لعلني أكون صادقًا مع نفسي والقارئ حينما أقرر أن العولمة "فخٌّ" عظيم، ينطوي على خطر كبير يتهدد بعض أجزاء المنظومة الثقافية الإسلامية، بيد أن الموضوعية تحتم على الباحث أن يقرر أن لهذا النظام العالمي بعض الميزات، فيُحسبُ له أنه استطاع إخراج وإظهار كل الثقافات العالمية حتى النائية منها من سباتها وانكفائها الحضاري والمعرفي لتعرض نفسها بشكل أو بآخر في السوق الثقافية الجديدة!
وقد يُستفاد من هذه المميزات التي تتيحها "العولمة" أن ننشر أو ندعو إلى الفكرة والثقافة الإسلامية بدورها، مما يُساعد على توضيح وتصحيح معالمها الشائهة في الغرب مثلاً، دونما جهد كبير، وذلك من خلال الآليات والوسائل التكنولوجية والاتصالاتية التي ظهرت وتجلت في ركاب "العولمة" كالأقمار الصناعية والانترنت وخدمات الاتصالات الأخرى، ولكن رغم هذه الآليات العظيمة والرائعة إلا أن التيار العالمي أقوى وأعظم أثرًا من أن ينشر فكرًا أو ثقافة تتعارض مع غايته وأهدافه.
ولقد صدق الكاتبان الألمانيان "هانس بيترمارتين" و "هارلد شومان" حينما أسميا كتابيهما "فخُّ العولمة"، فلقد أبانا في هذا الكتاب المآلات الخطيرة، والنتائج الكارثية التي تجنيها العولمة في هذا الزمن، بما في ذلك الأخطار المحدقة التي تهدد الهوية الثقافية الإسلامية من خلال تغيير القناعات، وتبديل المناهج، وسيطرة الفكر الرأسمالي والرأسماليون على مقاليد الأمور في العالم كله، ومن ثم تذويب وإقصاء وتمييع هذه الثقافة إذا رأوا أنها تعوق مسيرة جنيهم للربح والمصالح الخاصة التي لا تتوقف إلا عند فئتهم التي لا تتعدى العشرين في المائة من إجمالي طبقة المجتمع[1]!
إن الثقافة في النسق الفكري الإسلامي هي كل ما يُسهم في عمران النفس وتهذيبها، فالتثقيف من معانيه التهذيب، وإذا كانت المدنية هي تهذيب الواقع بالأشياء، فإن الثقافة هي تهذيب النفس الإنسانية بالأفكار والعقائد والقيم والآداب والفنون، وكلاهما: الثقافة والمدنية عمران.. عمران للنفس وعمران للواقع، ولذلك كوّنا شقي الحضارة التي هي العمران.
أما الهوية فهي في عرف حضارتنا مأخوذة من "هُوَ .. هُوَ" بمعنى أنها جوهر الشيء وحقيقته، فهوية الإنسان أو الثقافة أو الحضارة هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنسانًا أو ثقافة أو حضارة – "الثوابت" و "المتغيرات"، فإن هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة[2]!
والهوية الثقافية الإسلامية التي هي الجوهر والحقيقة والثابت تتمثل في الإسلام منذ أن تدينت به أغلبية هذه الأمة ليصبح هو الهوية الممثلة لأصالة وثقافة هذه الأمة، فهو الذي طبع ويطبع وصبغ ويصبغ ثقافتها بطابعه وصبغته، فعاداتها وتقاليدها وأعرافها، وآدابها وفنونها وسائر علومها الإنسانية والاجتماعية، وفلسفة علومها الطبيعية والتجريبية، ونظرتها للكون والذات والآخر، وتصوراتها لمكانة الإنسان في هذا الكون .. من أين أتى؟ وإلى أين ينتهي؟ وحكمة هذا الوجود ونهايته؟ ومعايير المقبول والمفروض، والحلال والحرام في المسيرة الحياتية لإنساننا .. كل ذلك وما شابهه قد انطبع بطابع الإسلام، واصطبغ بصبغته، لنستطيع القول بكل ثقة إن ثقافتنا إسلامية الهوية، وأن معيار الدخول والخروج في ميدان ثقافتنا، والقبول والرفض فيها، هو المعيار الإسلامي[3].
إن خطر العولمة على الثقافات عمومًا، والإسلامية منها خاصة يتمثل في كونها ليست مجرد "معرض" للمنتجات الحضارية والثقافية للأمم والشعوب وفقط، وإنما يتجلى في كونها تتدخل وتؤثر وتنتقي ما يخدم مشروعها القائم على "السيطرة" و "التحكم" وفق الرؤية البراجماتية المحضة، وهنا يتجلى التناقض بين الثقافة الإسلامية بمفهومها "العالمي" و الغرب بمفهومه "المتعولم"!
ذلك أن العالمية نزعة إنسانية، وتوجّه نحو التفاعل بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات، والمقارنة بين الأنساق الفكرية، والتعاون والتساند والتكامل والتعارف بين الأمم والشعوب والدول، فهذه العالمية ترى العالم "منتدى حضارات"، بينها مساحة كبيرة من "المشترك الإنساني العام"، ولكل منها "هوية ثقافية" تتميز بها، ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وأمنية لابد من مراعاتها، في إطار "توازن المصالح" وليس "توازن القوى" بين هذه الأمم والحضارات.
لكن العولمة لا سيما الغربية منها تختلف عن هذه الرؤية الإسلامية للآخر والعالم، لأنها تنزع نحو المركزية، وكان لهذا النزوع "التصاعدي" عوامله الثقافية والفكرية والتاريخية التي يتناولها الدكتور محمد عمارة في كتابه "بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية" بأسلوب موضوعي هادئ[4]!
ذاك هو الفارق بين عالمية الإسلام وثقافته، وبين العولمة الغربية المنكفئة على النفس، والتي تحاول "قسر" الآخر على السير في ركابها، بل وتُخيّل إليه أنها الأعم والأشمل والأفضل والأحسن له ولغيره من كل عطاء أو رؤية أو بالأحرى نظام إنساني آخر؛ فاندماج الحضارات العالمية في ثقافة واحدة، ورؤية واحدة، تُمحى فيها الدعامات التاريخية والعقائدية والتراثية للأمم، والتي هي المكون العام للثقافات، فذلك هو لب العولمة وفلسفتها.
فإذا كان الإسلام يعتمد للتطور والتقدم – في الفكر والثقافة – منهاج التجديد الذي يستصحب الثوابت الإسلامية، ويجدد في المتغيرات وفِقْه الواقع وفقه الأحكام والنظم والمؤسسات، على النحو الذي يجعل ثقافة الأمة إسلامية دائمًا وأبدًا عبر الزمان والمكان، ويجعلها متواكبة لكل المستجدات، حتى لقد جعل الإسلام من هذا المنهج التجديدي سُنة من سنن الفكر لا تبديل لها ولا تحويل، فإذا كان هذا هو منهج الإسلام في الفكر والثقافة إلا أن العولمة الغربية والأمريكية تعولم وتعمم وتفرض ثقافة "الحداثة الغربية" التي أقامت وتقيم "قطيعة معرفية" مع الموروث لا سيما الموروث الديني.
ومن اللافت أن علماء الإسلام المحدثين قد انتبهوا لخطر هذا النظام العالمي الجديد والخطير، يقول الدكتور محمد عمارة: لقد كشف علماؤنا هذه النزعة "اللادينية – الدهرية" في ثقافة الحداثة الغربية منذ فجر يقظتنا الحديثة والاحتكاك مع هذه الحداثة الوافدة على بلادنا في ركاب الاستعمار، فعبد الرحمن الجبرتي (1754- 1822م) عندما احتك بفكر الحداثة الوافدة مع بونابرت والحملة الفرنسية على مصر، لم ير في هؤلاء الفرنسيين نصارى كتابيين، ذوي ثقافة نصرانية وإنما اكتشف حقيقة فلسفتهم الوضعية العلمانية اللادينية، التي أقامت قطيعة معرفية مع مطلق الإيمان الديني، فكتب بعمق وعبقرية، معلقًا على دعاوى بونابرت التي جاء فيها أنه "مخلص هو والفرنساوية للإسلام، ومحترم لنبي الإسلام"، فنرى الجبرتي قائلاً: "إن إسلامهم نصْب ... فلقد خالفوا النصارى والمسلمين، ولم يتمسكوا من الأديان بدين، وهم دهرية معطلون، وللمعاد والحشر منكرون، وللنبوة والرسالة جاحدون.."[5]. ويأتي الدكتور عمارة بأمثلة أخرى لعلماء آخرين كرفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده تُدلل على الوعي والإدراك الذي تمتع به هؤلاء الأعلام تجاه العولمة بمسمياتها المتواجدة آنئذٍ[6]!
ولكن يتضح خطر العولمة على الثقافة العربية والإسلامية كما يقرر المفكر السوري برهان غليون لكوننا "خاضعين لتحولات دولية لا طاقة لنا في تعديل اتجاهها" ويرى "أن هناك تحديين للثقافة العربية: الأول هو الاستسلام الذي يؤدي في نظره إلى الانحلال والتفكك، والثاني هو الرفض والاحتجاج وبالتالي نكون بمثابة الثقافة المضادة لثقافة العولمة"[7].
ولذلك يقرر الدكتور مصطفى منجود - أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة - أن "وجه العولمة الكالح أطل بجرأته واستفزازه بشكل كشف كل ما انبنت عليه من مقومات، وربما لأن العولمة مسّت الجميع في مناحي حياتهم كافة، وربما لأن أنصار العولمة والمتولين كبرها منهم خاصة أصبحوا يتعاملون بها دون احترام لخصوصيات أو هويات"[8]، وذلك للقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المحركة والموجهة لها.
ومن ثم فإن الثقافة الغربية بفضل التقدم التقني والتكنولوجي تسعى جاهدة من أجل الانتشار والتغلغل في كل بلدان العالم بما فيها العربية والإسلامية، وخصوصاً الثقافة الأمريكية التي تهدف إلى أمركة العالم وتهميش الثقافات الأخرى.
وتؤكد الدكتورة عواطف عبد الرحمن – أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة - أن آثار "العولمة" جلية لا لبس فيها في مجتمعاتنا اليوم، وهي تتبلور في أكثر من وجهة، وتتناول "التبعية الثقافية" للآخر وآثارها الخطيرة على ثقافتنا بقولها: "إن المخاطر الإعلامية المترتبة على هذا التفاوت الملحوظ بين الشمال والجنوب لا تقتصر على المجالات الإعلامية فحسب، بل تحمل آثارًا أكثر خطورة تتمثل في السيطرة الثقافية التي تتخذ شكل الاعتماد من جانب الدول النامية على النماذج المستوردة التي تعكس القيم وأساليب الحياة الأجنبية مما يُهدد الذات الثقافية لشعوب العالم الثالث (ومن جملتها دول العالم الإسلامي) رغم أنها ورثة ثقافات أقدم عهدًا وأكثر ثراءً، وإذا تتبعنا آثار هذا التفاوت واختلال التوازن الإعلامي على المجالات الثقافية، لوجدنا أن الدراسة التي أجراها اليونسكو عن التداول الدولي للبرامج التلفزيونية – وقد نُشرت عام 1974م – تُشير إلى أن غالبية الدول النامية التي توجد بها محطات تلفزيونية تستورد ما لا يقل عن نصف البرامج التي تعرضها، وأن 75% من جملة الواردات العالمية من البرامج التلفزيونية تأتي من الولايات المتحدة، وأن الدول التي تحتكر تصدير المواد التلفزيونية هي على التوالي الولايات المتحدة ثم بريطانيا وفرنسا وألمانيا الاتحادية"[9].
فإذا كانت هذه السيطرة على موارد الثقافة في العالم الإسلامي من قبل الولايات المتحدة والغرب بهذه النسب المفزعة منذ 36 عامًا فما بالنا وقد تطور ركاب الحضارة اليوم، لا سيما من خلال الثورة الاتصالاتية والمعلوماتية التي أبهرت دول الجنوب، وجعلتها عن إدراك منها أو بدونه تابعة منبهرة متلقفة لما ينتجه الغرب مادةً وثقافة!!
ومن ثم ظهرت آثار العولمة على الثقافة العربية والإسلامية من خلال مظاهر عدة، نتيجة لهذا القسر الإعلامي والاقتصادي التي تفرضه على دول الجنوب، ولقد تناول الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله بعض مظاهر التبعية الثقافية للغرب في كتابه القيم "التبعية الثقافية وسائلها ومظاهرها"، وخطر هذه المظاهر على تذويب الهوية الإسلامية، وتمييع الثقافة العربية، منها على سبيل المثال قضية "المصطلحات والمفردات"، يقول: "تتجلى هذه التبعية بصورة أكثر بشاعة في الوقوع في أسر (المصطلحات) و (المفردات) الغربية، واستخدامها غافلين، أو ذاهلين عن أثر ذلك، وعن مدلوله، وعما يعنيه من هيمنة لثقافة الغرب، وللوقع في أسرها، فالمصطلح يرتبط بسياق حضاري خاص، وثمرة لتجارب وفلسفة خاصة بصاحبه ... ونحن للأسف أدمنا نقل المصطلحات دون إعمال فكر، أو اجتهاد، ودون فحص أو تمحيص، وأصبحت العلوم الإنسانية العربية عقلُها في أذنيها، ننقل آخر ما نسمع بأمانة وموضوعية، تبعثان على الضحك!"[10].
ونراه متناولاً لبعض هذه المصطلحات بالتعليق والتفنيد وبيان المخاطر الدلالية التي يحملها هذا المصطلح، وهو شائع متداول بين المسلمين عن تغافل أو تقبل؛ فعن مصطلح "الشرق الأوسط" نراه قائلاً: "للأسف هذا التعبير يتردد اليوم على كل لسان من مثقفين وعلماء وباحثين، ومؤرخين وسياسيين وحكام، وهو يُمثّل قمة الاستلاب الثقافي، والتبعية في أبشع صورها، فالمقصود بالشرق الأوسط هو (نحن)، فأي بلاء، وأي تفريغ ثقافي أفظع من نتحدث عن أنفسنا بلفظ (هم)!!"[11].
ويصور المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله أن الخطر الذي تحدثه العولمة في الثقافة من محو لمعالمها وأسسها، هو خطر على الحضارة نفسها، لأن العلاقة بين الثقافة والحضارة هي علاقة الكل بالجزء والجزء بالكل، فضلاً عن طرديتها يقول: "إن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة، ولو أردنا محاكاة هذه الجملة بصورة أخرى – مع اعتبار ما بين الحضارة والثقافة من ربط وثيق – لقلنا: إن أي تفكير في مشكلة الحضارة هو في جوهره تفكير في مشكلة الثقافة، وبذلك تكون الحضارة في جوهرها عبارة عن مجموع من القيم الثقافية المحققة، وإذن فمصير الإنسان رهن دائمًا بثقافته"[12].
وبجملة مالك بن نبي السابقة نختم حديثنا عن الوقيعة الثقافية والحضارية التي تحدثها العولمة بنا؛ ذلك أن خطرها لا على يتوقف على محو المنهج والمادة والمحتوى الثقافي لهذه الأمة، بل يتعدى ذلك إلى تغيير العقلية المسلمة وفق النمط الغربي، والتصور الأمريكي، ومن ثم ضرب المشروع الحضاري الإسلامي في مقتل!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هانس بيترمارتين وهارالد شومان: فخ العولمة، ترجمة عدنان عباس علي ص14- 16.
[2] محمد عمارة: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية ص5، 6.
[3] محمد عمارة: السابق ص7.
[4] محمد عمارة: بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية ص13، 26.
[5] الجبرتي: مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ص34.
[6] محمد عمارة: مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية ص34.
[7] مقال بعنوان "عولمة الثقافة وثقافة العولمة"، صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 3 سبتمبر 2001م.
[8] مصطفى منجود: رؤى العالم الإسلامي للعولمة ص110. ضمن منشورات "حوار الحضارات بين اليابان والعالم الإسلامي" – مركز الدراسات الآسيوية التابع لجامعة القاهرة.
[9] عواطف عبد الرحمن: قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث ص53.
[10] عبد العظيم الديب: التبعية الثقافية وسائلها ومظاهرها ص67، 68.
[11] عبد العظيم الديب: السابق ص74.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق