التجربة الأدبية تجربة متجذرة في تراث العرب الأقدمين، بل هي المادة التي أعطت لنا قدرا من المعلومات حول أولئك الأقوام الذين عاشوا في بيئة لا تملك من أمرها سوى السيف والكلمة.
والكلمة في تاريخ التراث الإسلامي لها شأن بل شأن عظيم، فهي التي ترفع أقوما في الجنة وهي التي تكبهم في النار بفضل "حصائد الألسن" كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم، والشعر العربي ترجمة لواقع الإنسان، ليس الواقع المادي المحسوس الذي يمكن أن نصف من خلاله الطبيعة والبيئة والكون بل وصف دواخل النفس، ومقاليد الروح، وأعماق الفؤاد، وشواجن الإنسان، ولحظات سعادته التي تغمره بين الفينة والأخرى.
وقديما سمعتُ أحد أساتذتي في دار العلوم يقول بكل وضوح: إن التجربة الأدبية يمكن أن نستقي منها القيمة الروحية والأخلاقية، ويمكن أن تساعد المجتمعات البشرية على الرقي الأخلاقي والاجتماعي، تعمل في الإنسان عمل النص المقدس، هي لا تقارن به قطعًا، غير أنها تؤثر في دواخل النفس البشرية تأثيرًا يمكن أن نلحظ أثره في واقعنا، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم حينما قال: "إن من البيان لسحرًا"[1].
وتجربة المعتمد بن عباد، محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل (431- 488هـ) أحد أبرز ملوك الطوائف وأعظمهم، تستحق أن ننظر إليها من خلال تجربته الشعرية التي رافقته في كل سني عمره، كما أننا يمكن أن نتلمس تجربته الحياتية وجهاده ثم سقوطه وسجنه وموته في نهاية المطاف من خلال التاريخ السياسي للأندلس في القرن الخامس الهجري، وهي تجربة سهلة ميسرة لكل من تتبع دورته الحضارية "كملك" ثم سقوطه "كفرد" وهو في السابعة والخمسين من عمره في أواخر الكهولة وبداية الذبول!
لكن التجربة الشعرية هي تجربة ذاتية في نهاية المطاف يسجل الإنسان فيها تاريخه الظاهري والباطني، وهي عبرة يختزل البيت الشعري فيها مشاهد يمكن للمؤرخ أن يدونها في فصل من كتاب أو حتى في كتاب مستقل!
وإن الملَكة الأدبية التي تخفي من ورائها حياة كاملة والتي نتحسس أطرافها ومعالمها في هذا المقال عن المعتمد قد أبهرت المؤرخين والأدباء الذين نالوا حظًا من المعرفة، ونصيبًا من الشهرة، فابن بسام الشنتريني المؤرخ والأديب الأندلسي الشهير (ت542هـ) وأحد المعاصرين للمعتمد يقول عنه: "كان متمسكاً من الأدب بسبب، وضارباً في العلم بسهم، وله شعر كما انشق الكمام عن الزهر، لو صدر مثله عمن جعل الشعر صناعة، واتخذه بضاعة، لكان رائعاً معجباً، ونادراً مستغرباً، فما ظنك برجلٍ لا يجد إلا راثياً، ولا يجيد إلا عابثاً، وهو مع ذلك يرمي فيصيب، ويهمي فيصوب، وشعره يوضح ما شرح ويعبر عما ذكره، مع أنه قد رويت أشعار أولي النباهة والأعيان، على قديم الزمان، لشرف قائلها، مع قلة طائلها... والعجب من المعتمد أنه مَرى سحابه في كلتا حاليه فصاب، ودعا خاطره فأجاب، ولا تراجع له من طبع (في الملك)، ولا بعد الخلع، بل يومه في هذا الشأن دهر، وحسنته في هذا الديوان عشر، فإن أجاد فما أولى، وإن قصر فعذره أوضح وأجلى"[2].
هذا الوصف الرائق من ابن بسام للمعتمد، يجلي لنا طبيعة هذا الأمير الذي يعيش حياة الرغد والدعة والاستمتاع والامتزاج بكل لطيفة تحيط به، وكل خاطرة يمكن أن يصفها بأشعاره الرائقة، بل يعلو فوق الشعر فيتلاعب به تلاعب الصقر بفريسته، إنه يصف زوجه الشهيرة اعتماد الرُّميكية في أبيات تحمل بداية كل كلمة في أبياتها حرفًا من اسم زوجه فيقول:
أغائبة الشخص عن ناظري ... وحاضرة في صميم الفؤادِ
عليك السلام بقدر الشجون ... ودمع الشؤون وقدر السّهاد
تملّكت مني صعب المرام ... وصادفت مني سهل القياد
مرادي أعياك في كلّ حين ... فيا ليت أني أُعطى مرادي
أقيمي على العهد ما بيننا ... ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طيّه ... وألّفت فيك حروف " اعتماد "[3]
وهو مع وصفه البديع لزوجه وأولاده وجواريه وكل ما هو قريب من قلبه لا يبرح أن ينسى مكانته كملك وفارس، صحيح أن حضرته غاصّة بشعراء وأدباء عصره، إذ إن بها نديمه وصديقه محمد بن عمار (ت479هـ) أحد أفضل الشعراء في الأندلس قاطبة، لكن المعتمد في نهاية الأمر رجل ذو سياسة عليه أن يوسع ملكه وأن يثبت أنه عظيم في القوة كعظمته في الأدب والرياسة، فتتجه همته لفتح قرطبة عاصمة الأمويين في الأندلس، ويستطيع أن يفتكها من عبد الملك بن جهور سنة 462هـ بعد عام واحد فقط من ملكه لإشبيلية، فنراه مفتخرًا بهذا الفتح العظيم بقوله المجلجل:
مَن للملوك بشأو الأصيدِ البطلِ*** هيهات! جاءتكُم مهديةُ الدُّولِ
خطبتُ قرطبةَ الحسناءَ إذ مَنَعَت*** مَنْ جَاء يَخْطُبُها بالبيض والأسَلِ
وكم غدت عاطلاً حتى عَرَضتُ لها*** فأصبحت في سَري الحَلي والحُللِ
عُرسُ الملوك لنا في قصرها عُرُسُ*** كل الملوك بها في مأتم الوجَلِ
فراقبوا عن قريب لا أبا لكُمُ*** هجومَ ليثٍ بدرعِ البأس مشتَمِلِ[4]
لكن نشوة النصر بضم قرطبة لم تنسيه عشقه المتمثل في إشبيلية وتجربته الأدبية فيها، وقد كان ابن عمار كما ذكرنا أحد ندمائه والمقربين منه دائمًا، بل والمشاركين معه في هذه التجربة أيضًا، فنحن نجد الإجازة – وهي أن يقول الشاعر شطر البيت فيكمل صديقه شطره الآخر مرتجلاً – أمرًا شائعًا بين الأمير الشاعر وبين ندمائه وحاشيته وخاصة ابن عمار الآنف، ففي إشبيلية يمتزج المعتمد بهذه المدينة امتزاج الأم بولدها، ويتفاعل مع كل ما يحيط به فيها، مشاركًا لنديمه، رافعًا كلَف الإمارة بينهما، فمن ذلك "ما روى أن المعتمد بن عباد ركب في يوم قاصداً الجامع، والوزير أبو بكر بن عمار يسايره، فسمع أذان المؤذن، فقال المعتمد:
هذا المؤذنُ قد بدا بأذانه
فقال ابن عمار:
يرجو بذاك العفو من رحمانهِ
فقال المعتمد:
طُوبى له من شاهدٍ بحقيقةٍ
فقال ابن عمار:
إن كان عقدُ ضميرهِ كلسانه"[5]
لكن حياة الإنسان لا تستقيم على حال، والسعادة لا يمكن أن يتحصل عليها الإنسان دائمًا – ولو كان أميرا – في ظل "حياة أرضية" متقلبة مضطربة غير مطردة ولو حاول الإنسان بكل ما أوتي من جهد أن يطوعها لأمره، ويجبرها على ذلك ببنانه لفشل، وهو مع هذا مقود وإن ظن أنه القائدُ!!
ولم يمكن المعتمد بدعًا من هذه السنة الكونية، ففي ظل أندلس متشرذمة لإحدى وعشرين إمارة ضعيفة العدة والعتاد لا يمكن أن تقف أمام أناس بدءوا في حرب "الاسترداد" من هؤلاء المسلمين الحمقى الغارقين في ملذاتهم والمنتفخين بأوصاف كاذبة هي بريئة منهم ومن أفعالهم القميئة، وإن كان المعتمد أقواهم لكنه واحد منهم، يصيبه ما يصيبهم، بل لأنه الأقوى فإن أنظار العدو تتجه إليه أولاً!
ومع استنصار المعتمد بأنجاد المرابطين، وانتصاره وإياهم في موقعة الزلاقة الشهيرة في العام 479هـ، غير أن هذا الانتصار كان بداية الانكسار له، وتشتت شمله، وذهاب ريحه وقوته وعنفوان شبابه وذكرياته وآمالاه وبداية آلامه وأتراحه وأوجاعه التي لن يسكتها سوى الموت!
إن المرابطين يرابطون على مشارف مدينة إشبيلية استعدادًا لاقتحامها وضمها لمملكتهم المرتقبة في الأندلس، وإن كل الآمال معقودة على ردة فعل المعتمد تجاه ابن تاشفين، فإن هو استشفعه وتذلل له فيمكن أن يبقيه في بلده بين أولاده وأحفاده وزوجه، غير أن الفارس المتسنم لذروة المجد والأخلاق والرفعة في الأندلس يستهجن مثل هذا الاقتراح الذي يجعله ذليلاً أمام نفسه قبل القوم، فتخرج منه هذه الأبيات الشهيرة، بقافيتها العينية التي تُخرج ما في أعماقه بحرقة وألم وجراح ودموع تلخص كل يمكن أن يكتبه أعظم مؤرخ في زمنه في هذه الأبيات البليغة والرائعة:
لما تماسكت الدّموع ... وتنبَّه القلبُ الصديعْ
قالوا الخضوعَ سياسةٌ ... فليبدُ منك لهم خُضُوعْ
وألذُّ من طعم الخضوعِ ... عَلَى فَمِي السُّم النقيعْ
إِنْ تَسْتلبْ مني الدُّنا ... مُلكي وتُسْلِمُني الجمُوعْ
فالقَلبُ بين ضلوعهِ ... لم تُسْلم القَلبَ الضُّلوعْ
لم أسْتَلِبْ شَرفَ الطِّبا ... ع أيُسْلَبُ الشرفُ الرّفِيعْ
قد رُمتُ يوم نِزالهم ... ألاّ تحصِّنَني الدُّروعْ
وَبَرزتُ ليَس سِوى القمي ... صِ عَلى الحشا شَيءٌ دَفُوعْ
وبذلتُ نَفْسِي كي تَسِي ... لَ إذا يسيلُ بها النّجيعْ
أَجَلِي تأخَّر لم يكُن ... بِهَواي ذُلّي والخُضُوعْ
ما سِرتُ قط إلى القِتا ... لِ وكَان مِنْ أَمَلي الرّجُوعْ
شِيَمُ الأُلى أَنا مِنْهُمُ ... والأصْلُ تَتْبَعُهُ الفُرُوعْ[6]
وهو بهذه الأبيات يعلن عن أصله الشريف، وتاريخه المجيد، وطبعه المنيف الذي لن يسمح له لأن يكون عبدًا طائعًا للمرابطين، فهو يقبل أسْره، ويصبر على قتل أولاده، وضياع ابنته ووقوعها في السبي ثم زواجها من رجل مغمور في إشبيلية دون أن يستجيب لصراخ الصارخين، وعويل النائحين الثكلى!
يقع المعتمد في الأسر ويُنقل قسرًا من إشبيلية الغناء إلى صحراء المغرب في مدينة أغمات مع زوجه التي قد تلطف عليه سويعات عمره الأخيرة، ولا يمكن لشاعر رقيق الحواس، مرهف القلب، مثقل بالقيد أن تمر عليه هذه اللحظات من الألم والانكباب عن العز والمنعة دون وصفها بهذه الأبيات:
تَبَدّلتُ من عزِّ ظِل البنود ... بِذُلِّ الحديدِ وثِقْلِ القُيودِ
وكان حديدى سِنَانَا ذليقًا ... وَعَضْبًا رقيقًا صَقيل الحديدِ
فَقد صَار ذاك وذا أدهما ... يَعضُّ بساقيَّ عَضّ الأُسُودِ
ويعلق المقَّري على هذه الأبيات المفعمة بالألم والحسرة بقوله البليغ: "ثم جمُع (المعتمد) هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حُشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم"[7].
وفي أغمات ينتظر ابن عباد لحظة النهاية، وهو حتى مع اقتراب هذه اللحظة فإنه يستبقها بأبيات لا تبدو فيها لوثة الجزع، والندم لقبول الأسر وإنما يستذكر مآثر قبر يجمع أشتات جسد عرف المجد والعلم والفروسية وقبول قدر الله ورفض العبودية لغيره وإن كان مكبلاً بالأسر، موسومًا بالعبودية، لكنه يملك الإرادة لرفض هذا، وكفى بالمرء شجاعة أن يملك قلبه وقبره!
فقد أمر أن يُكتب على قبره هذه الأبيات التي تدلل على عشقه للحرية والإرادة وإن كان في قبره وحيدًا ساكنًا، بقوله:
قبرَ الغريبِ! سقَاك الرائحُ الغادي ... حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد؟!
بالحلمِ بالعلمِ بالنُّعمى إذا اتصلتْ ... بالخِصب إن أجدبوا بالري للصَّادي
بالطاعنِ الضاربِ الرامي إذا اقتتلُوا ... بالموت أحمرَ بالضِّرغامة العادي
بالدَّهر في نِقَمٍ بالبحر في نِعَمٍ ... بالبدر في ظُلَمٍ بالصّدر في النادي
نعم هو الحق حاباني به قدرٌ ... من السّماء فوافاني لميعادي
ولم أكن قبل ذاك النّعشِ أعلمُه ... أن الجبَال تَهَادَى فوق أعوادِ
كفَاك فارفُق بما استُودِعتَ من كرمٍ ... رواك كُل قَطُوب البرق رعّاد
يبكي أخاه الذي غيَّبتَ وابلَهُ ... تحتَ الصفيح، بدمعٍ رائحٍ غادي
حتى يجودَك دمعُ الطّلِّ منهمراً ... من أعين الزُّهر لم تبخل بإسعادِ
ولا تزل صلواتُ الله دائمةً ... على دفينِك لا تُحصى بتعدادِ
ويُسكّن المعتمد قبره، ويُكتب عليه شعره، ويموت البطل بعد حياة مركبة مليئة بالأفراح والأتراح، والسعادة والأشواك، والشعور بالحرية والغلبة، وحياة اللعب والنشاط ثم القهر واستنظار الموت..
أليست هذه التجربة دليلاً لحيواتنا كلنا؟ أليست تعبيرًا عن حقيقة الحياة بصورة شعرية تلخّص ما تسرده المطولات وتراجم النبلاء والمغامير؟ أليست هذه هي حقيقة الحياة التي أرادها الله غير صافية لأحد؟!
نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري: كتاب النكاح، باب الخطبة (4851).
[2] ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس 3/42.
[3] ابن الأبّار: الحلة السيراء
[4] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس 1/652.
[5] المقري: نفح الطيب 3/616.
[6] ابن بسام: الذخيرة 3/53.
[7] المقري: نفح الطيب 4/214.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق