قال بنجامين فرانكلين
أحد مؤسسي الولايات المتحدة عن الديمقراطية: هي أن يصوت ذئبان وحمل على صنف
الغداء!
لقد كان من المهم أن
نبدأ هذا المقال بتعريف فرانكلين الآنف لأنه يؤكد حقيقة الديمقراطية في العالم
الثالث على الأقل، لاسيما الشعوب العربية، تلك الشعوب التي ذاقت الذل عبر عقود
طويلة حتى تطاول عليها الأمد في ظل "الاستثناء" الذي تحول مع مرور
الأيام إلى الأصل والواقع الذي لا فكاك منه.
إذا كان حكام العالم
الثالث يمثلون أداة طيعة في يد الولايات المتحدة، فإن الهدف الأكبر لهؤلاء الساسة
في عالم منفك عن المبادئ والأخلاق والقيم بل والمشروع الوطني الحقيقي أن نبتعد عن
الغاية التي وجدنا من أجلها، وإن عشنا في الوطن العربي في ظل "إسلام
طقوسي" ردحًا من الزمن تم نسيان الحقيقة الكبرى التي تتمثل في أننا وجدنا
للاستخلاف، وأن الاستخلاف يستلزم أن يشعر الفرد بالكرامة والحرية، وأنه لا كرامة
ولا حرية في ظل الاستعباد وأسوأه استعباد من قبل نخبة من بني جلدتنا.
إذن كان من الضروري في
ظل تاريخ حديث مليء بالحوادث والأزمات والمصائب والانتكاسات وقليل من الأمل أن
تكون الديمقراطية "المستوردة" هي السيطرة على "الهامش"
والهامش هم "نحن"، وهذه السيطرة أعلاها القمع وأدناها التضليل.
وحينما يخرج
"الهامش" من نطاق سيطرة النخبة إلى محاولة صنع تاريخهم بأيديهم كما حدث
في الثورة المصرية تبدأ المواجهة الحقيقية والشاملة بين الأنظمة الفاسدة وبقاياها
وبين هذه الجماهير التي سرعان ما توقد لها السلطة الحاكمة نارًا من جديد؛ ذلك أن
"الهامش" لا يزال يفكر وينظر بمنطق "الفراشات الجميلة" التي لا
تملك من الخبرة ما تُفرّق به بين النار والنور!
لقد كان كتابًا ماتعًا
حقًا ذلك الذي كتبه الأكاديمي الأمريكي "هربرت أ شيللر" وعنوانه
"المتلاعبون بالعقول" متناولاً فيه إلى أي مدى يتم السيطرة وتضليل الرأي
العام من خلال أدوات الاتصال الحديثة وعلى رأسها الإعلام، قال: "إن تضليل
عقول البشر هو – على حد قول باولو فرير – أداة للقهر، فهو يمثّل إحدى الأدوات التي
تسعى النخبة من خلالها إلى "تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة"، فباستخدام
الأساطير التي تُفسّر وتُبرر الشروط السائدة للوجود، بل وتُضفي عليها أحيانًا
طابعًا خلابًا يضمن المضللون التأييد الشعبي لنظام اجتماعي لا يخدم في المدى
البعيد المصالح الحقيقية للأغلبية، وعندما يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير دوره بنجاح،
تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير اجتماعية بديلة. على أن تضليل الجماهير لا يمثّل
أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من أجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية، فالحكام لا
يلجأون إلى التضليل الإعلامي – كما يوضح فرير – إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور
كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية. أما قبل ذلك فلا وجود للتضليل، بل نجد
بالأحرى قمعًا شاملاً؛ إذ لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين، عندما يكونوا غارقين
لآذانهم في بؤس الواقع"!
وعندما قامت الثورة
المصرية كصفعة قوية للنظام الذي ظننا أنه "بائد" سرعان ما أدركت السلطة
أن إحدى الأدوات المهمة تتمثل في توجيه خطاب إعلامي مكثّف يعمل على تحقيق أمرين
أساسين: الأول: تكفير الناس بالثورة بصنع الأزمات وتسويقها إعلاميًا. والثاني:
العمل على نشر شرذمة القوى السياسية والشعبية التي قامت بالثورة وتصويرهم
بالمتناحرين المتقاتلين أصحاب المصالح الفئوية والحزبية الضيقة.
وكان عامل الوقت مهمًا
في تحقيق هذين الهدفين حتى أراد المجلس العسكري الحاكم أن يؤخر تسليم السلطة إلى
أواخر عام 2013م أي بعد ثلاثة أعوام كاملة من قيام الثورة؛ إلا أن أحداث محمد
محمود في شهر نوفمبر الماضي ساعدت على تقديم موعد الانتخابات الرئاسية إلى مايو من
هذا العام، وإن كنا نسمع بين الفينة والأخرى أقاويل هنا وهناك تُلمح إلى إمكانية
تأجيل الانتخابات الرئاسية في مصر لحجج واهية؛ ولاستكمال تحقيق الغاية الكبرى
لإجهاض ما تبقي من "ثورة مصرية"!
وبالنظر إلى كم
القنوات الفضائية والصحف اليومية التي تم ترخيصها بعد الثورة، وبالنظر إلى إعادة
إظهار وتلميع من شوّهوا الثورة وحاربوها فضلاً عن القنوات التي ظلت على مسارها
المعادي للثورة نجد أن ما نسبته 75% قنوات وصحف كبرى "تعادي الثورة"
معاداة لا لبس فيها، مقابل 15% قنوات وصحف تتخذ مبدأ الحياد إلى 10% أو أقل قنوات
وصحف تحاول خدمة أهداف الثورة على استحياء!
ولنا في صفقة أحد رجال
الأعمال المصريين والذين لا نعرف ولا يعرف الكثيرون تاريخه بوضوح المثل بإحداثه ضجة
كبيرة في الأوساط الإعلامية بسبب شرائه لـ16 قناة فضائية ووكالة أخبار وصحيفة
يومية بعد قيام الثورة بأشهر معدودات؛ وجل هذه القنوات التي استولى عليها الرجل أو
دخل في شراكات مع مؤسسيها تعادي السياسة العامة لأهداف الثورة، وهي من القنوات
التي يتابعها الملايين في مصر!
لقد صدق القائل إن العقل
يتأثر بكثرة نقده كما يتأثر الجسد بكثرة ضربه، فيستسلم، تُضرب العقول بسياط
الإعلام فإذا خضعت قالوا هذا اختياره وحريته وهذه الديمقراطية. وهذا القول الحكيم
يمكن أن نجعله القاعدة أو الإستراتيجية العامة التي يسعى لتحقيقها معظم الإعلام
المصري المقروء والمسموع والمرئي، ولذلك تصبح اللائمة على من قاموا بالثورة من
الوطنيين والإسلاميين كبيرة كبيرة؛ لأنهم لم يستوعبوا الدرس بل تناسوا سياط
الإعلام الموجه الذي شكل لعشرات السنين وعي المصريين وعدائهم لهذه الاتجاهات
والحركات الوطنية؛ فقد كان من الأولى لهم أن يسعوا لإنشاء مؤسسات إعلامية قوية
ومهنية لحماية الثورة وأهدافها ومن قاموا بها.
إن الإعلام – ولا شك –
أحد أبرز العوامل لإجهاض الثورة و"تعليب" الوعي الجمعي للمصريين لا سيما
النسبة الغالبة ممن لا ينتمون لأي اتجاهات سياسية؛ وإن المحاولات اليومية
"لتفسيخ" عرى المجتمع المصري و "شرذمة" هذه القوى التي قامت
بالثورة يعد انتكاسة لا شائبة فيها لمسار هذه الثورة، بل وصل الأمر إلى
"طحن" التيار الإسلامي ذاته، وتقسيمه إلى فصائل واتجاهات وكل هذا قد
يكون مفيدًا في ظل مجتمع ديمقراطي حر، لكن المصيبة أن هذا "التشظي" لا
يخدم إلا الغاية السيئة التي سُعي من أجل تحقيقها وهي إفشال الثورة.
قديما كان الهم الشاغل
للمفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي يتمثل في الإجابة عن كيفية تحقيق النهضة
المنشودة، ولا ريب أن هذا التساؤل ظهر منذ الصدمة الحضارية والثقافية التي واجهت
البلدان العربية منذ القرن الثامن عشر، وبعد حصيلة معرفية واجتماعية راقية خلفها
لنا هذا المفكر الكبير، يمكن أن نستخلص الدرس الذي يقول إن إعادة تشكيل العلائق
الاجتماعية بين الجماهير هي الركيزة الأولى لقيام هذه النهضة، ويمكن أن نستفيد بهذه
الفكرة العبقرية التي قامت على أساسها الثورات أصلا مشكلة وعيًا جديدًا، بل ومقدمة
لهذه الآلاف من الناس الوسيلة الرائعة في إعادة "تعريفهم" ببعضهم عن قرب
هذه المرة، وهذا ما شاهدته بعيني أثناء وجودنا في التحرير قبل خلع مبارك!
تعمل الأنظمة الفاسدة
على "تشظي" المجتمع بوسائل عدّة ليسهل لها التحكم والسيطرة والتوجيه من
خلال التضليل والقمع كما ذكرنا في بداية المقال، وإن الثورة المصرية لا تزال منذ
أربعة عشر شهرا من خلع مبارك وإلى اليوم في حالة من "الانبطاح" في ظل
السهام والمقذوفات الإعلامية والفكرية والسياسية والتي لا تنكسر إلا في ظل
"ميدان التحرير" وميادين مصر كلها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق