بعد أشهر من الشد والجذب، والطحن والعجن، وبعد تصريحات ولقاءات وإنشاء كيانات للتوافق الوطني بين الأطياف المتباينة في مصر، ثم التصارع العلماني الإسلامي الذي بدأه الفريق العلماني من خلال إعلامه وصبيانه، ظهر لنا اختراع عجيب كان العبقري محمد البرادعي أول من نبه الأمة "الجاهلة" إليه، وهو صياغة وثيقة لمبادئ "فوق دستورية" تحكم الدستور المصري الجديد، وكان هذا الاختراع آية من آيات النباهة التي حطّت علينا بعد الثورة المصرية، بل بعد الاستفتاء الذي جعل كثيراً من العلمانيين في هامش الثورة المصرية وعلى الرصيف تقريبًا!
لقد كان الاستفتاء رسالة لكل من مصّ دم المصريين ولوثهم، ولكل من اقترب من السلطة الماضية يقتات على ما تبقى من موائدها العفنة، ينافق هذا، ويُقبّل يد ذاك، ويتمسح بمعالي هؤلاء، ويمسح أحذية أولئك، حتى إذا هبّ المصريون رأيت المنافقين يغيرون جلدهم باحثين عن كيان جديد يلبي لهم إدمانهم للمال والنفاق والسلطة والسرقة.
لقد علم كل ذي لب أن وثيقة المبادئ الدستورية التي تولى كبرها البرادعي ثم صاغها يحيى الجمل من خلال توافقاته الوطنية ثم لفظها الإسلاميون من خلال مواقفهم ومظاهراتهم وتصريحاتهم ثم أعاد إنتاجها من جديد علي السلمي نائب رئيس الوزراء الجديد وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد الليبرالي، علم كل ذي لب أن هذه الوثيقة ما هي إلا إلقاء لنتيجة الاستفتاء الماضي في أقرب صندوق من القمامة السياسية، غير معترفين بأن للمصريين – الذين يرونهم من الرعاع والجهال والفلاحين والفقراء – الحق في وضع الدستور الذي يحقق أهدافهم وطموحاتهم ويحدد هويتهم، والذي سيأتي أيضًا بالتوافق وليس بلي الذراع، واستخفاف الشعب كما يفعل العلمانيون والليبراليون الآن.
لقد أعلن السِّلمي أن وثيقة المبادئ فوق الدستورية ستُعرض على الأحزاب والائتلافات السياسية في الخامس عشر من الشهر الجاري ليتم التوافق عليها، وتكون من جملة المبادئ التي توضع في الدستور الجديد الذي ينشئ – بزعمه - دولة مدنية ديمقراطية!! وكأن الرجل نسي أو تجاهل أو أغمض عينيه وصم أذنيه عن جمعة الإسلاميين يوم 29 يوليو الماضي التي خرجوا فيها بالملايين في كل المحافظات رافضين لهذه الوثيقة التي تحط من قدرهم وقدر المصريين، وكأن من له الحق الحصري في الحديث السياسي والتنفيذي لابد أن يكون من العلمانيين العباقرة.
بل زادت المشكلة انتكاسًا عندما أعلن المجلس العسكري صراحة عن طلبه لوثيقة الأزهر من أجل ضمها لبقية الوثائق التي سيلخص منها المبادئ الحاكمة للدستور الجديد، في رسالة واضحة لكل الإسلاميين أن العسكريين يؤيدون السّلمي في مسعاه بل قد يكون السّلمي هو التابع لهم، غير آبهين لحجم الإسلاميين في الشارع، وهذا خطر كبير على الثورة وعلى العلاقة التي اكتسبها المجلس خاصة مع الإسلاميين ومؤيديهم!
***
لننحي الحديث عن وثيقة المبادئ الدستورية قليلاً.. ثمة أحداث أخرى تثير خوفًا وصدمة على التحول الديمقراطي الحقيقي في مصر، منها تغيير بعض المحافظين بمجموعة من اللواءات والعساكر والمقربين من دوائر السلطة في النظام السابق، ثم تغيير مجموعة من الوزراء والإبقاء على بعض من كان محسوبا على النظام السابق، وهي تغييرات تقليدية لا ترقى لما كنا نرجوه من ضرورة إشراك الشعب في هذه التغييرات، ثم إن هذه التغييرات أصلا لم تكن لتحدث لولا خروج الملايين في الأسبوع الأول من شهر يوليو، ثم إننا في محاكمة مبارك نرى تعنتا في إشراك محامين كبار يدافعون عن حق الشهداء، فضلاً عن عدم استدعاء أهالي الشهداء وإدخالهم لقاعة المحاكمة ليقفوا في حر الهجير وهم صيام، ثم نُفاجأ منذ أشهر بالحديث عن دعم السفارة الأمريكية والاتحاد الأوربي لكيانات وائتلافات سياسية وهو تدخل سافر في شئون دولة المفروض أنها مستقلة، واستقطاب لقوى ضد أخرى والدولة المصرية عاجزة أو متجاهلة لهذه الفضيحة السياسية، ثم نقرأ أن السيد وزير التعليم العالي الجديد يقرر بكل وضوح أن تغيير القيادات الجامعية لن يتم إلا بالقانون وكأن من عينهم أمن الدولة والحزب الوطني قد جاءوا إلى هذه المناصب بالقانون، وكأن وزير التعليم العالي السابق الذي قرر بالفعل التخلي عن القيادات الجامعية المرفوضة من قبل الأستاذة والطلاب أفضل من الحالي لنعلم من خلال مواقف بسيطة حقيقة تغيير الوزراء! وفي السياسة الخارجية نجد وزارة خارجية الثورة لا تتحدث عما يحدث لثوار سوريا إلا بعد خراب مالطا أو بالأحرى بالتزامن مع سحب المملكة السعودية وبعض دول الخليج الأخرى لسفرائها، وتحذيرات الولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوربي العلنية والواضحة للنظام السوري ليظهر الدور المصري وكأنه لا يزال على تلك التبعية القديمة..وغير ذلك من دلائل واضحة تعضد ما سقناه سابقًا للأداء الحكومي الحالي الذي يشير إلى الاتجاه التي تسير فيه ثورتنا العظيمة!
هذا فضلاً عن محاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية في حين يحاكم المفسدون ورجال النظام البائد أمام قاضيهم الطبيعي وهذا ما لا يرضاه كل المصريين بأطيافهم وأحزابهم المتفاوتة..
هذه المؤشرات والعلامات إذا ما قربناها ووضعناها في حزمة واحدة تتضح لنا صورة تحتم علينا أن نطالب المجلس العسكري بجدول زمني واضح وسريع لنقل السلطة إلى المدنيين، يلتزم فيه بما أقرّه الإعلان الدستوري يوم 19 مارس، وكل هذا يُحتّم على الإسلاميين أن يتقاربوا ولا يتناحروا ويكوِّنوا ائتلافًا موحدًا يجمعهم على سياسة واحدة قوية في مواجهة مخطط واضح لا لبث فيه ولا غشاوة يريد أن يسرق الثورة علانية لصالح الفريق العلماني الذي يملك اللوبي الإعلامي والاقتصادي والسياسي، والذي يبتزُّ المجلس العسكري طوعًا أو كرهًا على السير خلفه وليس أدلُّ على ذلك من وثيقة المبادئ الدستورية التي لا يزالون يتحدثون عنها متجاهلين لأربعة ملايين متظاهر ملئوا ميدان التحرير عن آخره، فضلاً عن الملايين التي تقف من خلفهم!!
نشر في شبكة رصد وجريدة المصريون ومفكرة الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق