البطانة وأثرها في الأمة[1]
كثيرًا ما ينتابنا شعور بالغم والهم والحزن من أولئك المتسلقين الذين يتقربون لأجل منافع شخصية محضة من أصحاب القرار في أي إدارة أو مؤسسة أو دولة كانت، إنهم بكل سهولة يصفون أنفسهم بأنهم أهل الثقة، أهل الحظوة والقرب، الذين يرون ما لا يراه الآخرون!!
والحق أنني كثيرًا ما بحثتُ عن الأسباب السيكولوجية والأخلاقية التي تدفع هؤلاء إلى أفعالهم تلك، فوجدتُّ أمرين يدفعانهم في طريقهم المجهول: فأما السبب الأول؛ فيكمن في الشعور بالنقص، وعدم الثقة في الذات. وأما الثاني: فالبحث عن المصلحة الشخصية المحضة التي تغمط حقوق الآخرين، ومن ثم تقوي شوكتهم، وتجعلهم مثل "حكومات خفية" في ظل الشرعية المتعارف عليها بين الجميع، كل هذا في غياب التربية الإيمانية والعملية الصحيحة.
لقد حسب هؤلاء أنهم يُحسنون صنعًا لأنفسهم وللآخرين؛ حينما يُقحمون رأيهم لأصحاب القرار، وحول رؤيتهم الثاقبة للآليات المثلى لإدارة أي مكان كان، فالدور المحوري لهم يكمن في كونهم - من وجهة نظرهم - أنشط العناصر الفاعلة في إنجاز العمل – الذي يعني سرعة + جودة – إنهم كما يروْن "لُقطة" لأي مؤسسة كانت، وغرة على جبين جميع الموظفين الآخرين الذين يفتقدون للباقتهم وحسهم المهني العالي... هذه هي أوهامهم، وتلك هي فلسفتهم، فغايتهم في الحياة أن يكونوا من أهل الثقة، ومن دونهم مجموعة من التروس الجاهلة التي تدور في موتور المؤسسة الكبير!
ومن اللافت أن الإسلام قد حذّر كل أمير ووال ومسئول من بطانة السوء؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[3]، ونرى الإمام ابن كثير (رحمه الله) يُفسر هذه الآية الكريمة بقوله: "يقول تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يُطْلعونهم على سرائرهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خَبَالا أي: يَسْعَوْنَ في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعونه من المكر والخديعة، ويودون ما يُعْنتُ المؤمنين ويخرجهم ويَشُقّ عليهم"[4] والإية وإن كانت مخصوصة بالمنافقين والكفار وغيرهم، لكنها تحذّر بصفة عامة من اتخاذ بطانة السوء وأهل الهوى ومعدومي الكفاءة والخبرة، كما حذَّر النبي (صلى الله عليه وسلم) كل أمير ومسئول؛ فقال (صلى الله عليه وسلم): "مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى"[5]، وفي رواية النسائي: "ما من وال إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا؛ فمن وُقِيَ شرَّها فقد وقي، وهو من التي تغْلِبُ عليه منهما"[6]، فتأمل أيها القارئ العزيز إلى هذا الحديث الشريف، بتلك الروايتين الصحيحتين اللتين تخبرانا بحقيقة خالدة تبرز نفس الإنسان، وتكشف ستر أهل الثقة العظيم..
إن الحديث الشريف ينصح كل أمير ووال، فينبهه إلى البطانة الصالحة التي تأمره بالمعروف، وإن كان كلامها ونصيحتها ثقيلاً على النفس؛ ليطلب ودها، ويقربها إليه، كما يحذّره من البطانة الفاسدة، وإن كان كلامها محببًا إلى النفس، وأفعالها الظاهرة تُحسبك أنهم من أحب أحبائك.
لكن اللافت في رواية الإمام النسائي، قوله (صلى الله عليه وسلم): "وهو من التي تغْلِبُ عليه منهما": أي والوالي أو الأمير أو أي مسئول كان يتأثر بمن حوله، فإن كان مقربًا لأهل المعروف والخير كان منهم، وإن كان يسمع لأهل السوء، وبطانة الفساد فهو منهم؛ فـ"الرجل على دين خليله"[7].
وبالمناسبة فلا أحد يستطيع أن يتهم أهل الثقة الحقيقيين بشيء، ولا نستطيع أن نقول في حقهم نصف كلمة، إن كانوا أهل ثقة فعلاً، فإن كانوا ممن يتقنون أعمالهم، ولا يتلونون حسب المواقف والوقائع فلا غبار عليهم، ولا مشاحّة فيهم، لكن البطانة التي تحسب نفسها أهل ثقة، وهي في نظر الجميع ليست كذلك، فهي واهمة كل الوهم، تعيش في ظلمات وهي لا تعي، ثم تكون عواقب مشوراتها مدمرة!!
ولقد حذّر النبي (صلى الله عليه وسلم) النمامين الذين ينقلون الوقائع والكلام بغية الإفساد بين الإخوة، ولرغبة نابعة من حسد دفين لمحو الحب والاحترام المتبادل بين المتحابين، فقال (صلى الله عليه وسلم): "أَلاَ لاَ يُبَلِّغْنِى أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِى شَيئًْا فَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ"[8].
ولذلك فقد تنبّه كثير من أمراء وخلفاء الإسلام لهذا الأمر، وكانت القاعدة التي يفهمونها جيدًا، ويعملون بها تكمن في حسن الظن بجميع الرعية حتى يثبت العكس بالأدلة والشواهد والبينات، وعندها يعملون وفق ضوابط التشريع الحكيم، لا ما يمليه عليهم الهوى أو الانتقام، ولذلك لم يكن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان يسمح لأحد أن يداهنه أو يتحدّث عن أحد من الرعية بدون وجه حق، أو يضيع وقته فيما لا يفيد، فقد رُوِيَ أن رجلاً "سأل عبد الملك أن يخلو به، فأمر عبد الملك مَن عنده بالانصراف، فلما خلا به، وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك: احذر من كلامك ثلاثًا: إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لكذوب، أو تسعى إليَّ بأحد من الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وإن شئت أقلتك، فقال الرجل: أقلني فأقاله"[9].
وإنه مما يلفت الانتباه حقًا أن المنهج الإسلامي في التعامل مع البشر يقوم وفق فلسفة الميزان، أي معرفة حسنات المرء وسيئاته، ومعرفة تاريخه وحقيقة أخلاقه العامة ثم التعامل معه وفق الغالب على أمره، هذا التعامل لا يكون وفق الهوى الشخصي المحض بل يتكئُ على شرع الله المنزّه، ولنا في تعامل النبي (صلى الله عليه وسلم) مع الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة أسوة حسنة، وقدوة طيبة للتدليل على ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه عن علي (رضي الله عنه)، قال: " بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ (مكان قريب من المدينة) فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً (أي امرأة في هودج) مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا. فَذَهَبْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ. فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ. فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِمَكَّةَ؛ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَصْطَنِعَ إِلَيْهِمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. قَالَ عَمْرٌو (بن دينار أحد رواة الحديث): وَنَزَلَتْ فِيهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}"[10]، فهذه الحادثة الجليلة التي حدثت من صحابي سابق شهد بدرًا، قوبلت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو القائد الأعظم لهذه الأمة بموقف كله حلم وأناة؛ حيث نظر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى تاريخ حاطب (رضي الله عنه) فوجده مشرفًا مجاهدًا في سبيل، فقارنه بما اقترفه من جرم – وهو جرم لا ريب عظيم – فلم يكن منه (صلى الله عليه وسلم) إلا أن يعفو عنه، في ظل إلحاح من عمر (رضي الله عنه) ليقتله.
إن هذه النظرة المقاصدية للأمور الحياتية العامة ترشدنا إلى الآليات الحقيقية في التعامل مع بعضنا البعض، فالموقف رغم أهميته لا يجب أن يكون العامل الأول والأخير في الحكم على الشخص المعني، فتاريخه خير شاهد عليه، ثم شهادة الجميع عليه - لا ثلة قليلة اختزلت الرأي لنفسها – أفضل حاكم وشاهد.
ولا ريب أنه كانت للبطانة الفاسدة دورها المحوري العظيم في انهيار الأمم، وإن مما يستلفت الانتباه في قصة فرعون موسى، أن أحد الأسباب الرئيسة التي أودت بحكمه وملكه، وانهيار قوته وهلاكه، تكمن في تقريبه لأهل الظلم والفساد والبغي، وعلى رأسهم هامان؛ فلقد ذكره القرآن الكريم في ست مواضع: ثلاثة في سورة القصص، وواحدة في سورة العنكبوت، واثنان في سورة غافر، كلها تصفه بالمجرم العاتي، متزعم البطانة الفاسدة التي وقفت أمام الحق، واستهزأت بالبرهان الواضح، والدليل البين الذي جاء به موسى (عليه السلام) إلى فرعون وملأه.
ولنا في تاريخنا الإسلامي عشرات الأمثلة التي تؤكد لنا خطر البطانة الفاسدة على هذه الأمة، فابن العلقمي وزير المستعصم آخر خلفاء الدولة العباسية، كان له أثره البالغ في انهيار الخلافة، ومقتل أهل بغداد عن بكرة أبيهم، وزوال الملايين من الكتب الشرعية والعلمية نتيجة إغراقها في النهر، وما ذلك إلا لتعاونه مع التتار الغزاة، فضلاً عن مشوراته الفاسدة التي قللت عدد الجيش من مائة ألف مقاتل إلى عشرة آلاف، ونهيه الناس أن يقاتلوا التتار، وغيرها من قرراته الهادمة[11].
وفي مصر الحديثة، وجد الخديوي إسماعيل في عام 1863م أن النظام القضائي الذي يخضع له الأجانب في حالة فوضى شديدة وفكر إسماعيل في إنهاء كل هذه الفوضى وإعادة الحكم بالشريعة الإسلامية، ولكن بطانة السوء التي لا تأمر إلا بالشر ولا تدعو إلى خير أبداً خذلته عن ذلك حيث عمل الحاقد 'نوبار' الذي كان يعمل وزيراً للخارجية إلى إيجاد فكرة المحاكم المختلطة وقد وافقت الدول صاحبة الامتيازات على فكرة نوبار باشا لأنها تهدف في المقام الأول لإقصاء الشريعة، وبالفعل قامت المحاكم المختلطة سنة 1870م وقد اشترطت الدول الأجنبية أن تكون مصادر تلك المحاكم المختلطة مستمدة من القوانين الفرنسية !! وقد كلف محام فرنسي يدعي 'مونوري' بوضع القوانين التي ستطبق على تلك المحاكم[12]!!
ومما سبق نتيقن أن للبطانة دورها المحوري العظيم في قيام الأمم وانهيارها، ولذلك حذّر الإسلام كل مسئول من اتخاذ بطانة السوء، وأعوان الباطل، فهم المنتفعون الحقيقيون بهذا القرب، وتلك النجوى، وصدق معاوية بن يزيد بن معاوية حينما قال - عندما خلع نفسه من الخلافة وجعل الأمر شورى - لمن أرادوا أن يعدلوه عن قراره هذا؛ أو يجعلوا أمره في أهل بيته: والله ما ذُقْتُ حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها[13]؟!!
[1] نُشر هذا المقال بمجلة الوعي الكويتية، شهر شعبان 1431هـ/ يوليو 2010م.
[3] (آل عمران: 118).
[4] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/106.
[5] البخاري: كتاب الأحكام، باب بطانة الإمام وأهل مشورته (6773).
[6] سنن النسائي: كتاب البيعة، باب بطانة الإمام (4201)، وقال الألباني صحيح.
[7] سنن الترمذي (2378)، وسنن أبي داود (4833). وقال أبو عيسى الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الألباني: حسن.
[8] سنن أبو داود (4860)، ومسند أحمد (3759)، وسنن البيهقي الكبرى 8/166 حديث رقم (16452)، ومسند أبي يعلى (5388). قال الألباني: ضعيف. الألباني: صحيح وضعيف سنن أبي داود 10/360.
[9] ابن عساكر: تاريخ دمشق 37/142.
[10] البخاري: كتاب التفسير، باب سورة الممتحنة (4608).
[11] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 13/234.
[12] دكتور عبد الحق حميش، بحث بعنوان "عوامل انحسار القضاء الشرعي في بعض المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر"، مؤتمر القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال، كلية الشريعة جامعة الشارقة، 13 – 15 ربيع الأول 1427هـ/ 11-13 أبريل 2006م.
[13] المسعودي: مروج الذهب 3/82.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق