الأحد، 26 فبراير 2012

التكافل والإغاثة في الخلافة العباسية

اهتمت الدولة العباسية ببناء كيانها الداخلي، فأَوْلَى الخلفاء العباسيون أعمال التكافل والإغاثة اهتمامًا كبيرًا، ورغم الأحداث السياسية الخطيرة التي شهدت بداية هذه الدولة ونهايتها إلا أننا نستطيع بقراءة متأنية لتاريخ الخلافة العباسية أن نرى هذا الجانب واضحًا في حياة الكثير من الخلفاء العباسيين، وسنطرح هنا بعض الأمثلة من خلال ما يلي

لقد عُرف عن الخليفة أبي جعفر المنصور (ت158هـ) حرصه على أحوال الرعية، والاهتمام بأمورهم، حرصًا منه على تيسير أمر كل معسر، والسعي على مصالح الفقراء والمحتاجين، فكان كُتَّاب البريد في عهد الخليفة المنصور يكتبون له كل يوم من أيام خلافته أسعارَ المواد التموينية التي يعيش عليها الناس، وكان ينظر في هذه الكتب، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإذا تغير شيء عن حاله رد عليهم الكتاب، وسأل علَّة ارتفاع الأسعار[1] كي لا يؤثر ذلك على كفاية الفقراء والمحتاجين.
وفي هذا التصرف ملمحٌ من ملامح التكافل الاجتماعي مع الرعية؛ لاهتمام الخليفة بأمور المجتمع البسيطة المؤثرة في حياتهم، وحرصه الدائم على التقليل من معاناتهم.
واتصف الخليفة المهدي (ت169هـ) بالجود والكرم وكثرة العطاء للناس، وكان قد بدأ خلافته بأن استخرج الحواصل التي كان أبوه[2] قد ادَّخرها من الذهب والفضة، وكانت من الكثرة بمكان، بحيث لا تحدّ ولا تُوصف، وفرقها في الفقراء والمحتاجين من الناس، ولم يعطِ أهله ولا مواليه منها شيئًا، وكان أبوه قد أوصاه بذلك، وقرر لأهله ومواليه أرزاقًا بحسب كفايتهم من بيت المال[3].
وكان للمهدي اهتمام خاص بأهل مكة، وذلك نظرًا لوجود البيت الحرام، وكذلك أهل المدينة، لا سيما الفقراء والمحتاجين منهم، فكان يزيد في أَعطياتهم ويطعمهم ويكسوهم. وذكر الطبري أن المهدي قسَّم في أهل مكة في إحدى السنوات مالاً عظيمًا، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنه نظر فيما قُسِّم في سُفرة واحدة، فوجد ثلاثين ألف ألف درهم حُملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار فقَسَّم ذلك كله، وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب[4].
كما أمر المهدي أيضًا أن يُجرى على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق، فيتم الإنفاق على خدمتهم، والقيام على أمرهم[5].
وقد شيَّد هارون الرشيد (ت 193هـ) مستشفًى كبيرًا أطلق عليه بيمارستان الرشيد[6]، وكان يقبل في هذا البيمارستان كل مريض يحتاج للمعالجة، بغض النظر عن لونه أو دينه أو مقامه، ذكرًا كان أم أنثى، ويعالج المريض مجانًا طيلة كونه في المستشفى، وعند مغادرته بعد شفائه يُعطى بدلة من الثياب ومبلغًا من النقود يكفيه العوز إلى أن يصبح قادرًا على العمل، والذي يموت في البيمارستان يجهز ويدفن على حساب البيمارستان، وتسد مصاريف المستشفى كلها من الأوقاف الخاصة بها؛ لأن إيراد هذه الأوقاف كثيرة وكافية للقيام بحاجات المستشفى جميعها[7].
وكان الرشيد يتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم سوى العطايا التي كانت تهطل على الناس منه، ولم يُرَ خليفة قبله كان أَعْطَى منه للمال[8].
كما انتشرت في عهد الرشيد مكاتب السبيل، وهي عبارة عن مدارس داخلية للأيتام وأولاد الفقراء، وأقدم مكتب سبيل يذكره المؤرخون هو الذي أسسه يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد الأول ببغداد في القرن الثاني الهجري[9].
وتُعد السيدة زبيدة بنت جعفر (ت 216هـ) زوج الرشيد من فضليات النساء وشهيراتهن، وإليها تنسب (عين زبيدة) في مكة جلبت إليها الماء من أقصى وادي نعمان شرقي مكة، وأقامت له الأقنية حتى أبلغته مكة، فقد أسالت الماء عشرة أميال تخط الجبال وتجوب الصخر حتى غلغلته في الحل إلى الحرم، وهي التي سقت أهل مكة بعد أن كانت الرَّاوِية عندهم بدينار[10].
كما كان لها - أيضًا - بِرٌّ وصدقات وآثار حميدة في طريق الحج، حيث أنفقت في حجها بضعًا وخمسين ألف ألف درهم[11].
وقامت كذلك بتمهيد طريق الحج، وعن هذا الطريق يقول ابن جبير: "وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق، والله كفيل بمجازاتها، والرضا عنها"[12].
من صور الاستغاثة البارزة في عهد الخلفاء العباسيين، تلك الاستغاثة الشهيرة، التي نادت فيها امرأة بالخليفة "المعتصم" رحمه الله فَلَبَّى نداءَها على الفور، وكانت سببًا في فتح مدينة عَمُّوريَّة، فقد ذكر ابن الأثير في "الكامل" أن المعتصم بلغه أنَّ امرأة مسلمة صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم "وامعتصماه"، فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك، لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير! وأشهد القضاة والشهود على ما وقف من الضياع، وغزا "عمورية"[13]، وذلك في جمادى الآخرة سنة 223 هـ.
وفي هذا الحادث الثابت صورة فريدة من صور الغوث والإعانة، إذ لم يكن الغوث لقبيلة أو دولة، وإنما ردٌّ لاستغاثة امرأة مسلمة، طلبت غوث خليفة المسلمين آنذاك، وهو ما يعكس أيضًا قوة الدولة الإسلامية يومئذٍ، إذ كانت قادرة وحريصة على إغاثة كل مكروب، وفك مصيبة كل مصاب فورًا.
وقد أولى المعتضد (ت289هـ) اهتمامه بطبقة الزراع بشكل خاص، وقدم لهم مساعدات عديدة لزراعتهم، كما كان يؤجل أخذ الضرائب منهم حتى بعد شهر إنتاج المحاصيل حتى يساعدهم[14]، وبذلك تحسنت أحوال المزارعين في عهده تحسنًا ملحوظًا.
ولم يكن لامرأة بعد زبيدة زوج هارون الرشيد من الخير ما كان لـ "شَغَب" أم المقتدر بالله العباسي (ت 321 هـ) فإنها كانت مواظبة على صلاح حال الحاج وإنفاذ خزانة الطب والأشربة إلى الحرمين، وإصلاح الطرق والحياض والآبار، وكان يرتفع إليها من ضياعها الخاصة ألف ألف دينار في كل سنة، وتتصدق بأكثرها، ووقفت وقوفًا كثيرة على مكة والمدينة[15]. ومن آثارها أيضًا بيمارستان أنشأته ببغداد، كان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار[16].
لقد غدا الإنفاق على الضعفاء والمحتاجين، وإغاثة المكروبين – ميسمًا عامّا في الخلافة العباسية، فلم يقتصر على عهود القوة فحسب، بل إننا نراه واضحًا في عهود ضعف الخلفاء العباسيين أيضًا، فلا يتأخرون عن إعانة المحتاجين، وغوث الملهوفين، وإطعام الجائعين، وتطبيب المرضى..
فمن أعجب وأغرب ما رآه ابن جبير الأندلسي في رحلته التي قام بها في سنة (580هـ/1184م) تقريبًا زمن الخليفة الناصر بالله العباسي أنه كانت توجد في بغداد - عاصمة الخلافة العباسية - حيًّا كاملاً من أحيائها يشبه المدينَة الصغيرة، يتوسَّطه قصر فخم جميل، تحيط به الحدائق والبيوت المتعدِّدَة، وكان كل ذلك وَقْفًا على المرضى، وكان يَؤُمُّه الأطباء من مختَلَفِ التخصصات، فضلاً عن الصيادلة وطلبة الطب، وكانت النفقة جارية عليهم من الدولة ومن الأوقاف التي يجعلها الأغنياء من الأُمَّة لعلاج الفقراء وغيرهم[17].
وقد عمل الخليفة المستنصر بالله (623 – 640 هـ) على بناء المدارس والمستشفيات لإعانة الفقراء والمرضى والعجزة، فلقد بُنِيَتْ المدرسة المستنصرية في سنة (631هـ/ 1233م)، وكان التتار في ذلك الوقت يجتاحون شرق العالم الإسلامي، ويهدِّدُون الخلافة العباسية تهديدًا مباشرًا، وقد وصلت الخلافة العباسية إلى أضعف درجاتها، ومع ذلك تمَّ إنشاء هذه المدرسة الخالدة، وقد علّق ابن كثير رحمه الله على هذه المدرسة بقوله: "ولم يُبنَ مدرسةٌ قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيهًا، وأربعة معيدين، ومدرِّس لكل مذهب وشيخ حديث وقارئان، وعشرة مستمعين، وشيخ طبٍّ، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطبِّ، ومكتب للأيتام، وقدّرَ للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد، ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها، وحضر الخليفة المستنصر بالله -بنفسه الكريمة- وأهلُ دَوْلَتِه من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يَتَخَلَّف أحد من هؤلاء، وعُمِلَ سماط عظيم بها؛ أَكَلَ منه الحاضرون، وحُمِلَ منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواصِّ والعوامِّ، وخُلِعَ على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين، وكان يومًا مشهودًا، وأَنْشَدَتِ الشعراءُ الخليفةَ المدائح الرائقة والقصائد الفائقة، وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مُطَوَّلاً مبسوطًا شافيًا كافيًا، وقدّرَ لتدريس الشافعية بها الإمام محيي الدين أبو عبد الله بن فضلان، وللحنفية الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني، وللحنابلة الإمام العالم محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، ودَرَّس عنه يومئذٍ ابنه عبد الرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك، ودَرَّس للمالكية يومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضًا، حتى يُعَيَّنَ شيخٌ غيره، ووُقِفَتْ خزائن كتب لم يُسْمَعْ بمثلها في كثرتها وحُسْنِ نسخها، وجودة الكتب الموقوفة بها"[18].
 وقد كان كذلك كثير الصدقات والبر والصلات، محسنًا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، وكان يبني الربط والخانات[19] والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء[20].
وأما ابنه الخليفة المستعصم بالله (640 ـ 656 هـ) آخر خلفاء بني العباس في بغداد، فقد اقتدى بأبيه المستنصر بالله في العدل وكثرة الصدقات[21].
وهذه نماذج سريعة توضح المقصد من المقال، وطبيعة التكافل والجانب الإغاثي في هذه الدولة، وسنكمل حديثنا عن هذه السلسلة "التكافل والإغاثة في الحضارة الإسلامية" في بقية المقالات القادمة إن شاء الله تعالى.



[1] الخضري بك: الدولة العباسية 2/82.
[2] هو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي (136 – 158هـ).
[3] محمد السيد الوكيل: العصر الذهبي للدولة العباسية ص130.
[4] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 6/366.
[5] السابق: 6/373.
[6] علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب ص83.
[7] أحمد عيسى بك: تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص30، 86، 151 بتصرف، محمود الحاج: الطب عند العرب والمسلمين ص315.
[8] محمد الخضري: الدولة العباسية ص131.
[9] محمود الحاج: الطب عند العرب والمسلمين ص322.
[10] الصفدي: الوافي بالوفيات 4/472.
[11] المرجع السابق: الصفحة نفسها.
[12] ابن جبير: رحلته 1/77، والزركلي: الأعلام 3/42.
[13] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/197.
[14] يوسف العش: تاريخ عصر الخلافة العباسية ص167.
[15] الصفدي: الوافي بالوفيات 5/208.
[16] محمد حسين الأعلمي: تراجم أعلام النساء ص235.
[17] مصطفى السباعي من روائع حضارتنا ص101.
[18] ابن كثير: البداية والنهاية 13/139، 140.
[19] هي المساكن التي ينزلها الغرباء من طلاب العلم والتجار والمسافرين، حيث يجدون فيها المطاعم وأماكن النوم والاستراحات.
[20] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 6/324، 325 بتصرف.
[21] السابق 6/327.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق