الخميس، 16 يونيو 2011

تاريخ مُنصِف!


الإنصاف عزيز، وتاريخ التراث الإنساني لا يخلو من الإجحاد والمجحدين، والتاريخ الإسلامي جزء لا يتجزأ من مسيرة هذا التراث الإنساني، وكل علم من العلوم الإنسانية يخضع لمبدأ النسبية في حقيقته وغايته، كل هذه قواعد يعلمها طلاب العلوم الإنسانية، لكن ألم يسأل أحدنا نفسه، ما القيم المستقاة من العلوم الإنسانية، ومنها التاريخ؟!

نعم قد نجيب بمنتهى السرعة والفصل أن غاية التاريخ وفلسفته هي العظة والعبرة والتعرف على أحوال الماضين لتلافي ما وقعوا فيه من مشكلات وبلايا، لكن هذا – في رأيي – لا يكفي؛ ذلك لأن قراءة التاريخ لا يجب أن تضع غايتها في التحصّل على الثمرة المرجوة من النص ذاته، بل التحصل على اللحظة الأخلاقية والتاريخية التي كُتب فيها النص، وأقصدُ الوعي بالزمان والمكان والشخوص ثم الغاية المرجوة.

واللافت أن القراءة المتأنية في تاريخنا الإسلامي تتيح لنا التعرف والتحصل على قيم لا تُعد ولا تحصى، ومنها قيمة "الإنصاف"، وإن محاولة سريعة لاستقصاء هذه الظاهرة في مؤلفات التاريخ الإسلامي في كافة أعصره، لن تكفيها مثل هذه الوريقات الصغيرة التي لن تفي الحق، وتشفي غليل طالب العلم في معرفة ما يستحق معرفته من هذه الظاهرة الإسلامية الفريدة.

حقيقة تاريخنا

إن التاريخ الإسلامي هو سلوك الأمة الإسلامية وإرادتها الجماعية، ورؤيتها لما جاء به الإسلام، مع التأكيد على أن ثمة فارقًا لا يستهان به بين الإنسان المسلم وبين الإسلام ذاته الذي هو الكمال والذروة التي حاول ويحاول المسلمون – منذ البعثة وحتى اليوم - تفيؤ ظلالها الوارفة، وثمارها الطيبة؛ فالعبث بهذا التاريخ، والاستهزاء به، والتقليل من شأنه، وإقصائه، هدرٌ للتجربة الإسلامية الحضارية.

وظاهرة الإنصاف التي نحاول إبرازها في المؤلفات التاريخية الإسلامية لا يمكن أن نفهم سياقاتها والحوافز التي أوجدتها دون معرفة الجذور والأصول والقواعد الأولى، فأصل العلوم الإسلامية – ومنها التاريخ – إنما وجدت وانتشرت وتعددت أوجه تطورها؛ خدمة للإسلام ذاته، فهي الوسائل الكبرى لمعرفة الإسلام والتعريف به، وأن تجربة النبي r وسيرته كانت حية أمام المسلمين أثناء الكتابة والتأليف والدرس، ومن ثم امتزجت هذه التجربة النبوية المحفزة على تعلم العلم ونشره مع الأخلاق العامة التي جاء الإسلام لإكمالها وتتميمها فأخرجت في نهاية المطاف العالم المسلم المنضبط بالأخلاق والقيم الإسلامية في باطنه وظاهره، فأضحى الضمير الواعي الحي هو المقوّم لكل عالم، فتجد بين السطور ومن خلفها الأثر الأخلاقي الذي تميز به هذا العالم أو انتفائه وانعدامه عند ذاك، وهذا لن نستطيع العثور عليه في كثير من الكتابات الغربية؛ ذلك أن الوازع الأخلاقي والضمير الوجداني النقي لا نكاد نعثر عليه عند الكثيرين منهم.

ومن ثم، فإن العلوم الإسلامية هي علوم فريدة من هذا الجانب، أي أن نسبتها للإسلام لتصبح "إسلامية" لم يأت اعتباطًا، أو خبط عشواء؛ والتساهل الذي نجده في بعض الكتابات التي توسم هذه العلوم بأنها "عربية" فقط هو تساهل غير موضوعي يضع هذه العلوم على ذات المستوى مع العلوم الغربية؛ وهو إجحاف لا داعي له؛ لأن الفارق بين هذه العلوم المنسوبة للمسلمين وبين تلك المنسوبة للغربيين هو الفارق بين فلسفة الإسلام ورؤيته للإنسان والكون والحياة وبين الفلسفة الغربية المتقيدة بعالم الشهادة، والتي لا تعرف حقيقة "ما وراء الطبيعة"!

تجربة عبقرية!

إن النبي r هو القدوة، وصدق الله حينما وصفه بأنه الأسوة لهذه الأمة الممتدة عبر الزمان، والمترامية عبر المكان، حينما قال: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[2](، وإننا ما علمنا الإنصاف إلا منه؛ فلقد كانت الحرب شديدة بينه وبين كفار مكة ومن عاونهم وسار على نهجهم من الأعراب، ومع هذا لم يكن r يجد حرجًا أو عيبًا من ذكر الصفات الطيبة والإيجابيات التي يراها في أعدائه، وكثيرة هي أقواله ومواقفه المنصفة فيهم.

ومع اتساع الرقعة الجغرافية للحضارة الإسلامية، وتوالي الأيام على الأجيال الجديدة والكثيرة، حفز ذلك المسلمين على الاهتمام بتدوين العلوم، فبدأ صحابة النبي r منذ عهد الخليفة الأول أبي بكر t في مناقشة هذه القضية المحورية التي تحافظ على ما جاء به الإسلام خاصة في حفظ القرآن الكريم من خلال تدوينه، ثم ما لبث القرن الأول الهجري في الانتهاء حتى عُني أبناء هذه الحضارة بتدوين الحديث النبوي الشريف، وقد استتبع تدوين الحديث مجموعة من القيود كان من الواجب تقعيدها ووضعها، خوفًا من تقويل رسول الله r ما لم يقله، هذه القيود أفرزت لنا في نهاية الأمر تجربة عقلية فريدة من نوعها؛ وسمت بأنها علم جديد من جملة العلوم التي تمخضت عن هذا الدين الجديد.

وخدمة لهذا العلم الجديد، الذي يهتم بدراسة متن الحديث وسنده، بدأت الأسئلة تترى وتتوالى وتجول في عقل المحدث، منها: من راوي هذا الحديث؟ وكيف رواه؟ ومن أين أخذه؟ ولمن أعطاه؟ وكيف جاء إلينا؟ وإزاء هذه الأسئلة الملحة، بدأ المخلصون وعلماء كل قطر في تقييم رجالاتهم..تقيمًا يهتم بالجوانب العلمية والأخلاقية لناقل الحديث، ثم بدأت هذه التجربة تنتشر، ويستفيد كل قطر إسلامي بما كتبه الآخرون عن أبنائهم والعكس، وترتب على هذا أن وصلت إلينا كتب السنة: منها الصحيح، ومنها الضعيف، ومنها الموضوع، ومنها المنكر ... بفضل نقد أولئك الأفذاذ، ثم استفادت الأجيال اللاحقة من الأجيال السابقة حتى يومنا هذا.

تلك المصنفات التي اهتمت بنقد الرجال وتعديلهم وجرحهم، أُطلق عليها كتب الطبقات والتراجم، ولا شك أن علم التاريخ وعلومًا أخرى قد استفادت استفادة عظمى من تجربة رجال الحديث في هذا المضمار، هذه التجربة المبهرة لا نستطيع إلا وأن نصفها بأنها "الإنصاف"..إنصاف يضع كل امرئ في مكانه الصحيح، طبقًا للمعيار الجماعي الذي ارتآه العلماء المنصفون من أمتنا الراشدة.

هذا الإنصاف لرجالات هذه الأمة وجدناه حاضرًا بقوة منذ القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، فأين كانت تقييمات الرومان والفرس واليونان لأبناء جلدتهم ولعلومهم في تلكم الأوقات، لا ندري؟ بل ويعجب المستشرق الألماني سبرنجر مثل عجبنا، فلا يستطيع كتم هذا الإعجاب؛ فيقول: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"[3].

تلك التجربة العبقرية يتتبعها المتأمل فيها؛ محاولا تبريرها وتفسير ظهورها ونضوجها فلا يجد إلا الصبغة الإسلامية المهيمنة على العقل الواعي المتقيد بالضوابط الأخلاقية الإسلامية الراشدة، التي أنتجت هذا العلم وغيره من العلوم التي أبهرت الشرق والغرب ولا زالت.

وإن نظرة في أحد هذه المؤلفات: كسير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (ت748هـ) يدهشك كل الدهشة، بل يضع لك أنموذجًا خالدًا في كيفية تعلم الإنصاف وتعليمه، وانظر كيف ترجم الذهبي لعالم الأندلس الشهير محمد بن عبد الله بن العربي، الشهير بابن العربي بقوله: "أدخل الأندلس إسنادًا عاليًا، وعلما جمًا، وكان ثاقب الذهن، عذب المنطق، كريم الشمائل، كامل السؤدد، ولي قضاء إشبيلية، فحمدت سياسته، وكان ذا شدة وسطوة، فعزل، وأقبل على نشر العلم وتدوينه"[4]، وكان والد ابن العربي عالمًا أخذ العلم من عالم الأندلس ابن حزم (ت456هـ) معجبًا به غاية الإعجاب، متتبعًا لمعظم مؤلفاته، غير أن ولده ابن العربي لم يكن مقتنعًا بعلم ابن حزم ومكانته، وكثيرًا ما تناوله، ولذلك قال الذهبي بأسلوب العالم المدقق الذي يعلم حقيقة الإنصاف ومغزاه: "ولم أنقم على القاضي (ابن العربي) رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وقد أصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة، والإنصاف عزيز"[5].

نعم، صدق الذهبي: الإنصاف عزيز، والحق أن الذهبي لم يكن الوحيد من علماء الإنصاف في هذه الأمة؛ إذ هو – مع ما له من المكانة والفضل- واحد من آلاف علمائنا في هذا الشأن.

إنصاف العدو!

ولنرى كيف رأى المؤرخون المسلمون "الفرنج" الأعداء؟ وكيف كتبوا عنهم؟ سواء في المشرق أو المغرب: أمامنا تجربتان في غايتي الأهمية، الأولى مع المؤرخ الأديب والفارس البطل الهمام أسامة بن منقذ (ت584هـ) في سيرته الشهيرة الجميلة "الاعتبار"، وهو ممن تعامل بسلام مع الفرنج وقت السلم، وجاهد حق الجهاد أمامهم وقت الحرب في زمن الحروب الصليبية، والثاني الأديب الوزير، وصاحب الرياستين في الدولة النصرية بالأندلس، الذي ذاعت شهرته وهو لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ) الذي تناول الأوضاع السياسية والعلمية والأدبية في كتابه الشهير "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وقد كانت الدولة النصرية في حروب متصلة مع صليبي الشمال الأندلسي في زمانه.

لقد أفرد أسامة بن منقذ في كتابه "الاعتبار" فصلاً عن طبائع الإفرنج (الصليبيين) وأخلاقهم، وهو فصل يكشف لك عن دقته وملاحظاته القيمة عن "الآخر" العدو؛ فهو يتحدث عن بعض علومهم ومنها الطب، وعن طبائعهم ومعاملاتهم، وقوانينهم وقضائهم، وبعض العادات والتقاليد التي لاحظها ورآها عن قرب، وهو في هذا كله يكشف الإيجابيات والسلبيات، وهو حينما يتحدث عن انعدام الغيرة من خلال بعض القصص التي يُدلل بها على هذا الأمر، نراه مختتمًا حديثه عن دياثة الإفرنج بقوله: "فانظروا إلى هذا الاختلاف العظيم: ما فيهم غَيْرة ولا نخوة وفيهم الشجاعة العظيمة"[6]، ويقول عنهم في موضع آخر: "سبحان الخالق البارئ إذا خبُر الإنسان أمور الإفرنج سبَّح الله تعالى وقدّسه..ورأى بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير"[7]، وليس أدلّ على الإنصاف من هذا القول.

تلك الرؤية نجدها بتمامها عند ابن الخطيب في "الإحاطة في أخبار غرناطة"، فبالرغم من الحروب القوية والمتواصلة بين الصليبيين وأهل الأندلس، والتي أسفرت في النهاية بسقوط الأندلس بالكلية في أيديهم إلا أننا نجد ابن الخطيب يصف هؤلاء الأعداء بقوله: "وحال هذه الأمة غريبة في الحماية الممزوجة بالوفاء والرقة، والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمد... وأخبارهم في القتال غريبة، من الاسترجال والزحف على الأقدام، أميرهم ومأمورهم، والجئُوٍّ[8] في الأرض، أو دفن ببعض الأرض في التراب، والاستظهار في حال المحاربة ببعض الألحان المهَيّجة، ورماتهم قسيهم غريبة جافية، وكلهم في دروع، والإحجام عندهم والتقهقر مقدار الشبر ذنبٌ عظيم، وعار شنيع، ورماتهم يثبُتُون للخيل في الطِّراد"[9].

تلك هي الرؤية الإسلامية للذات والآخر، رؤية موضوعية في مجملها، تحق الحق وتبطل الباطل، ولو تتبعنا ميراثنا العلمي والأدبي والتاريخي لعلمنا وعلم غيرنا من علماء الشرق والغرب ماهية الإنصاف، والحق أن كثيرًا من مؤرخي الغرب ينصفون التراث الإسلامي – مع إجحاف البقية الباقية منهم - وينظرون إلى قيمه بشيء من الإكبار والإجلال، وليس أدل على ذلك أن كثيرًا من مؤرخي الإسبان لا ينخرطون في الاحتفالات السنوية لذكرى خروج المسلمين من الأندلس؛ إذ يعدون ذلك خسارة للحضارة الإسبانية، ولكن ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تناست حضارتنا وغذتها روح العنصرية والجحود يجب أن يتصدى لها المخلصون من علمائنا وقادتنا؛ ويذكّروا الغرب والشرق بالإسلام وحضارته وعلومه، فهذا بلا ريب فرض كفاية علينا.

نشر في مجلة الوعي الكويتية، عدد شهر صفر، يناير 2011م



[2] (الأحزاب: 21).

[3] أحمد عادل كمال: الطريق إلى دمشق ص61.

[4] الذهبي: سير أعلام النبلاء 20/200.

[5] الذهبي: سير أعلام النبلاء 20/202، 203.

[6] أسامة بن منقذ: الاعتبار، تحقيق فليب حتي ص137.

[7] أسامة بن منقذ: السابق ص132.

[8] أي التخفي والتربص.

[9] لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان 2/43، 44.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق