إن الإسلام صالحٌ لكل
زمان ومكان، وإن مرونة الإسلام ذاتية لا إضافية، ومن ثمّ فعندما نتحدث عن التجديد
فإننا نتحدث عن أصل هذا الدين وعن طبيعته وجوهره، و لا يجوز لأحد أن يفهم هذا
التجديد على أنه عملية" ترقيع" أو" تطوير" أو"إصلاح"
لهذا الدين، فالاعتقاد بصلاحية الإسلام ـ كما نزل ـ لكل زمان ومكان جزء من الاعتقاد بالإسلام أصلاً!
والإسلام تنزيل معصوم، كامل شامل سامق، قادر
وحده على الاستجابة لحل كل المشكلات المتجددة، والتعامل مع كل الظواهر المستحدثة،
فلا حاجة إلى إدخال عناصر غريبة عليه؛ بزعم تطويره وتحديثه؛ لأن إدخال هذه العناصر
يعني أنه ناقص أو غير كامل، وهذا غير صحيح؛ لأنه دين من قِبَل العزيز الحميد.
ولقد جرت العادة في
السنين الأخيرة لدى كبار المثقفين والأساتذة في بقاع العالم الإسلامي على الحديث
عن موضوع التجديد والتغيير في الإسلام، منها – على سبيل المثال – تجديد الخطاب
الديني، والحديث عن تجديد الدين الإسلامي وما علق به عبر القرون الطويلة السابقة
من عوالق جعلته – على حد تعبير المتنورين والعلمانيين وغيرهم – جامدًا، غير قادر
على الإيفاء بمتطلبات عصر التقدم التكنولوجي والمعرفي (المادي) الذي نعيشه.
غير أن هذا الحديث رغم
أهميته، لا يكاد أن يخلو من خلط في الحقائق، وتعمية في البصائر، ودعاوى هدّامة غير
ظاهرة للكثيرين، ولا نزعم أن الحديث عن التجديد والتغيير في الإسلام - سواء في
الفكر أو السلوك – حديث ينبغي السكوت عنه، أو تجاهله، أو الزعم بأن الإسلام دين لا
يقبل التجديد والتغيير؛ وذلك لأن رسولنا r قد قرر منذ أربعة عشر قرنًا أن "اللَّهَ
يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ
لَهَا دِينَهَا"[1].
ومن ثم، فإن الحديث
ينبغي أن يوضِّح حقيقة التجديد والمجددين، وصفاتهم وطرق هذا التغيير، وهل كان
التجديد من فرد أم من أمة، وحديث التاريخ المليء بأبرز الأمثلة الموضّحة لذلك.
معنى التجديد ومحاوره
ومعنى التجديد يوضّحه
ابن منظور في لسان العرب بقوله: "تجدَّد الشيءُ صار جديداً وأَجَدَّه
وجَدَّده واسْتَجَدَّه أَي صَيَّرَهُ جديداً"[2]
فالتجديد ـ إذاً ـ لا
يستلزم إقامة شيء جديد على أنقاض القديم، ولا يعني رفض القديم كله بحسب انطماس
صلاحه، وأنه صار سلباً غير نافع يجب إلغاؤه والإتيان بجديد مغاير منقطع عنه أصلاً
ووصفاً. ولذلك يعرف الدكتور يوسف القرضاوي التجديد لشيء ما بأنه محاولة العودة به
إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك بتقوية ما وهِيَ
منه، وترميم ما بلى، ورتق ما انفتق، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى[3].
لذلك فإن التجديد من
الناحية الشرعية لا يعدو أن يخالف التجديد بمعناه اللغوي إلا من جانب الإضافات
والصفات التي وضعها علماؤنا وفقهاؤنا، وهي على ثلاثة محاور، كما أوضحها الدكتور
عدنان أُمامة – وذلك في أطروحته للدكتوراه والتي بعنوان "التجديد في الفكر
الإسلامي" – ويمكن أن نجمل محاور التجديد في الفكر الإسلامي إلى:
1-
إحياء ما انطمس واندرس من معالم السنن ونشرها بين الناس، وحمل الناس على العمل بها، وهو ما يؤكده الإمام العلقمي بقوله:"معنى
التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُّنة والأمر بمقتضاهما"[4].
2-
قمع البدع والمحدثات، وتعرية
أهلها، وإعلان الحرب عليهم، وتنقية الإسلام مما علق عليه من أوضار الجاهلية، والعودة به إلى ما كان عليه زمن الرسول r وصحابته الكرام } ، وهو ما يعبّر عنه الإمام السيوطي ~ بقوله: "المراد بتجديد الدين: تجديد هدايته، وبيان حقيقته وأحقيته،
ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلوّ فيه، أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح
الخلق، وسنن الاجتماع والعمران في شريعته"[5].
ويقرر فضيلة الشيخ أبو الأعلى المودودي ~ ذلك الأمر بقوله: "التجديد في حقيقته: هو تنقية الإسلام من كل جزء من
أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصًا محضًا على قدر الإمكان"[6].
3-
تنزيل الأحكام الشرعية على ما يجدّ من وقائع وأحداث، ومعالجتها معالجة نابعة من هدي الوحي، وهذا المحور يجليه المفكر الإسلامي
عمر عُبيد حسنة بقوله: "ليس المراد بالاجتهاد والتجديد الإلغاء والتبديل
وتجاوز النص، وإنما المراد: هو الفهم الجديد القويم للنصِّ، فهمًا يهدي المسلم
لمعالجة مشكلاته وقضايا واقعه في كل عصر يعيشه، معالجة نابعة من هدي الوحي"[7].
ما الفرق بين التجديد والتطوير؟!
إذا كانت هذه محاور
التجديد، فإن ثمة قضية شائكة تتعارض مع ما تمّ ذكره من محاور، وهي الخلط بين
مفهومي التجديد والتطوير، فالتجديد كما أسلفنا أمر مطلوب ومرجو، وقد بشّر النبي r بهذا الأمر؛ إذ قال: "إِنَّ
اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ
يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا"[8]،
أما تطوير الدين فيعني تغييره، والبحث عن بديل له من أفكار
وأيديولوجيات وما ينتج عنها من سلوكيات ومعاملات تتعارض كل المعارضة مع أصول الدين
الإسلامي وفروعه، مثل الاعتماد على الفكر العلماني أو الليبرالي أو الاشتراكي أو
الشيوعي أو غيرها مما ثبت اختلافه وتباينه مع الإسلام كمنهج شامل متكامل للحياة.
وقد لجأ الكثيرون من
المسلمين للأسف الشديد إلى هذه الأفكار البعيدة عنا؛ إما جهلاً منهم أو اتباعًا
أعمى لغيرهم، أو ضيقهم بما يرونه من سلوكيات خارجة وخطيرة من المسلمين، فتذرَّعوا
بأن السبب في ذلك كله يرجع إلى الإسلام، ونسوا أو تناسوا أن هناك اختلافًا واسعًا
بين الإسلام كدين رباني، قادر على مواجهة الحياة، وبين المسلمين كأفراد يستهويهم
الشر والخير والتناقض، والنسبية الظاهرة في تطبيق المنهج الإسلامي.
لذلك تصدى كثيرٌ من
عقلاء المسلمين لهذه الأفكار الخطيرة على المجتمعات الإسلامية، والتي أرادت أن
تستعيض بالإسلام غيره، فكان من هؤلاء فضيلة الشيخ محمد الغزالي ~ الذي هاجم أصحاب الاتجاه التطويري بقوله: "كل محاولة للبتِّ أو
الإضافة أو التحوير هي خروج عن الإسلام، وافتراءٌ على الله، وافتياتٌ على الناس،
وتهجُّم على الحق بغير علم، وليس يُقبل من أحد بتّة أن يقول: هذا نصٌّ فات أوانه،
أو هذا حكم انقضت أيامه، او أن الحياة قد بلغت طورًا يقتضي ترك كذا من الأحكام، أو
التجاوز عن كذا من الشرائع، فهذه محاولات لهدم الإسلام، وإعادة الجاهلية...،
فلنعلم أن تجديد الدين لا يعني ارتكاب شيء من هذه المحاولات المنكورة، ولم يفهم
أحدٌ من العلماء الأولين أو الآخرين أن تجديد الدين يعني: تسويغ البدع، ومطاوعة
الرغبات، وإتاحة العبث بالنصوص والأصول لكل متجهم، غير أن عصابة من الناس درجت هذه
الأيام على إثارة لفظ غريب حول إمكان ما يُسمونه تطوير الدين، وجعل أحكامه ملائمة
للعصر الحديث"[9].
لماذا التجديد؟!
لكن السؤال الذي يفرض
نفسه، لماذا التجديد إذن؟! وهل الإسلام – رغم شموليته وتكامله – يحتاج إلى
التجديد؟!
إن الحق الذي لا مراء
فيه أن الإسلام دين شامل متكامل، استطاع أن ينفذ إلى كُلِّ صغيرةٍ وكبيرة في حياة
الإنسان، كما استطاع أن يوجد الحل لكل مشكلة، والتيسير على كل معسر، ومع ذلك احترم
عقل الإنسان الذي هو مناط التكليف بهذا الدين، فأتاح له أن يُعمل العقل فيما تمليه
الحاجة الاجتهادية لكل مستجد يطرأ على حياة المسلمين، وهو ما عليه علماء الإسلام
منذ القِدم.
ومن هنا كان لا بدّ من
التجديد؛ لأن نصوص الشريعة محدودة، وحوادث الزمن مستمرة بمرور الأيام، فكان مما لا
مفرَّ منه أن يُفتح باب الاجتهاد والتجديد، بحيث يستطيع مجتهدو كل عصر أن يُنزلوا
النصوص الشرعية، على ما يستجد من أحداث في زمانهم، ومن ثمّ قال الإمام الشاطبي ~ : "فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر؛ فلا يصحُّ دخولها تحت الأدلة
المنحصرة، ولذلك احتيجَ إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بدَّ من حدوث
وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك؛ فإما
أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع
للهوى، وذلك كله فساد؛ فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف
لزومًا، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يُطاق؛ فإذًا لا بد من الاجتهاد في كل زمان؛
لأن الوقائع المفروضة لا تختصُّ بزمان دون زمان"[10].
وهذا الكلام الأصولي
من الإمام الشاطبي ~ في تعليله
لأسباب التجديد، يوضِّحه الإمام المناوي ~ بصورة تقريبية بقوله: "وذلك لأنه سبحانه لما جعل المصطفى خاتمة
الأنبياء والرسل، وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد، ومعرفة أحكام الدين لازمة
إلى يوم التناد، ولم تفِ ظواهر النصوص ببيانها، بل لا بدَّ من طريق وافٍ بشأنها،
اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قَرْمٍ[11]
من الأعلام في غِرَّة كل قرن؛ ليقوم بأعباء الحوادث؛ إجراء لهذه الأمة مع علمائهم
مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم، فكان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، والثانية
الشافعي..."[12].
غير أن أمر تجديد
الدين لا يتوقف عند ذلك السبب فحسب، فإن من الأسباب الأخرى التي تُحتِّم تجديد
الدين وتُلزمه، أن تقادُم الزمان، وبُعد الناس عن مصدر الوحي يؤدي بدوره إلى
اندراس كثير من معالم الدين ونسيها، وما يترتَّب على ذلك من كثرة الفساد، واتساع
رقعة الانحراف، وتفشّي البدع والضلالات، فعندئذٍ تصبح الحاجة ملحة إلى بعث
المجددين، وبروز قيادات إسلامية متميزة تعمل على إظهار الإسلام وتقديمه كما أنزله
الله، وتُبعد عنه كلَّ العناصر والجزئيات الدخيلة عليه، والتي تحول دون تفاعل
النفوس مع الوحي الإلهي، وتحيي ما اندرس من معالمه وأحكامه[13].
وقد أدى تقادم الزمن
عن مصدر الوحي إلى جهل أكثر الناس باللغة العربية الفصيحة، وبأساليبها – وإن كانوا
يتكلمون العربية – مما أوجد حاجزًا بين الناس وبين الفهم الصحيح لكثير من الأمور
الواردة في النصوص، كما أن التقدم التقني الهائل الذي قرّب البعيد قد أوجد
احتكاكات وتعاملات مع العالم بأسره – مسلمين وغير مسلمين – والتي لم تكن موجودة
قبل ذلك، مما يستدعي – بلا ريب – معرفة حدود تلك المعاملات، و مدى قُربها أو بعدها
من شريعة الإسلام، ولا يجب أن يخفى علينا أن ظهور التكتُّلات والتحالفات بين القوى
المختلفة في العالم المعاصر يُحتّم على الدول الإسلامية وجالياتها تحديد موقف من
ذلك فيحتاج النَّاس حينئذٍ إلى الفهم الصحيح الذي يضبط تلك الأمور[14].
وفي المقال القادم
نستكمل رحلتنا في هذا الملف المهم، ملف التجديد والإحياء في الإسلام، وصلى اللهم
وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
[1] سنن أبي داود: كتاب الملاحم، باب
ما يذكر في قرن المائة (4291)، والحاكم: المستدرك، كتاب الفتن والملاحم (8592)،
والمعجم الأوسط للطبراني 6/324. قال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة 2/148.
بالتوووووووووفيق
ردحذفممكن تراسلني على هذا الإيميل shaheen.daraamy@gmail.com كنت أود أن أسألك عن شيء لو تكرمت.
ردحذف