الخميس، 21 مايو 2015

سؤالُ الأخلاق بين الإسلام والغرب!

تبدو أزمة الأخلاق المعاصرة مسألة إشكالية معقّدة للوهلة الأولى؛ ذلك لأن هذه الأزمة لا ترتكن في جانب واحد من جوانب الحياة الإنسانية المعاصرة، بل أضحت مأزقًا في كافة أشكال التمظهر الإنساني من السياسي إلى الاجتماعي إلى المعرفي إلى الاقتصادي إلى التكنولوجي، فجل الحقول الإنسانية والعلمية اليوم معنية بسؤال الأخلاق، وأسباب غيابها، وآثار هذا الغياب.
وتأتي أهمية "الأخلاق" لكونها الأساس الركين في قيام وسقوط الحضارات، وإننا نرى هذه الحقيقة جلية في تاريخ الحضارات البشرية؛ ففي كتابه "قصة الحضارة" لم يغب عن المؤرخ الأمريكي الجاد "ول ديورانت" أثناء استعراضه لمسار الحضارات الإنسانية منذ القدم حتى بدايات العصر الحديث، تتبع قضية الأخلاق وأشكالها في جل الحضارات التي وقف معها، وغالبًا ما أفاض في الحديث عن أثر الأخلاق ومصادرها في تلك المجتمعات، فهو يقول عن دين اليونان: "يبدو لأول وهلة أن الدين اليوناني لم يكن ذا أثر كبير في الأخلاق، فقد كان في أصله طائفة من قواعد السحر لا من قواعد الأخلاق القويمة، وبقي إلى حد كبير على هذا النحو إلى آخر أيام اليونان"[1]. وعند حديثه عن سقوط الإمبراطورية الساسانية: "سادت وقتئذ الفوضى في تلك البلاد التي أنهكتها الحروب مدى ستة وعشرين عاماً، وفشا في الدولة التفكك الاجتماعي بعد أن عمها الفساد الأخلاقي بتأثير الثروة التي جاءت في أعقاب النصر الحربي"[2].

المذاهب الغربية ومأزقها الأخلاقي

وما بين الحضارة الغربية التي قامت ولا تزال على فلسفة الأخلاق التي وضعها فلاسفة اليونان الأقدمين كأرسطو وأفلاطون وغيرهما، والأخلاق الإسلامية التي ما جاءت إلا لتُكمل محاسن الأخلاق وصالحها عامة ثم تحض على ثباتها واستمراريتها، كما نفهم من حديث نبينا r: "إنما بعثتُ لأتمم صالحَ الأخلاقِ"[3]. تسير البشرية اليوم بين طريقين نقيضين!
إنّ خطورة ضعف المسلمين اليوم، وتراجعهم أمام المأزق الأخلاقي العالمي الذي تفرضه أخلاق الحداثة المعاصرة، لا تنطوي آثاره على حضارتهم وأمّتهم – برغم مأساوية هذا الوضع – وإنما تتكشف هذه المأساة على العالم كله؛ ذلك أن الفلسفة الأخلاقية اليونانية دفعت الإنسان الغربي إلى تحقير ما دونه من أجناس أخرى، وتبرير استعمار واستغلال واستعباد غير الغربيين، يقول برتراند رسل: "لقد أخطأ اليونان خطأ فاحشًا حين أحسّوا شعور السيادة على الشعوب البربرية، ولا شكّ أن أرسطو قد عبّر عن فكرتهم العامة في ذلك حين قال: إن أجناس الشمال مليئة بشعلة الحياة، وأجناس الجنوب متحضّرة، واليونان وحدهم هم الذين يجمعون الطرفين، فشُعلة الحياة تملؤهم وهم في الوقت نفسه متحضّرون. وأفلاطون وأرسطو كلاهما قد ذهبا إلى أنه من الخطأ أن يُتّخذ من اليونان عبيد، لكن ذلك عندهما جائز بالنسبة للشعوب البربرية!"[4].
وسار الغربي المعاصر على درب أسلافه الأقدمين، وجل الأيديولوجيات والأفكار الأخلاقية التي انتشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين وإلى الآن لم تخرج قيد أنملة عن التصورات اللا أخلاقية التي قعّدتها الفلسفة الأخلاقية اليونانية أم الفلسفات الغربية المعاصرة.
وقد تنوعت تلك المذاهب؛ ف"النفعية" تجلت عند بعض فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر، وفلاسفة الانجليز مثل بنثام وجون ستيورات مل في القرن التاسع عشر والعشرين، و"معالم المذهب النفعي تتلخّص في التقاء مفكريه على القول بأن اللذة أو المنفعة هي الخير المرغوب فيه، والألم هو الشر الذي يجب تفاديه، ومن ثم فإن المنفعة عندهم هي مقياس الخيرية"[5].
وفي القرن العشرين تفرّع المذهب النفعي فروعًا شتّى وانتصر له طائفة من الفلاسفة الأمريكيين بوجه خاص، ويتضح المذهب بصورة أوضح عند أحد كبار فلاسفته وهو وليم جيمس الذي يرى أن الخير يقوم في إشباع مطالب الإنسان وتحقيق رغباته، وجاء بعده جون ديوي الذي اعتبر الأفكار والمثل العُليا والمبادئ مجرد وسائل وذرائع يستعين بها الإنسان فيتوجّه سلوكه إلى حيث تتحقق مطالبه وغاياته[6].
أما ماركس زعيم الفلسفة الاشتراكية فبسبب اعتقاده في أن التقدم لا مندوحة عنه؛ ظنّ أنه من الممكن "الاستغناء عن الاعتبارات الأخلاقية؛ فإذا كانت الاشتراكية آتية فهي لابدّ أن تكون تحسينًا"[7].

الإسلام يُقدم الجواب!

في المقابل يقدم الدين الإسلامي الجواب الكافي حول سؤال الأخلاق؛ إنه لا يُقدم مادة وفيرة حول ماهية الأخلاق وأنواعها، وكيفية عملها في الإنسان وبالإنسان، وإنما يُقدم الحلول الناجعة للمشكلات الأخلاقية الفردية والجماعية والعالمية على السواء.
لقد كشفت الحضارة الإسلامية في سيرتها الأولى وما تلاها اتكاءها على الأخلاق والقيم والمثل النبيلة، تجلت هذه الحقيقة في سيرة النبي r وسنته والوحي الإلهي المنزل عليه، وكشف r أن خير الناس أحسنهم أخلاقًا، قال r: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقا"[8]، وفي رواية أخرى: "إن من أحبكم إليَّ أحسنكم أخلاقا"[9]، وأمر r أن يتخلّق أصحابه وأتباعه بالخُلق الطيب، فقال في الحديث الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه عن النبي r: "قال لي رسول الله r: اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلق حسن"[10]. وبيّن r - خلافا للفلسفة اليونانية والغربية المعاصرة - أن الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى وهي مخافة الله تعالى، فقال r في حجة الوداع: "يا أيُّها النَّاس، ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلَّا بالتَّقوى، أبلَّغتُ؟"، قالوا: بلَّغَ رسول الله"[11].
وقدّم النبي r القدوة الأخلاقية، حتى إن الله تعالى صرّح بهذا في قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾[12]. وسار الصحابة - رضوان الله عليهم - على طريق النبي r، ولم يتجل نُبلهم وأخلاقهم فيما بينهم وفقط، وإنما في تعاملهم مع الآخر، في السلم والحرب، ولم تكن الحرب دافعة لهم لتجاوز ما اعتنقوه من أخلاق الإسلام، فنرى خليفة رسول الله r أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول ليزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - قُبيل خروجه لفتح الشام: "إني موصيك بعَشرٍ: لا تقتلنّ امرأة، ولا صبيًا، ولا كبيرًا هرما، ولا تقطعن شجرًا مُثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاة  ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نحلاً، ولا تُفرّقنّه، ولا تغلل، ولا تجبن"[13]. وهي الوصايا التي تكشف الهُوّة الأخلاقية - عند المقارنة – بين ما قام به الفاتحون المسلمون وما قامت به الدول الاستعمارية الغازية في العصر الحديث ولا تزال.
أما القرآن الكريم فهو دستور الأخلاق بحق؛ لأنه قد تميز عن الكتب والرسالات السابقة "بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقاً في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسّسين والمصلحين، الذين تباعد بعضُهم عن بعض، زماناً ومكاناً، وربما لم يترك بعضُهم أثراً من بعده يحفظ تعاليمه"[14].
وما بين دين وحضارة قامت على الأخلاق، وحضارة أخرى قامت على النفعية وتجنب سؤال الأخلاق ينزلق الإنسان المعاصر إلى هوة سحيقة من الانحلال والصراعات، طالما ظل الإسلام والمسلمون في موقع بعيد عن التأثير العالمي، هوّة أعلنها منظرو الغرب دون مواربة في أطروحات "نهاية التاريخ" و "صراع الحضارات"!

نُشر في مجلة الوعي الإسلامي، شعبان 1436هـ/ مايو - يونيه 2015م





[1] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 6/365. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – تونس، 1988م.
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 12/304.
[3] مسند أحمد، ح (8939) 2/381. مؤسسة قرطبة للنشر. وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح قوي الإسناد.
[4] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود 1/251. لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة، 1967م.
[5] مصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص61. دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى – بيروت، 2004م.
[6] توفيق الطويل: الفلسفة الحديثة ص276، ومصطفى حلمي: الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام ص66.
[7] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمد فتحي الشنيطي 3/434. الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 1997م.
[8] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي r ح (3366). تحقيق مصطفى البُغا. دار اليمامة، الطبعة الثالثة – بيروت، 1987م.
[9] البخاري ح (3549).
[10] سنن الترمذي، ح (1987). تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[11] مسند الإمام أحمد 38/474، ح (23489). وقال الأرناءوط حديث صحيح الإسناد.
[12] (الأحزاب: 21).
[13] موطّأ الإمام مالك، رواية يحيى الليثي (965). تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[14] محمد عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن ص8. مؤسسة الرسالة – القاهرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق