الاثنين، 9 أبريل 2012

فتح مصر: قراءة نقدية جديدة

المشهور عند رجال التاريخ أن فتح مصر تم في عام 20 أو 21هـ وأن بداية هذا الفتح كان بعد عام 18هـ أو في أثنائه؛ لكن فتح بيت المقدس الذي انطلق عمرو بن العاص رضي الله عنه بعده إلى الشرق فاتحًا مصر كان في عام 16هـ في أرجح روايات الطبري وسيف بن عمر وغيرهما من رواة الشام، وذلك يستبعد أن يكون فتح مصر في عام 20هـ؛ لطول الفترة الزمنية كما نرى، فضلا عن ضعف الحاميات البيزنطية في مصر والتي من المستبعد أن تكون قد قاومت الفتح الإسلامي كل هذه السنوات الأربع، هذا بالإضافة إلى ترحيب قبط مصر بهذا الفتح الذي جاء مخلصًا لهم من اضطهاد الرومان.
بل من اللافت أننا نجد رواية صحيحة في عام الرمادة وكانت سنة 18هـ يطلب فيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من واليه على مصر عمرو بن العاص أن يرسل إليه مددًا لإغاثة أهل الجزيرة العربية من القحط الذي حل بهم، فكانت إستراتيجية عمرو رضي الله بحفر قناة سميت فيما بعد بخليج أمير المؤمنين من النيل إلى بحر القلزم (أي البحر الأحمر) لتسهل حركة السفن إلى المدينة وهذا ما تم، قال ابن عبد الحكم (ت 257هـ): "احتفر الخليج الذي في حاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين فساقه من النيل إلى القلزم فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة فنفع الله بذلك أهل الحرمين وسمي خليج أمير المؤمنين"[1]. ورواية ابن عبد الحكم هذه تعضدها روايات عند الطبري وابن عساكر وابن الأثير.
والشاهد من ذكر هذه الروايات أنها تثبت أن عمرو بن العاص كان مستقرًا في مصر بالفعل وكانت الفسطاط قد فتحت قبل هذا التاريخ بمدة طويلة تسمح له بإرسال المدد إلى أهل المدينة ومكة المتضررين من القحط.
غير أنه من المهم أن ندخل في تفاصيل الدراسة النقدية بين الروايات لنؤكد على أن فتح مصر لم يكن بعد عام 18هـ بأي حال من الأحوال، والرد على من رجحوا هذا الحكم باعتمادهم على منهج نقدي انتقائي لا سبيل من ورائه إلا الخطأ والخلط.
إنه ليس ثمة تعارضٌ بين فتح مصر وعام الرمادة؛ إذ المتتبع للروايات التاريخية الصحيحة يدرك أن الرواية التاريخية تؤكد على انسجام الأحداث وتواليها، وليس تضادها أو الحكم عليها بالوهن والتضعيف ومخالفة المشهور.
وفيما يتعلق بمخالفة المشهور، فليس هناك أدنى شك في أن وظيفة الباحث تكمن في تصحيح مسار الأحداث التاريخية المغلوطة والتي اشتهرت بين العامة والخاصة؛ خاصة مع وجود الدليل الذي يصحح مسار الحدث، ويقومه.
وفيما يتعلق بفتح مصر، لا يمكن الاعتماد على ابن كثير المتوفى عام 774هـ مع وجود روايات الطبري ت310هـ المأخوذة عن سيف بن عمر حجة روايات الفتوح الإسلامية الأولى، ولا يجوز غض الطرف عن فتوح مصر لابن عبد الحكم المتوفي عام 257هـ، ومن جاءوا من بعده من مؤرخي المدرسة المصرية كابن ظهيرة وابن زولاق وابن عبد الظاهر ومن المتأخرين كالمقريزي والسخاوي والسيوطي والكافيجي وغيرهم.
 نرجع إلى روايات سيف بن عمر، وهما روايتان ذكرهما الطبري في تاريخه وكلتا الروايتين صحيح سندًا ومتنًا: فأما الرواية الأولى فتقول: "وأما سيف فإنه ذكر فيما كتب به إلي السري يذكر أن شعيبًا حدثه عنه عن الربيع أبي سعيد وعن أبي عثمان وأبي حارثة قالوا أقام عمر بإيلياء بعد ما صالح أهلها ودخلها أياما فأمضى عمرو بن العاص إلى مصر وأمره عليها إن فتح الله عليه وبعث في أثره الزبير بن العوام مددا له".
 وأما الرواية الثانية : "السري عن شعيب عن سيف قال حدثنا أبو عثمان عن خالد وعبادة قالا خرج عمرو بن العاص إلى مصر بعدما رجع عمر إلى المدينة حتى انتهى إلى باب إليون وأتبعه الزبير فاجتمعا فلقيهم هنالك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيات بعثه المقوقس لمنع بلادهم ..."
إن هاتان الروايتان تؤكدان على خروج عمرو بن العاص t من القدس لفتح مصر بناء على موافقة أمير المؤمنين عمر t ، وتم هذا الأمر عقب فتح المسلمين لبيت المقدس عام 16هـ، هذا من ناحية المتن، ومن ناحية السند فقوية أيضًا حيث إن سلسلة السري عن شعيب عن سيف صحيحة شهيرة بين جمهور أهل الجرح والتعديل خاصة فيما يتعلق بالرواية التاريخية، وهناك دراسات فصّلت القول في اختلاف نظرة أهل الجرح والتعديل لراوي الحديث النبوي عن رواية الأخبار والتواريخ والمغازي والسير، فأهل الجرح والتعديل يشددون في قبول رواية الحديث الشريف خاصة في الأحاديث التشريعية، ولهم كل الحق في هذا الأمر، بيد أنهم لا يتشددون في قبول الرواية التاريخية خاصة إذا كانت ممن شهد الحدث، وكانت سلسلة السند صحيحة لا ريبة فيها.
وأما قول البعض: إن سيف بن عمر[2] لا يؤخذ منه عند التعارض، فهذا صحيح من جهة، وخطأ من أخرى، فلابد من التفريق بين روايات الفتوح عامة وروايات فتوح الشام ومنها فلسطين؛ إذ يقبل القول بعدم الأخذ من سيف عند التعارض شريطة وجود رواة ثقات كبار تتعارض رواياتهم مع سيف، لكن هذا القول لا يقبل هنا في ظل وجود روايتين قويتين سندًا ومتنًا، أخذتا من رجلين شاهدا الحدث واضطلعا عليه هما خالد بن معدان الكلاعي وهو ثقة من أهل حمص، والآخر عبادة بن نسي الكندي وهو ثقة أيضًا.
ويأتي ذلك التساؤل المهم جدًا، وهو كيف استعان عمر بن الخطاب t بعمرو بن العاص (أمير مصر) وطلب منه الغوث والمدد؛ نتيجة المجاعة العامة التي حدثت للمسلمين في الجزيرة العربية في عام الرمادة 18هـ؟  والروايات المتعلقة بهذه الحادثة صحيحة لا لبس فيها سواء في تحديد عام الرمادة بعام 18هـ، وكذلك باستغاثة عمر t بعمرو وهو بمصر مستقر بها، وهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا وهو أن فتح مصر حدث قبل عام الرمادة بعام أو عامين على الأقل، مما يرجح روايتي سيف بن عمر اللتان تؤكدان على أن الفتح بدأ عقب فتح بيت المقدس عام 16هـ.
وقد يعترض البعض على ذلك بقوله: إن فتح مصر إذن استغرق أربع سنوات كاملة من عام 16 إلى 20 هـ وهي مدة زمنية طويلة نسبيًا، خاصة في ظل ضعف مقاومة الحاميات البيزنطية في مصر، ويرد على هذا الإشكال بأحد أمرين:
أولاً: وجود رواية لأبي معشر – أظن ضعفها- تقول بطول الفتح من عام 20 إلى 25 هـ، وبالطبع نستبعد هذه الرواية لأنها لا تتوافق مع ما نظنه من أن فتح مصر كان من عام 16 أو 18 إلى عام 20 أو 21 هـ، ولكن الشاهد فيها: إشارته إلى طول فتح المسلمين لمصر والذي استمر 5 سنوات؛ ومن ثم إمكانية طول الفتح الذي استمر من عام 16 إلى 20هـ.
ثانيًا: قد نتفق مع ما ذهب إليه الأستاذ أحمد عادل كمال في كتابه "الفتح الإسلامي لمصر" من أن اجتماع عمرو بعمر رضي الله عنهما كان في الزيارة الأخيرة التي قام بها عمر إلى الجابية عام 18هـ (عام طاعون عمواس والرمادة)، أي أن سيف توهم أنهما اجتمعا عقب فتح بيت المقدس عام 16هـ- مع صحة الرواية سندًا ومتنًا - ومن ثم فتح مصر (المنطقة الشرقية منها والفسطاط) في ذات العام، ومن ثم إمكانية إرسال المعونات والمساعدات العاجلة، بالطبع قد نقبل ذلك ولكن لا نقبل أن فتح مصر قد تأخر لعام 20هـ، ونقصد بالفتح بداية التحرك من القدس إلى مصر، مع ملاحظة أن الأستاذ أحمد عادل كمال لم يشر إلى استغاثة عمر t بعمرو t في عام الرمادة، ولا أظن ذلك إلا سهوًا منه؛ إذ لو تنبه لهذا الأمر الصحيح لأيقن أن الفتح تم ما بين 16 إلى 20 هـ.
وأمر أخير: لا يمكنُ الجزم بأن عاصمة مصر كانت الإسكندرية في ذلك الوقت؛ إذ لم يكن الفتح قد اكتمل بعد، وأن القوات الإسلامية كانت مسيطرة في حقيقة الأمر على كافة الأراضي المصرية تقريبا عدا الإسكندرية المتحصنة قويا، ولذلك فالقول بأن رواية استغاثة عمر بعمرو فيها وهمٌ، وأن هذا الوهم يحل كل الإشكالات بسهولة. فهذا القول غير صحيح بالمرة في ظل وجود روايات صحيحة سندًا ومتنًا في أكثر من مصدر تاريخي، وعند أكثر من راوٍ ثقة، كما أنها تتفق مع روايتي سيف بن عمر الصحيحتين اللتين تخبران بأن فتح مصر تمَّ في عام 16هـ، أو بالأحرى قول عادل كمال عام 18هـ، وليس عام 20هـ كما هو المشهور والمتعارف.
وبعدُ، فهذا المقال يندرج في إطار فرع لابد من التوسع فيه هو فرع الدراسات التاريخية النقدية التي تهتم بدراسة الروايات والمقارنة بينها لاسيما في العصر النبوي والراشدي والفتوح الإسلامية بل وما يليه؛ لأن التاريخ الصحيح أو القريب من الصحة هو ما يجب أن يضعه الباحث عن الحقيقة نصب عينه؛ ولا يخفى علينا النتائج العظيمة المترتبة على هذا النوع من الدراسات الجادة، وإن انحصرت في تصحيح المفاهيم والأغاليط لكفت!


[1] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها ص179.
[2] هذه هي أقوال علماء أهل الجرح والتعديل في سيف بن عمر:
ولد سيف بن عمر الأسدي التميمي في الكوفة وإن لم يعلم على وجه الدقة مولده، انتقل إلى المدينة وتثقف بها، ثم رحل إلى بغداد فاشتهر فيها، وتوفي بها عام 200هـ، وقد ألف العديد من المصنفات التاريخية منها: كتاب الجمل، ومسير عائشة وعلي، وكتاب الفتوح الكبير والردة .
            واللافت للنظر، أنه على الرغم من أن الرجل من كبار الرواة، إلا أننا لا نملك إلا قليل مادة عنه وعن حياته؛ إذ لم يذكره ابن سعد في "الطبقات الكبرى"، ولا ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، ولا الكتبي في "فوات الوفيات"، ولا الخطيب في "تاريخ البغدادي"، كما لم يذكره البخاري في كتابه عن الضعفاء، ولا النسائي في "الضعفاء والمتروكين"، ولم يذكره ابن حجر في الضعفاء الذين ضمنهم كتابه "لسان الميزان"، لكنه ذكره في تقريب التهذيب .
            وروايات سيف تعتمد كثيرا على قبيلته تميم، ولهذا ظهرت فيها نظرتها القبلية، وميولها العراقية بشكل عام، كما يظهر فيها القصص الملحمي على أسلوب الأيام، وقد أخذ الطبري كثيرا عن سيف بن عمر، مما يعني أنه موثوق الجانب عند الطبري، ويرد اسم سيف في هذه الروايات لأول مرة في سنة 10 هـ، وهي السنة التي ادعى فيها مسيلمة النبوة في حياة الرسول، وينتهي النقل عنه لآخر مرة سنة 36هـ في ابتداء خروج علي بن أبي طالب t إلى صفين .
            وبنظرة فاحصة لتقييمات علماء الجرح والتعديل لابن عمر، نجد أن الغالبية العظمى أو يكاد يتفق علماء الجرح والتعديل على تضعيفه، فنجد أبو نعيم الأصفهاني لا ينقد رواياته وفقط، بل يرميه في دينه؛ إذ يقول: "سيف بن عمر الضبي الكوفي متهم في دينه، مرمي بالزندقة، ساقط الحديث" ، وقال الذهبي: " له تواليف متروك باتفاق" ، كما يذكره الإمام الدارقطني في كتابه "الضعفاء والمتروكين"، وقد ذكر ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" نقلا عن مقالة يحيى بن معين قوله :"سيف بن عمر الضبى الذي يحدث عنه المحاربي ضعيف الحديث" ، وقد أورد المزي في "تهذيب الكمال" أقوال طائفة من كبار رجال الحديث فيه، فقال: "قال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. وقال أبو احمد بن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. وقال أبو حاتم بن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. قال: وقالوا إنه كان يضع الحديث" .
            لكن عالما ثبتا كالحافظ ابن حجر يرى الرجل من منظور آخر، فهو يفرق بين كون سيف بن عمر راويا للحديث، عن كونه راويا للخبر التاريخي، بل ويعيب – وإن لم يصرح – على بعض علماء الجرح والتعديل بسبب مبالغتهم في نقد سيف بن عمر، فيذكر أنه: "ضعيف الحديث، عمدة في التاريخ، أفحش ابن حبان القول فيه" ، ولا ريب أن هذه النظرة من حافظ للحديث، عالم في التاريخ، متأخر، أتيح له النظر في معظم أقوال أهل الجرح والتعديل، كما أتيح له تتبع روايات سيف التاريخية، فأخرج حكما متوازنا، مفرقا فيه بين كون الرجل أحد نقلة الحديث، عن كونه مؤرخا ذا مكانة مرموقة، فهذه النظرة الثاقبة من ابن حجر لا يمكننا أن نتجاهلها بأي حال من الأحوال =
= إذن وضحت الصورة، وظهر لنا كيف أن عالما في الحديث كالإمام الطبري يأخذ عن سيف بن عمر في أكثر من ثلاثمائة موضع من كتابه "تاريخ الرسل والملوك" ، بل ويأخذ عنه محدث آخر هو الإمام ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"، وفي ذلك دلالة قوية، وبرهان واضح على مكانته التاريخية.

هناك تعليقان (2):

  1. الجديد أن هذا المقال يثبت أن فتح مصر كان سنة 16 ولم يكن سنة 20 .. رجاء مراسلتي على هذا الإيميل إن كان لك استفسار مفصل shaheen.daraamy@gmail.com

    ردحذف