حديث التاريخ يا صديقي
لا يمكن أن يكون مجرد أقصوصة تلوكها الألسن، وتزدان بها المجالس، وتطرب لها
الأسماع؛ لأن هذا الحديث في ظل النسق الإسلامي لابد له من فلسفة تُستقى، وعبرة
يحسّن من خلالها المتلقي سلوكه، وعمق تسترشد به الشعوب في مسيرتها وسياستها،
وقديما قال أحمد بن طولون ذلك الأمير الداهية: تعلموا التاريخ فإنه يزيد إلى عمركم
أعمارًا!!
وفي مصر إذ السطحية
مسيطرة على الجهاز التنفيذي وعلى الخطط الإستراتيجية للدولة في السياسة الداخلية
والخارجية على السواء فمن الطبيعي أن يكون التاريخ أحد الأمور المنسية أو لا
يُستخرج إلا إذا كان يمجد الطاغية ويزين أفعاله، كذلك المقرر الدراسي الذي يتعلمه
طلاب الابتدائي حتى الآن الذي يمجد أفعال المخلوع الطاغية المستبد وينسى أو يتناسى
جبال المصائب التي حطت على بلادنا وعقولنا بسبب الغباء والظلم اللذين إذا اجتمعا
في قائد كان معوانًا عظيمًا للعدو على سقوط الدولة والإنسان والمجتمع!!
وسوريا يا صديقي ليست
مجرد بلد نشترك معها في اللغة والدين والجغرافيا بل هي بلد تمتزج في مصر امتزاجًا
سحريًا ظل التاريخ يتحدث عنه قبل العصور الإسلامية وبعده؛ للدرجة التي فهم معها
عبد الناصر أن اتحاد مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة يمكن بكل سهولة من
خلاله أن يسقط أي مشروع مناوئ أو يحجمه على الأقل؛ لكن السياسة المصرية الفاشلة
وقتها والكبر الذي لاقاه السوريون من العسكر المصري هناك سرعان ما سبب تنافرًا
أثلج قلوب اليهود، ثم جاء من بعده حافظ الأسد ليسرق هذا البلد مدة أربعين عامًا
ليسلمها لولده الطاغوت الصغير من بعده!
إن الموقع الاستراتيجي
لهذين البلدين اللذين يحصران بينهما فلسطين لهو أعظم غنيمة وغاية لأي مشروع غربي
معاد للاستقلال الشرقي والإسلامي عموما ولا عجب أن تأتي الحملات الصليبية منذ
القرن الخامس الهجري وحتى الآن لهذا المنطقة الساخنة نظرًا للأسباب الجيوسياسية المهمة
والمشروع الإمبريالي الغربي فضلا عن العلاقة الجدلية بإسرائيل؛ لأنه إذا اتحدت مصر
وسوريا تحت مظلة مشروع شعبي ينطلق من الحرية التي قامت الثورة المصرية والسورية من
أجلها كانت فلسطين بالتبعية في حضن هذا المشروع العملاق، وهذا الذي قام به نور
الدين الشهيد وصلاح الدين والمماليك من بعدهم قديما؛ لتظل مصر وسوريا أعظم بلاد
العالم وأقواها مدة ثلاثة قرون متوالية أسقطوا فيها المشروع الصليبي القديم
والمغولي بفضل هذا الاتحاد العبقري.
وبسبب التبعية للغربي
التي كانت ولا تزال تتبناها الأجهزة المفصلية في الدولة المصرية منذ الاحتلال
الانجليزي؛ وبسبب تغير وانحطاط المفهوم الحضاري والقومي للمشروع المصري المشوّه والذي
غاب وذاب أصلاً ولم يعد له وجود حتى في ظل التيار الإسلامي الذي يعلن صراحة قبوله
الانخراط في اللعبة العالمية والعولمة ومفاهيم السياسة والاقتصاد التي وضعها العم
سام وأذنابه فإن العلاقة بين "النظام المصري" وسوريا ستظل علاقة تحددها إستراتيجية
"سايكس - بيكو" فهم في وجهة نظر "الدولة المصرية" شعب ما يعيش
في دولة لها حدود ما عندهم مشاكل داخلية وكل العلاقة بينهم وبيننا علاقة الجار
البعيد والمصالح السياسية المجردة التي تتجاهل التاريخ والجغرافيا والدين
والمشتركات العقدية والثقافية والأخلاقية بيننا، وتضع في أولوياتها ماذا ينصحنا
الغربي الذي نتبعه بخصوص ردة الفعل التي يجب أن نقوم بها لهم، ثم مصالحنا السياسية
المجردة التي تقوم على مشروع إدراكي منكفئ على الشخصنة وفاشل بكل المقاييس؛ وقد
صدق مالك بني نبي إذ قال: إذا غابت الفكرة بزغ الصنم. فكذلك الدولة: إذا غاب
مشروعها المستقل المنبثق من أبنائها بزغت التبعية للآخر/الصنم وهو عدو لا يبغي إلا
أن نكون في ذيله؛ ولذلك لا نستغرب إذا سمحت مصر بعبور سفينتين حربيتين إيرانيتين
لتدعم الإجرام الحاصل الآن في سوريا، تسمح لهم بعبور قناة السويس التي مات في
حفرها أكثر من مائة ألف مصري سخرّهم الغربي لخدمته، ولا يزال يسخرنا لألاعيبه
السياسية؛ فلا نستغرب إذن لهذه الرؤية السياسية المجردة "للدولة
المصرية" المنكوبة!
أين الثورة المصرية
إذن فيما يحدث في سوريا؟!
إذا كانت هذه الصورة
الكئيبة أمامنا بفعل من "الدولة المصرية" ومن انخرطوا فيها، وتلوثوا
"بلوائحها التغريبية الوضعية" ولا يقدرون إلا على الإصلاح "البطيء"
الذي يعارض فلسفة الثورة بل يجهضها ويعمل على المصادقة الظريفة مع النظام القديم؛
فإن للثورة منطق وغاية أخرى؛ أولها وأصعبها التحرر من الاستبداد الداخلي الذي يحول
بيننا وبين أنفسنا فضلاً عن أبناء أمتنا، وهو التحدي الذي يفهمه المصريون بذكاء
شديد ويقولون فيه على سبيل التندر: ما هذه الانتخابات الرئاسية التي يريد الترشح
لها نائب الرئيس المخلوع ورئيس وزرائه الأخير ووزير خارجيته وأحد أبرز سفرائه وأحد
أصدقائه ثم يُشرف عليها وزير دفاعه؟! وهذا لا يقلل أو يطعن في نزاهة الانتخابات
التي لم يعلنوا عن موعدها حتى الآن وإن أعلنوا عن موعد تقديم طلبات الترشح، وإنما
المثل رمزي يهدف إلى أن الثورة لا تزال أمامها عقبات وعقبات وأخطرها ذلك الرئيس
التوافقي الذي هدفه الأساسي عدم معاداة أحد بما في ذلك النظام القديم مثل عبد ربه
منصور الهادي الذي ظل ملازما ونائبًا للمجرم علي عبد الله صالح لمدة 18 عامًا
كاملة في اليمن، والآن يتوافقون عليه، فأي توافق هذا الذي يرسخ المنظومة الفاسدة
القديمة/ الجديدة ويُحسّن من أداء المعارضة الشعبية لترتقي وتشارك في الحكم بصورة
تبدو لمن يتأملها مخجلة لأقصى حد ثم يجهض الثورة ودماء الشهداء ويصورها كأنها مسرحية
تمخضت في نهاية المطاف عن فأر أجرب!!
وبرغم هذا التحدي لم
ينس الثوار المصريون سوريا وما يحدث فيها يوميًا من إجرام يذكرنا بأفعال التتار؛
فذهبوا بالأمس القريب وحاصروا السفارة السورية بأعداد كبيرة جعلت كثيرًا من
اللاجئين السورين في مصر يذرفون الدموع ويشعرون أن ثوار مصر معهم أخيرا، وقد تمخضت
هذه المحاصرة عن طرد سفير سوريا والإتيان بسفيرنا هناك، وهي خطوة أولية على طريق
دعم أولئك المقتولين، وإن كان المطلوب أن يعلن مجلس الشعب "الإسلامي" عن
خطة واضحة المعالم لا نسمع فيها ذلك الشجب والإدانة والغضب اللفظي الذي سرعان ما
تستقبله القمامة ليحرق في جو القاهرة الملوث!!
إن المطلوب من
"الدولة المصرية" ومجلس الشعب "الإسلامي" أن يدعما بكل وضوح
الجيش السوري الحر، وأن يسعوا بكل كد إلى إزالة ذلك النظام الطاغوتي هناك، وإن
المطلوب من الثائرين المصريين ألا يغفلوا عن الضغط وإحراج علية القوم في مصر حتى
تتحرر سوريا من ربقة الطاغوتية الأسدية التي تؤيدها طاغوتية نظام الملالي في إيران
وصبيهم الكذوب نصر الله في لبنان فضلا عن النظامين الروسي والصيني اللذين يصلح
معهما الآن الاحتجاج أمام سفارتيهما في القاهرة بصورة مطردة.
اللهم انصر سوريا وأنزل
عليها من رحماتك وبركاتك ما يصبر الثكلى ويدخل اليقين والراحة والقوة على صدور
المظلومين المقتولين المدافعين عن أنفسهم وأعراضهم وبلادهم وأنزل اللهم سخطك وغضبك
ورعبك في قلب بشار ومن يعاونه يا مذل الظالمين.. آمين آمين.
نُشر في موقع قصة الإسلام ورابطة النهضة والإصلاح وشبكة رصد الإخبارية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق