيروت.
 Encyclopedia Britannica: khan [2]
[3] ابن سعد: الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا 5/266. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 1990م.
[4] محمود الفاخوري: الموسوعة العربية، مادة "الخانات" ص741.
[5] انظر: ثروت عكاشة: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية ص70 وما بعدها. دار الشروق – القاهرة، 1994م.
[6] الجرجاني: تاريخ جرجان، تحقيق محمد عبد المعيد خان ص511. عالم الكتب، الطبعة الرابعة – بيروت، 1987م.
[7]  الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، تحقيق بشّار عواد 4/232. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى – بيروت، 2002م.
[8] تاريخ ابن عساكر، تحقيق عمرو بن غرامة العمروي 5/115. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995م.
[9] ابن المعتزّ: طبقات الشعراء، تحقيق عبد الستار فرج ص301. دار المعارف، الطبعة الثالثة – القاهرة.
[10] تاريخ بغداد 10/281.
[11] جاستون فييت: القاهرة مدينة الفنّ والتجارة ص198، 199. مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر – بيروت، 1968م.
[12] نبيلة القوصي: الخانات في دمشق القديمة 1، مقال على موقع نسيم الشام على الإنترنت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق