المستنجد هو
الخليفة العباسي الثاني والثلاثون، وهو أمير المؤمنين يوسف بن محمد المقتفي بالله،
وُلد في بغداد في عام 510هـ، وبويع بولاية العهد في سنة 542هـ[1]،
وتولى مقاليد الخلافة عقب وفاة أبيه في ربيع الأول من عام 555هـ وظل خليفة
للمسلمين حتى وفاته في ربيع الأول سنة 566هـ.
كاد المستنجد
بالله أن يُغتال عقب وفاة والده مباشرة، من جارية لوالده كانت أم ولد أرادت أن
يبايع الناس ابنها وكان يُدعى أبو علي، قال ابن الأثير: "كان للمقتفي حظية
وهي أم ولده أبي علي فلما اشتد مرض المقتفي وأيست منه أرسلت إلى جماعة من الأمراء
وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير
أبو علي خليفة فقالوا كيف الحيلة مع ولي العهد فقالت إذا دخل على والده قبضت عليه
وكان يدخل إلى أبيه كل يوم فقالوا لا بد لنا من أحد من أرباب الدولة فوقع اختيارهم
على أبي المعالي ابن الكيا الهراسي فدعوه إلى ذلك فأجابهم على أن يكون وزيرا
فبذلوا له ما طلب فلما استقرت القاعدة بينهم وعلمت أم أبي علي أحضرت عدة من
الجواري وأعطتهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولي العهد المستنجد بالله وكان له خصي صغير
يرسله كل وقت يتعرف أخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين ورأى بيد أبي علي
وأمه سيفين فعاد إلى المستنجد وأخبره وأرسلته هي إلى المستنجد تقول له إن والده قد
حضره الموت ليحضر ويشاهده فاستدعى أستاذ دار عضد الدولة وأخذه معه وجماعة من
الفراشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف فلما دخل ثار الجواري فضرب
واحدة منهن فجرحها وكذلك أخرى وصاح ودخل أستاذ الدار ومعه الفراشون فهرب الجواري
وأخذ أخاه أبا علي وأمه فسجنهما وأخذ الجواري فقتل منهن وغرق منهن ودفع الله عنه"[2].
وعقب هذه
المحاولة الفاشلة بسبب حنكة المستنجد وسيره على درب والده في بث العيون والأرصاد،
وتقريب الأتباع والأنصار، بدأ في تثبيت دعائم ملكه بإصلاحات داخلية كثيرة، غفل
عنها والده نتيجة الأوضاع الخارجية التي ظلت مع المقتفي حتى وفاته، لا سيما
السلاجقة.
لقد نقل الصفدي
عن كتاب "المناقب العباسية والمفاخر الهاشمية" عن دولة المستنجد وصفاته ما
نصه: "كانت أيامه أيام خصب ورخاء وأمن عام ودولته زاهرة وسياسته قاهرة وهيبته
رائعة وسطوته قامعة ذلت له رقاب الجبابرة في الآفاق وخضعت له منهم الأعناق وأشحن
بالظلمة الحبوس وأزال قوانين الظلم ورفع سائر المكوس وتمكن تمكن الخلفاء المتقدمين
وكان آخر من عمل في أيامه بقوانين الأئمة الماضين من مواظبة وزير على عمل المواكب
ورفع القصص إليه والمظالم فما انتهت إليه حالة مكروهة إلا أزالها وعثرة إلا أقالها"[3].
ونقل ابن
العماد عن ابن النجار البغدادي وكان معاصرًا للخليفة المستنجد قوله: "وقال
ابن النجار كان المستنجد موصوفا بالفهم الثاقب والرأي الصائب والذكاء الغالب
والفضل الباهر والعدل الظاهر له نظم بديع ونثر بليغ ومعرفة بعمل آلات الفلك
والأسطرلاب وغير ذلك"[4]،
وكانت الدولة في عصره هادئة وادعة مسيطرة على العراق، تدين لها بلاد الحجاز
والجزيرة العربية بالطاعة الشكلية فضلا عن بلاد الشام وإيران.
***
صارت بغداد في
زمن المستنجد أهدأ حالا، وأقل ضجيجًا، بحيث اهتم الخليفة بتحسين أوضاع درة الدنيا
وتاجها، لاسيما بعد الأحداث العاصفة التي جرت في زمن والده المقتفي، وقد كان من
الطبيعي أن تزدهر حلقات العلم، وأسواق العاصمة، ومحافل البلد، وتتشابك العلائق
الاجتماعية بصورة لا تبتعد عن الجدة والطرافة والاندهاش في بعض الأوقات.
فمن أرقى وأجلى
الطبقات الاجتماعية في العاصمة بغداد، طبقة العلماء والفقهاء، ومن اللافت أن
تشابكت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية بطبيعة الحال حول هذه الطبقة
التي تعدى دورها الاهتمام بالتعليم والتفقيه، وكان لها وظائفها المعروفة بين
الناس، لعل من أظهر هذه الوظائف الحرص على نقاء العقيدة الصحيحة في العاصمة والذب
عنها، وقد كان هذا الحرص مبعثه سلامة الأمن العام، ورؤية الخلافة لوجهتها الرسمية
في مسألة العقائد بالذات، ففي العام الذي تولى فيه المستنجد إمرة المؤمنين يبدأ
نجم الإمام ابن الجوزي في الصعود والبروز والتصديق الرسمي والمجتمعي على دوره ودور
غيره من العلماء في خسف أي نشاط ثقافي أو علمي يخالف المنهج العقدي السائد، وهذا
الخسف أو بالأحرى المقاومة لم يكن إلا بالمقاومة الفكرية من جانب العلماء، وقد
تتدخل السلطات أحيانًا إذا رأت أن الخطر مستشرٍ، قال ابن الجوزي: "وظهر أقوام
يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب وأعانني الله تعالى عليهم وكانت كلمتنا هي
العليا وأذن لرجل يقال له أبو جعفر بن سعيد ابن المشاط فجلس في الجامع فكان يسأل
فيقال له آلم ذلك الكتاب كلام الله فيقول لا ويقول في القصص هذا كلام موسى وهذا
كلام النملة فأفسد عقائد الناس وخرج فمات
عن قريب"[5].
وأيضا كانت
تصادر الكتب التي تناوئ الدولة العباسية وخلفاءها "في جمادى (من عام 559هـ)
اجتمع جماعة يسمعون كتاب ابن منده في فضائل احمد بن حنبل في مسجد ابن شافع فجرى
بين ابن الخشاب وبين ابي المحسن الدمشقي منازعة في امر يتعلق بالفقهاء فآل الأمر إلى
خصام فوشى بهم الدمشقي إلى الخليفة وأنهم يقرأون كتابا فيه معايب الخلفاء فتقدم
بأخذ الكتاب من أيديهم" [6]
وحرصت الخلافة
على المظهر العام لبغداد، وإزالة كل المعوقات التي تعوق حركة الناس ومعاشهم في
العاصمة، ففي عام 556هـ "خرج التوقيع بإزالة المتعيشين الذين يجلسون على
الطرقات في رحبة الجامع وغيرها وبنقض الدكاك البارزة في الأسواق التي توجب
الازدحام"[7].
وثمة إصلاحات
كانت الدولة تقرها إذا ما حدثت المشاكل الموجبة لانتفائها، لا سيما ما يتعلق فيها
بالرابطة اليومية بين مؤسسات الدولة والناس،
ففي عام 557هـ "وفي رجب منها جمع الوكلاء والمحضرون والشهود كلهم عند
حاجب الباب وشرط عليهم أن لا يتبرطلوا من أحذ ولا يأخذ الشروطي في كتب البراءة أكثر
من حبتين ولا المحضر أكثر من حبة ولا الوكيل أكثر من قيراطين واشهدوا عليهم الشهود
بذلك وسببه جناية جرت بينهم في تزويج كتاب"
وكان فقهاء
بغداد وعلمائها يقعون تحت طائلة القانون، لا قداسة لمكانتهم، ولا سلطان لطبقتهم
إذا ما أخطأ أحدهم وارتكب جريرة تستوجب عقابه، وفي القصة التالية التي يرويها ابن
الجوزي، نرى من خلالها عدة أمور، منها طبيعة العلاقة الاجتماعية بين أفراد الأسرة
وقتئذ، والعلاقة بين الفقهاء والدولة، وبين الناس وبعضها في العاصمة بغداد، يقول
ابن الجوزي: " وحكى أبو الفرج بن الحسين الحداد قال جرت لابن فضلان الفقيه
قصة عجيبة وهو انه اتهم بقتل امرأة فأخذ واعتقل بباب النوبي اياما وذلك انه دخل
على اخت له قد خطبت وما تمت عدتها من زوج كان لها فمات فضربها فثارت اليه امرأة
كانت عندهم في الدار لتخلصها منه فرفسها برجله ولكمها بيده فوقعت المرأة مغشية عليها
ثم خرجت فوقعت في الطريق فأدخلت الى رباط وسئلت عن حالها فأخبرتهم الخبر فحملت الى
بيت اهلها فماتت في الحال فكتب اهلها الى الخليفة فتقدم باخذه فانكر فلم يكن لهم
بينة فحلف وخرج وهذه القصة اذا صحت فقد وجبت عليه الدية مغلظة في ماله لانه شبه
عمد ويجب عليه كفارة القتل بلا خلاف"[8].
ولم تخلو
العاصمة من جو المرح والابتكار، بل إننا نجد إشارة لابن الجوزي في حوادث عام 560هـ
تشير إلى وجود "المهرجين" و "المسرحيين" و"البهلوانات"
بصورتهم المبدئية في تلك السنة، ولعل المسلمين في هذا التاريخ المتقدم الذي كان
الصليبيون فيه يتعاملون مع المسلمين بكل وحشية وقسوة وجفاء، فضلا عن انعدام أسباب
الترف والتقدم في بلدانهم وهي في عصورهم الوسطى المظلمة، هم أسبق الناس إلى هذا
الفن، يقول ابن الجوزي: "وقدم رجل مغربي فنصب جذعا طويلاً ووقف على رأسه
يعالج، فحاكاه صبي عجان وسافر العجان البلاد فقدم وقد اكتسب الأموال والجواري
والخدمـ فنصب جذعين طويلين شد احدهما إلى الآخر وصعد ورقص على كرة معه بحبال وحمل
جرة ماء على رأسه ولبس سراويله هناك ورمى نفسه واستقبلها بحبل مشدود فحصل له مبلغ"[9].
ويبدو أن هواية
"البهلوانات" هذه كان لها صورًا عديدة، منها "اللعب بالنفط"،
وهو ما نراه اليوم في الموالد والمهرجانات و"السيركات"، وقد كانت هذه
الهواية تتسبب في مشاكل في بعض الأوقات، منها ما حدث مع أحد سيئي الحظ، ففي شهر
شعبان من عام 564هـ "اتفقت حادثة عجيبة وهو أن إنسانا كان قائما عند دكان
عطار بشارع دار الدقيق فجاء نفاط يلعب بقارورة النفط فخرجت من يده بغير اختياره
فأهلكت ما في الدكان كله وتعلقت بثياب ذلك الرجل القائم هناك إلى أن نزع ثيابه
انسلخ جلده من عنقه إلى مشد سراويله وأخذ النفاط فحبس وجرت فتنة فتخلص النفاط"[10].
أما العلاقة
بين سنة بغداد وهم الأغلبية فيها وبين شيعتها الذين طالما تمركزوا في حي الكرخ غرب
العاصمة، فكانت تدور بين شد وجذب، وكثيرا ما استغل الشيعة ضعف مؤسسة الخلافة
والأجهزة الأمنية للانقضاض على السنة وتخريب منشآتهم والفتك بهم، ففي عام 561هـ
ظهر "من الروافض أمر عظيم من ذكر الصحابة وسبهم وكانوا في الكرخ إذا رأوا مكحول
العين ضربوه"[11]،
لكن مع ذلك لم نسمع مرة أن مؤسسة الخلافة أمرت بالقضاء عليهم وقتلهم، كما فعلت مع
عرب بني أسد وهم بالآلاف.
وعلى كل؛ فقد
أحببنا أن نكشف الضوء على بغداد في زمن قد يبدو للقارئ خارج عن سياق الأهمية؛ لكن
أهميته تكمن في فهم الحياة الاجتماعية للمسلمين في عاصمتهم العريقة في زمن كانت
فيه بين التبعية للسلاجقة ومحاولات الاستقلال المستميتة والتي تمت بالفعل على يد
حفيد المستنجد الخليفة الناصر بن المستضيء، لنرى كيف يمكن أن تجمع الدولة بين
المقاومة السياسية والعسكرية وبين الحياة الفكرية والاجتماعية المتنوعة غير
المقولبة في إطار من دولة شمولية مركزية صارمة!
[1] ابن الأثير: الكامل 9/348.
[2] ابن الأثير: الكامل 9/439.
[3] الصفدي: الوافي بالوفيات 29/134.
[4] ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/218.
[5] ابن الجوزي: المنتظم 10/195.
[6] ابن الجوزي: المنتظم 10/208.
[7] ابن الجوزي: المنتظم 10/199.
[8] ابن الجوزي: المنتظم 10/204.
[9] ابن الجوزي: المنتظم 10/211.
[10] ابن الجوزي: المنتظم 10/229.
[11] ابن الجوزي: المنتظم 10/218.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق