لم تكد الحملة الفرنسية (1798 – 1801م/1213- 1216هـ) بقيادة زعيم الجمهورية الفرنسية الأولى نابليون بونابرت، تحط رحالها في مصر إلا وبدأت مرحلة جديدة يسميها أذناب "المدرسة الاستعمارية" مرحلة بناء القومية والنهضة والدولة الحديثة وأفول العصور الوسطى "المظلمة"، التي طالما عانى المسلمون في ظلها من الإهمال والنسيان والاندثار، فهذه الحملة التنويرية أدخلت المطبعة، وكشفت عن المجمع العلمي، وساعدت المصريين على إنشاء أول نظام سياسي ديمقراطي قائم على "أول" برلمان و "أول" رئاسة وزراء يعرفها الشرق في نهاية القرن الثامن عشر[1]!!!
حرية الإرادة والفعل!
ولكن من العجيب أنه في ظل هذه الحملة "التنويرية" ثارت البلاد المصرية ثورتين كانت الأولى بعد شهرين فقط من مجيء نابليون وحملته وكانت ثورة عارمة شملت القطر المصري كله، وثارت الثانية في القاهرة قبل رحيل الحملة الفرنسية بأشهر قليلة، وقد مات في كلا الثورتين آلاف من الرجال والنساء والأطفال الذين – طبقا لتفسيرات عباقرة المدرسة التغريبية – وقفوا بكل حماقة أمام التقدم والديمقراطية الذيْن جاءا بهما الرجل الأبيض منافحًا ومدافعًا عن "حرية" المصريين و "مقدراتهم" التي سُلبت في ظل "الاستعمار" التركي، والحُمق المماليكي!!
لم تنطلِ على المصريين هذه الخدع التي سرعان ما تكشفت لهم يومًا بعد يوم في ظل "الاحتلال" الفرنسي الذي رسّخ بكل وضوح أول مدرسة "للاستبداد" السياسي في الشرق في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، صحيح أن المصريين عانوا في هذه الآونة من التخلف التركي، وجشع المماليك، إلا أن كلمة الناس كانت في عصر العثمانيين مسموعة، وطبقة الشيوخ لا سيما رجالات الأزهر الشريف كانت مصانة، "فالحق أن مكانة الأزهر لم يُتطاول عليها، ولم تُمتهن إلا على يد نابليون وجيش الاحتلال الفرنسي، وإلى أن أنجز المهمة الحُكم المتغرب الذي بدأه محمد علي وأكمله من جاءوا بعده ... وبالطبع كانت مكانة الأزهر تنسحب على شيوخه جميعًا بصرف النظر عن جنسيتهم – بألفاظ عصرنا – فإنه لما أُهين الشيخ الشريف السيد قاسم بن محمد التونسي من طرف بعض الأمراء: تحزبت له العلماء وكادت أن تكون فتنة عظيمة ولكن الله سلم. وكان إذا تدخل المماليك في تعيين شيخ الأزهر أبطل المشايخ تدبيرهم وثاروا عليه، فلما تدخل إبراهيم بيك (أحد المنهزمين مع مراد أمام نابليون) وعين الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي الحنفي انتدب لنقض ذلك بعض الشافعية الخاملين (!) وذهبوا إلى الشيخ محمد الجوهرى وساعدهم وركب معهم إلى بيت الشيخ البكرى وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية وكتبوا عرضحال إلى الأمراء مضمونه أن مشيخة الأزهر من مناصب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد أبدًا.. واتفقوا على أن يكون المتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي وختم الحاضرون على ذلك العرضحال وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بك[2]"[3].
ويعلق الأستاذ محمد جلال كشك على هذه الحادثة بقوله الفذّ: "شرعًا وفقهًا، الحق مع الأمراء، ومن زاوية السيادة لديهم كل الحق؛ إذ لا يُعقل أن تحرم مشيخة الأزهر على المذهب الذي ينتمون إليه، وينتمي إليه السلطان نفسه! لكن القضية هنا ليست قضية فقهية، إنها قضية احترام "الناموس" الاجتماعي والتزام الجميع بتوزيع الاختصاصات الذي استقر عليه توازن القوى في مصر"[4]، وبالفعل نزل الأمراء في نهاية الأمر لرأي طبقة العلماء ومن ورائهم العامة الذين كانوا يرونهم "النخبة الشرعية لهم".
ومع انجلاء الحملة الفرنسية البغيضة، سرعان ما تجلت القوى الشرعية للمصريين، إنها قوة المجتمع المدني الذي استطاع أن يكون مقاومة شعبية منظمة استطاعت أن تقضي في ثلاث سنوات فقط على أعظم جيش عرفه العالم وقتئذٍ، ثم غُرّر بهذا المجتمع الذي لم يعرف أحابيل وخدع محمد علي الذي بدأ حكمه بالقضاء على المماليك في حادثة القلعة الشهيرة، ثم القضاء على مراكز القوى في المجتمع التي كانت بمثابة رقابة شرعية حقيقة على تصرفات الوالي الجديد، ومن ثم خلا لمحمد علي الجو داخل مصر، وبدأ في نشاطه التوسعي الذي انتهى به في نهاية الأمر وقبل موته بسنوات قليلة نهاية مهينة بتوقيع مصر على اتفاقية لندن سنة 1840م[5].
وفي عام 1882م استطاعت انجلترا أن تحتل مصر رسميًا ولمدة سبعين عامًا متصلة، لم تُخرج مصر في خلال هذه السنوات السبعين ما أبهرت به المؤرخين في سنوات الحملة الفرنسية الثلاث من ثورتين متصلتين ومقاومة شعبية مستمرة، فما السبب الذي جعل المصريين يرزحون تحت وطأة الاستعمار ويقبلونه كل هذه المدة، فضلاً عن إجهاض كل المقاومات المسلحة (ثورة أحمد عرابي)، والشعبية (ثورة 1919م)؟!
العلماء والمقاومة الفكرية!
إن الإجابة على هذا السؤال المهم تتجلى في الاستبداد والفساد السياسي الذي أصاب مصر في مقتل منذ صعود محمد علي الذي جفّف منابع الرقابة المجتمعية المتمثلة في طبقة العلماء الصادحين بالحق، والمؤسسات المجتمعية التي أعطت نوعًا من الاستقلالية لهذه المجتمع لاسيما الأوقاف الأهلية التي بدأ محمد علي منذ توليه مقاليد البلاد في السيطرة عليها وضمها لرقابة الدولة.
وثمة أسباب أخرى - ليس هذا المقال بصدد عرضها - جعلت دور الأمة متقهقرًا غير قادر على الوقوف أمام نير المحتل الغاصب، منها الثقافة التغريبية التي قضت إلى حد ما على الروح الوطنية لكثير من المثقفين، وجمود طبقة العلماء من رجال الأزهر أمام قشور معرفية جعلت جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم من العلماء الأجلاء يتناولون هذه الأدواء بالدراسة والتحليل والنقد والنقض في بعض الأحيان.
ومن العجيب أنه في منتصف القرن التاسع عشر ولد رجلان كان لهما أبلغ الأثر في توصيف حالة القهر والتخلف الذي شهدتها الأمة في تلك الأوقات، كما كان لهما الفضل في تجديد الفكر الإسلامي الذي اتكأت عليه الصحوة الإسلامية في القرنين العشرين والحادي والعشرين/ الثالث والرابع والخامس عشر الهجري، إن هذين الرجلين هما المصري محمد عبده (1849 – 1905م) والسوري عبد الرحمن الكواكبي (1854 – 1902م).
فمحمد عبده رحمه الله كان يرى أن أهم شرط يجب توفره لإزالة الفساد السياسي يتمثل في "التربية"، تربية الأمة على المعرفة التي تتيح لها التقدم في كل الأمور بما في ذلك الإصلاح السياسي، فقبيل قيام الثورة العرابية التي قادها الضابط الشهير أحمد عرابي في 9 سبتمبر 1881م، كان القدر قد جمع بين أحمد عرابي ومحمد عبده ومجموعة من الضباط الآخرين، ودار بينهم نقاش حول آليات القضاء على الاستبداد السياسي، فكان رد محمد عبده قاطعًا بقوله: "إن أول ما يُبدأ به: التربية والتعليم؛ لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة على العدل والإصلاح، ومنهما تعويدهما الأهالي على البحث في المصالح العامة، واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات، وليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد ... إن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع: القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطاتها، وإلزامها الشورى والمساواة بين الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح والتربية النافعة، وصار لهم رأي عام"[6]، ولم يقبل أحمد عرابي هذا الرأي ورأى أن ثورة الجيش وإرغام الخديوي بإظهار القوة له خير عمل لتحقيق ما تحتاجه مصر من إصلاحات، وكلنا يعلم ما جرّته هذه الحركة الوطنية التي قادها عرابي عليه وعلى مصر كلها، مع اعترافنا بوطنيته وإخلاصه!
وظل محمد عبده حتى موته مؤمنًا بدور التربية الفعالة في إصلاح الأمة التي ستملك زمام المبادرة لإصلاح ما تراه من فساد سياسي – رغم انبهاره وإعجابه بثورة سبتمبر 1881م – على أن الشيخ الكواكبي رحمه الله سطّر في كتابه البديع "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي يُدلل على كونه رجل من المجاهدين الحقيقيين الذين استطاعوا أن يعبروا عما يمور في قلوبهم، وما يرونه من بؤس سببه الاستبداد السياسي وفساده - سطّر بشجاعة فائقة نقده للحكومات، بل بصّر فيه الشعوب بواقعها المؤلم، لكي يثوروا على كل مستبد ظالم، وكل مستعمر طامع[7]، وكان هذا الكتاب سببًا في مقتله بالسّم!
إن الكواكبي رحمه الله يقرر أن سبب تخلف الأمة - وهي المسألة التي بحثها الباحثون من العلماء والمفكرين والمثقفين عمومًا في عصره واختلفوا حولها – يتمثل في "أن أصل هذا الداء (الانحطاط) هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، وقد استقر فكري على ذلك بعد بحث ثلاثين عامًا"[8]، وهو يُعرّف الاستبداد بقوله: "التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى"[9]، وهذا عكس السياسة التي هي التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الحكمة. وقد كشف بأسلوب مبهر، وأدلة منطقية رائعة الآثار السلبية للاستبداد على المجتمع على كل من الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والتربية والعمران، فكان أهم كتاب تناول قضية الفساد السياسي في أواخر القرن التاسع عشر، وأهم مرجع لا يستغني عنه الباحثون عن الآليات التي من خلالها تنهض الأمم، رغم صغر مادة الكتاب مقارنة بما نراه اليوم من مطولات!
وإذا كان الكواكبي قد وضع يده على هذا السبب وجعله أصل كل المفاسد الأخرى، وهذا بالمناسبة ما يؤيده فيه التاريخ السياسي بنسبة لا بأس بها، فإن القرن العشرين قد شهد ظهور حركات كان لها بصمات لا تخفى فيما نراه اليوم من مقاومة للفساد السياسي، وإنه في عام 1949م تم اعتقال العلامة محمد الغزالي رحمه الله في معتقل الطور بسيناء، وكانت سلسلة محاضراته في المعتقل تدور حول "الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية"، وكانت هذه المحاضرات عنوان أهم كتاب صدر له بعد الإفراج عنه مباشرة، وقد لاقى بسببه السجن والتنكيل في العصرين الملكي والجمهوري بعد ذلك.
يؤكد الشيخ الغزالي رحمه الله أن الشورى الجماعية المُلزمة هي أحد الأسباب الرئيسة للقضاء على ظاهرة الفساد والاستبداد السياسي، ويقرر أن "من مميزات الشورى أنها ترد الحاكم إلى حجمه الطبيعي كلما حاول الانتفاخ والتطاول، والجماعات البشرية السوية، فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم. أما البيئة المنكوبة بالاستبداد فدجاج كثير وديك واحد، إن ساغ التعبير!!"[10]
وبعدُ، فلعل هذا المقال قد ألمح في عجالة إلى آليات القضاء على الفساد السياسي، وهي تتمثل في محورين رئيسيين: الأول إرجاع دور العلماء والمجتمع المدني إلى مكانه الحقيقي في المراقبة والمشاركة. والثاني إلزام الحكام بقضية الشورى التي تبرُز من خلالها المصلحة الجماعية للأمة.
نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
[1] راجع كتابات لويس عوض في هذا المضمار!!
[2] الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار1/541.
[3] محمد جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر ص79، 83.
[4] محمد جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر ص83.
[5] محمد صبري: تاريخ مصر الحديث من عهد محمد علي حتى عام 1926م ص73، 74.
[6] محمد عبده: الأعمال الكاملة (في الكتابات السياسية)، تحقيق محمد عمارة ص54.
[7] الكواكبي: طبائع الاستبداد، مقدمة المحقق الدكتور أسعد السحمراني.
[8] الكواكبي: طبائع الاستبداد ص30.
[9] الكواكبي: السابق ص34.
[10] محمد الغزالي: الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية ص53.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق