الأربعاء، 17 أغسطس 2011

لمَ يضعُفُ الإسلاميون؟!!


ثمة سؤال بسيط يمكن أن يسأله المرء لنفسه: هل أقدر على ارتضاء الظلم، والعيش في كنفه، والتعاون مع أهله والموافقة على التوافق معهم لأجل المصلحة العليا للمجتمع؟!

ثمة إجابة سهلة: نعم قد أقبله إذا كنتُ مضطرًا إليه، لا أملك من الآليات والوسائل ما يمكنني من منعه، بل يمكن أن أوفق أوضاعي كافة في ضوء الظالمين الحاكمين ومعاونيهم ومن يقتاتون على موائدهم، ويقفون حجابا وخداما على أبوابهم..وهذا هو الواقع العملي الذي رأيناه وعشنا فيه وولدنا في كنفه!

لكن السؤال السريع الذي يأتي لذهن المتابع لهذا الحوار يكون: وأين مقاومة الظلم التي أمرنا الله في كتابه ومن خلال نبيه صلى الله عليه وسلم أن نقوم بها؟ وأين ذلك الحديث الشريف الذي يعلمه كل مسلم تقريبا: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ"[1]، وقد كان من فقه الإمام مسلم أن جعل عنوان الباب المتضمن لهذا الحديث هو: "باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان".

بل أين حديث النبي صلى الله عليه وسلم الشهير الذي شبّه المجتمع الذي يعيش فيه المؤمنون والظالمون بالسفينة، يمكث الظالمون في أسفلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"[2]، ولا يخفى على كل ذي لب أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل أهل الإيمان والإسلام في المرتبة العليا؛ إذ هُم المقياس الذي يُقاس منه وبه درجة صلاح المجتمع وامتثاله للصراط المستقيم، ولا يجوز لهم أن يُغمضوا عينًا، أو يغفوا جفنًا لهؤلاء الناكرين للمعروف الآمرين بالمنكر!

إذن لوهلة سريعة نرى الله عز وجل قد جعل المؤمنين في المرقبة العليا التي لا تصلح حياة المجتمع إلا بصلاحها، وتجاهلها أو تقاعسها عن أداء فريضة المراقبة - مراقبة الله في أفعالهم، وكذلك مراقبة المجتمع الذي يتبع الهوى وخطوات الشيطان وهي من أهم لوازم درء الظلم ودفعه قبل وقوعه – سبب من أسباب سقوط المجتمع الإسلامي في التيه والضلال المبين.

إذن أعطى الله المجتمع الإسلامي زمام المبادرة في خطوة استباقية لدرء الظلم، والأخذ على يد الظالمين الذين لا يرجون من الإسلام مشروعًا لحياتهم وضمائرهم، وفي الإسلام نخبة متمثلة في أهل الإيمان وهم الذين يترصدون أمثال هؤلاء الحمقى ممن يريدون على مر الزمن أن يخرقوا في أسفل السفينة خرقًا يشربون منه، ويُغرقون المجتمع كله فيه!

لكن المجتمعات الإسلامية في الأعوام المئاتين الأخيرة تقاعست عن أداء هذه الخطوة الاستبقاية التي تدرء كل ظلم أو حمق أو ضلال يحيف بالمجتمع الإسلامي، وقد كان من الطبيعي أن يخفت صوت الحق، ويتضآل أهل الإيمان، ويُنحى أصحاب المشروع الإسلامي؛ ليرتفع صوت كل ناعق لا يُسمِع الناسَ إلا الضلال والبهتان والإثم المبين، وقد قُدّر أن يكون هؤلاء النُّعاق ممن يقودون المجتمع الإسلامي، ليلتقفوا كل شاردة وواردة من الشرق والغرب يجربونها علينا وعلى أنفسهم، فيسقطون المرة تلو الأخرى، ويسقط المسلمون وأهل الإيمان الذين تخلوا عن أداء واجبهم معهم في بئر الضلال والظلمات.

***

وقد قدّر الله أن تقوم في مصر ثورة أطاحت ببعض رؤوس الفساد، لكنها لا تزال حتى الآن تُبقي على كثير من المفسدين، ممن لا تخفي ألسنتهم وصدورهم حنقهم وكرههم للإسلام والإسلاميين وكل من يمت إليهم بصلة محبة أو قرابة أو تعضيد.

ليبتلي الله أهل الإيمان من جديد، ويعيد إليهم الكَرّة مرة أخرى..يعيد إليهم دورهم في قيادة لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يعرف توافقًا مع نخبة من العلمانيين والليبراليين هم أشد كُرها لمن ينادي بالإسلام دينًا مهيمنا على المجتمع كله، يصفونه بالظلام والتخلف والرجعية، لدرجة أن أحدهم وهو في وزارة الثورة يقرر أن الدولة الدينية تخلف يُرجع الدولة 1400 سنة إلى الخلف، والكل يعرف دلالة هذا الرقم جيدًا، فالإسلام في نظرهم دين التخلف!!

ومع سماع هذه البلايا يوما بعد يوم، نجد من الإسلاميين من يظن أن التوافق الوطني بين الأطياف المتناحرة المتباينة، بين أهل الحق وأهل الباطل هو الحل لإزالة كل التراكمات والخلافات، وكأن مجتمعا يعيش فيه 95% من المسلمين المؤمنين بالمشروع الإسلامي لابد أن ينزلوا لهؤلاء الحمقى في أسفل السفينة ليتوافقوا على أفضل السبل لخرقها!!

لقد كان من سنن الله الثابتة التدافع بين الناس كافة، والتدافع بين أهل الإيمان وأهل الباطل، ولم نقرأ آية واحدة تشير إلى إمكانية تذويب أهل الإيمان في أهل الضلال بل رأينا آية تعلي من أهل الإيمان وتزيدهم قوة إلى قوتهم هي قوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ[3])، ولا أزال منبهرًا من تفسير الأستاذ سيد قطب رحمه الله لهذه الآية العظيمة بقوله: "التعبير يرسم هذه السُّنة في صورة حسية حية متحركة، فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة، تقذف به على الباطل، فيشق دماغه! فإذا هو زاهق هالك ذاهب . . هذه هي السنة المقررة، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود. والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلاً، طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه. ولا بقاء لشيء يطارده الله؛ ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه!

ولقد يخيل للناس أحياناً ان واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منزوياً كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض؛ وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .

والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . . فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر عرفوا أنها الفتنة؛ وأدركوا أنه الابتلاء؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم ، لأن فيهم ضعفاً أو نقصاً؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر ، وأن يجعلهم ستار القدرة ، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . . وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء ، وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} والله يفعل ما يريد"[4].

وإن أي تنازل أو صمت من الإسلاميين على غلبة العلمانيين والليبراليين إنما هو تأخير لنصر الله وتأخير للأمة كلها، وقد رأينا قديما تلك الفرص التي أُتيحت للإسلاميين لكي يكونوا في دور القيادة، ويجاهدوا لاستنصار الحق فصمتوا وسكتوا في وقت كان التحرك أولى خطوات النصرة، والآن لا يجوز أن يكرروا ما وقعوا فيه آنفًا، سواء بالخداع أو التوازنات السياسية التي لا يؤتى من ورائها أي طائل.

***

ثمة آيتان في سورة الأنعام توقفتُ عندهما متعجبًا من حقيقة القوة التي يتجاهلها أو يتناسها الإسلاميون عند مواجهتهم واحتكاكهم المتواصل بالعلمانيين والليبراليين وغيرهم، كيف يقبل الإسلامي على نفسه أن يشكك العلماني في حقيقة المنهج الإسلامي والدولة الإسلامية ثم يرد آليًا على شبهاته، ثم يشكك الليبرالي في النموذج الإسلامي فيعيد الإسلامي تلك الإجابة وهكذا دون رد قوي يزلزل أركان هذا العلماني أو ذلك الليبرالي، وكلنا يعلم مدى ضعف وتخلف وانحطاط هذه النماذج التي حكمتنا منذ مائتي عام ولم تجن لنا سوى الخراب والدمار والتبعية والتخلف؟ كيف يقبل الإسلاميون أن يظلوا دائما في موقف المدافع المنافح والمنهج القرآني يتحدث صراحة عن ضرورة إفحام كل منهج يخالف الإسلام ونظامه؟

إن هاتين الآيتين قد جاءتا على لسان خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فهو أول من سمانا المسلمين، وهو أول من تجلت على لسانه علامات القوة في الحق، والصبر على الباطل ومواجهته بكافة الأدوات التي تجعل أهله عرايا من الأدلة والبراهين التي يتكئون عليها في الدفاع عن أنفسهم ومناهجهم، لقد حاجّه قومه، وأرادوا أن يجعلوه مثلهم شاب مغمور من مغامير الكفر وأهله، لكنه أبى إلا أن يكون مسلما مدافعًا عن هذا المنهج العظيم، مهاجمًا مفككًا لمنهجهم السطحي التافه، يقول تعالى: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[5]).

هل هناك قوة في الحق، وهو الوحيد بينهم، الضعيف فيهم، تعدل هذا الخطاب الاستنكاري التهكمي منه عليه السلام؟ لقد أبى عليه السلام أن يقبل شبهتهم مدافعًا عن دينه ومنهجه كما نفعلُ ليل نهار، بل وجه إلى منهجهم وعقيدتهم سهام الحق، ودلائل الحقيقة بقوله الاستنكاري: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، هذا وهو الفرد الضعيف في مجتمع جله من الكافرين المشركين بالله، فكيف بمجتمع نسبة المسلمين فيه تقرب من الاكتمال، ومع هذا لا نزال نرى الإسلاميين مدافعين ومدافعين ثم لا يملكون من أمرهم تجاه هؤلاء العلمانيين والليبراليين وأصحاب المناهج الباطلة إلا السكوت والصبر والاحتساب، وكأنه قد كُتب على الأغلبية المسلمة أن تكون تابعة جاهلة لا تملك زمام أمرها، فلا نرى رموز الحركات الإسلامية وأهل العلم والاجتهاد الذين يملكون مقاليد دمغ هؤلاء الجاهلين إلا قليلاً أو نادرًا، فهل نظن أن هناك نصر قريب ينزل علينا مع هذا الصمت والخزي والسكون في التنظير والتطبيق؟!

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (49).

[2] صحيح البخاري: كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه (2361).

[3] (الأنبياء: 18).

[4] سيد قطب: في ظلال القرآن 4/2372.

[5] (الأنعام: 80، 81).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق