لقد كان مشروع التربية الإسلامية منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم من أهم المشاريع الحضارية والمعرفية للأمة المسلمة، إذ لم يتوان المجتمع الإسلامي على الاهتمام ومن ثم الاتكاء على هذا المشروع العظيم في إخراج الجيل النموذج الذي لا نزال نقرأ عنه في مصنفات التراث الإسلامي؛ بل إن آثار هذا المشروع قد تجلت على كافة المتعايشين في مرجل الدولة الإسلامية من مسلمين وغيرهم، ولقد كان هذا المشروع ذا معالم محددة، وتقاليد راسخة تطورت مع الزمن، وتعاقبت مع مرور الأجيال والأفكار والمعارف.
ومن العجيب أن نرى هذا المشروع قد انتشر في كافة البلاد والمناطق التي تواجد فيها المسلمون، وفي هذا دلالة على عظمة وعمق ونضج هذا المشروع الحيوي، حتى رأيناه في صقلية تلك الثغر الإسلامي المهم الذي دام الحكم الإسلامي فيها مدة قرنين من الزمن.
إن تاريخ صقلية الإسلامية يكاد يشابه نظيره في الأندلس؛ فقد شهدت الفتح الإسلامي على يد القاضي أسد بن الفرات المكلف من لدن الأغالبة أمراء تونس عام 212هـ، وشهدت عصرها الذهبي أيام الفاطميين العُبيديين ووزراءهم الكتاميين الصنهاجيين، ودام الحكم الإسلامي فيها لقرنين ونصف قبل أن يغلبهم النورمان (النورمانديون) في القرن الخامس الهجري، إلا أن الوجود الإسلامي ظلّ هناك لقرن آخر ونصف تحت حكم النورمان، اتّسم أول الأمر بالتسامح فسمحوا للمسلمين بإقامة شعائرهم على أن يخطبوا في الجُمع للخليفة العباسي البعيد الضعيف و ألا يخطبوا للخليفة الموحّدي القريب القوي، إلا أن الأمور تغيرت آخر الأمر إلى الاضطهاد حتى انتفضت المقاومة وتمت الدعوة في الصلاة للموحدين، وانعزل المقاومون بعد ذلك في الجبال (كما حدث في البشرّات بالأندلس) بزعامة المرابط ابن عبّاد، ثم ما لبث أن انهزم المسلمون ليتم تهجير اغلبهم إلى الشمال الأفريقي والأندلس و بعضهم إلى الجنوب الإيطالي وبقي من بقي منهم في صقلية مخفيًا إسلامه.
ولما زار الرحالة الشهير ابن حوقل صقلية في القرن الرابع الهجري، دُهش لانتشار الحركة العلمية والثقافية فيها، وللمستوى العالي في التربية في هذه الجزيرة التي كانت من أهم الثغور الإسلامية في البحر المتوسط، فقد دُهش لكثرة المساجد في بلرم (بليرمو) وحدها، وكانت بلرم يومئذ هي العاصمة ومجتمع أهل الأدب ومنتجع طلاب العلم من سائر أنحاء صقلية، فنشاط الحركة التعليمية فيها كان سبباً في الاستكثار من المساجد وانضاف إلى هذا ما قاله ابن حوقل من التكاثر بها، وأصبح غرض كل واحد من بناء المسجد "أن قال مسجد فلان لا غير"(). والحق أنه في هذه المساجد وفي المكاتب كثر المعلمون، حتى كان منهم في بلرمُ ما لا يقل عن ثلاثمائة معلم، وهذا عدد ضخم مقارنة بعد السكان، يُدلل على مقدار انتشار التعليم في هذه المدينة وحدها فما بالنا بباقي الجزيرة.
ومع كل ذلك فقد كان يزاول مهنة التدريس كثير من أعيان البلاد، ويتخرج في المدارس كثير من أولاد السراة والأغنياء(). وقد أطلعنا ابن حوقل على صورة راقية من صور الكتاب حين حدثنا عن واحد منها لم يكن ينفرد بالتعليم فيه معلم واحد بل يدرس فيه خمسة معلمين لهم من بينهم رئيس هو مدير الكتاب().
هذه الكثرة في عدد المعلمين والمساجد والمكاتب تشير إلى نشاط تعليمي واسع، ومهما تكن الأسباب التي أدت إلى كثرة المعلمين، فالذي لا شك فيه أن المعلم في هذا العصر كان شخصية طاغية الأثر في حياة الناس، وكان أهل صقلية يرون المعلمين أنهم "أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم عندهم يقوم الحلال والحرام وتعقد الأحكام وتنفذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء"().
وقد رأى ابن حوقل من هؤلاء المعلمين من يتولى خطبة الجمعة، وعرف منهم العدول، وسمى من توصل من بينهم إلى منصب القضاء. فكان هؤلاء المعلمون هم الذين يوجهون الرأى العام في أمور الدين والدنيا().
والحق أن الفصل الذي عقده العلامة المحقق إحسان عباس في كتابه الرائع "العرب في صقلية"، وعنون له "هجرة الكتب إلى صقلية" من أجمل ما قرأتُ عن رحلة الكتب وقصتها وأثرها في التربية في هذه الجزيرة الغناء، وهو يُشير إلى التزام الصقليين بالتربية الإسلامية في هذا الثغر المضطرب، وهو فصل أقتبسُ منه قوله: "كانت الكتب التي يتداولها الطلبة والأساتذة مما يرد على الجزيرة من بلاد المشرق والأندلس والقيروان أو مما يؤلفه الأساتذة أنفسهم. وإذا استطعنا أن نعرف الكتب الواردة التي راجت في صقلية، أو أمثله منها على الأقل، كان كذلك خير معين لنا على تصور الثقافة السائدة في الجزيرة، وعلى مدى الامتزاج والتفاعل في تلك الثقافة. وقد كانت الكتب ترحل كالناس في بطء وتتحرك من مكان إلى آخر في أناة، وربما كان انتقال كتاب من بلد إلى آخر حدثاً يستحق التاريخ".
ولذلك لم يكن من الغريب أن يصرح ابن القطاع الصقلي حين سأله المصريون عن كتاب "الصحاح" للجوهري بأن الكتاب لم يصل إليهم في صقلية().
ويحدثنا ابن رشيق أن أول من أدخل كتاب "اليتيمة" للثعالبي إلى القيروان (وهو من الكتب الأدبية الشهيرة) هو أبو الفضل محمد بن عبد الواحد البغدادي الدرامي سنة 439هـ()، ولما رحل ابن البر الصقلي إلى المشرق كان كتاب اليتيمة أحد مروياته عن شيخه أبي محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري، وعنه تلقاه في صقلية تلميذة ابن القطاع().
وقد دخلت "المدونة" في الفقه المالكي عند فتح صقلية أو بعيد ذلك بقليل، وكان كل نشاط الفقهاء يدور حولها اختصاراً وشرحاً، وبياناً لما فيها من غريب، ونسجاً على منوالها. وظل الأمر كذلك حتى آخر أيام العرب في صقلية. وبديهي أن موطأ كان يدرس في صقلية أيضاً ويقوم بتدريسه محدثون أعلام، مثل الفقيه السمنطاري، وكان الطلبة لكثرة دروج الاسم على أفواههم يلفظونه بغير الهمز. ويستعملون إلى جانبه كتاب "الملخص" وهو كتاب ألفه القابسي ولخص فيه ما اتصل إسناده من حديث الموطأ، وكان الطلبة يسمونه الملخص بالفتح مع أن صاحبه سماه الملخص بالكسر().
وألف ابن جعفر القصري كتاباً سماه "تجديد الإيمان وشرائع الإسلام" يشتمل على نيف وستين جزءاً وفيه بحث في المعجزات فدخل صقلية وقرأه الناس().
وفي القرن الخامس وردت إلى صقلية نسخة من كتاب "التقريب" وهو كتاب اختصر به البرالي البلنسي (البريلي بخط ابن بشكوال) كتاب المدونة وجمع فيه أقوال أصحاب مالك حتى قال فيه بعضهم: من أراد أن يكون فقيها من ليلته فعليه بكتاب البريلي وقرأه عبد الحق شيخ فقهاء صقلية في عصره وأراد أن يشتريه فلم يتيسر له ثمنه، فباع حوائج من داره واشتراه()، فلما عرف أهل صقلية ذلك زادت قيمة الكتاب في أعينهم، فاقبلوا عليه وتنافسوا في اقتنائه"().
وحتى في فترة أفول الإسلام في صقلية في أواخر القرن السادس الهجري، فإننا وجدنا المسلمين مستمسكين بالمنهج التربوي الإسلامي؛ فلقد مرّ الرحالة الأندلسي ابن جبير (ت614هـ) حينما كان متجهًا لأداء فريضة الحج، بمجموعة من مدن صقلية، فوجد حال المسلمين فيها تحت الحكم النورماندي متفاوت ما بين التسامح والاضطهاد معهم، ففي العاصمة والمدن الكبرى التي يبسط النورمانديون عليها سلطانهم بقوة فإن المسلمين ينعمون ببعض السعة في أداء دينهم، وتربية أولادهم على الإسلام وآدابه من خلال ما مرّ بنا منذ قليل، وهو يقول عن مسلمي العاصمة: "وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان، يُعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها، ولا جُمُعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وَقِيدِه في هذا الشهر المبارك، وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن".
لكن في مدينة أخرى تسمى "أطرابنش" وجد ابن جبير اضطهاد المسلمين فيها من قبل النصارى، ومع ذلك وجدهم مستمسكين بدينهم، يحاولون بكل ما أُوتوا من قوة أن يُربوا أولادهم على الإسلام، حتى إن أحدهم كان يسأل الحجاج المسافرين أن يأخذ أحد بناته ليزوجها من ترضاه لدينها، وتأمن معه على نفسها، رغم علمه أنه لن يراها ثانية، وهذا أعظم التضحية في سبيل الإسلام!!
قال ابن جبير: " ومن أعجب ما شاهدناه من أحوالهم التي تقطع النفوس إشفاقًا، وتُذيبُ القلوبُ رأفةً وحنانًا أن أحد أعيان هذه البلدة وجّه ابنه إلى أحد أصحابنا الحُجّاج راغبًا في أن يقبل منه بنتا بكرًا صغيرة السن قد زاهقت الإدراك، فإن رضيها تزوّجها وإن لم يرضها زوّجها ممن رضي لها من أهل بلده، ويُخرجها مع نفسه راضيةً بفراق أبيها وإخوتها طمعًا في التخلص من هذه الفتنة، ورغبة في الحصول في بلاد المسلمين. فطابُ الأب والإخوة نفسًا لذلك لعلهم يجدون السبيل للتخلص إلى بلاد المسلمين بأنفسهم إذا زالت هذه العَقْلةُ المقيدة عنهم. فتأجّر هذا الرجل المرغوب إليه بقبول ذلك وأعنّاه على استغنام هذه الفرصة المؤدية الى خير الدنيا والآخرة. وطال عجبُنا من حال تؤدي بإنسان إلى السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة من القلب وإسلامها الى يد من يغرّبها، واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق إليها، والوحشة دونها، كما أنا استغربنا حال الصبية، صانها الله، ورضاها بفراق من لها رغبة في الإسلام واستمساكا بعروته الوثقى، والله عز وجل يعصمها ويكفلها ويؤنسها بنظم شملها ويجمل الصنع لها بمنه. واستشارها الأب فيما هم به من ذلك فقالت له: ان أمسكتني فأنت مسئول عني"
هذا إذن حال التعليم والتربية في صقلية الإسلامية على وجه الاختصار وتقريب الصورة، فهذه التربية كانت تربية شمولية معرفية أخلاقية، وإن كتاب العلامة إحسان عباس "تاريخ العرب في صقلية" خير معين لمن أراد أن يعلم حال التربية والتعليم والآداب في صقلية الإسلامية، وهناك كتاب "تاريخ صقلية الإسلامية" لعزيز أحمد وهو جيد، ومن أهم المؤلفات والمراجع التي تناولت حال الحضارة الإسلامية في صقلية كتاب ميشيل أماري واسمه "المكتبة الصقلية" وهو عبارة عن نصوص عن صقلية الإسلامية مستخرجة من المصادر العربية في التاريخ والجغرافيا والتراجم والأدب.
نشر في موقع المركز العربي للدراسات والأبحاث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق