يُعد العصر المملوكي
(647هـ - 923هـ) من العصور التي تجلت فيها الريادة العسكرية الإسلامية، ولم تتجل
هذه القوة العسكرية وهيمنة الدولة المملوكية على العالم الإسلامي كله إلا للثقافة
العسكرية التي كانت العامل الأول لقيام هذه الدولة، وباعتبار أن كل السلاطين
المماليك الذين اعتلوا سُدة الحكم في القاهرة كانوا في المقام الأول رجالاً
عسكريين من الطراز الأول، أُتي بهم من آسيا الوسطى وانضم كل منهم لأحد كبار
المماليك فأصبحوا في خدمته وطاعته، ولُقنوا فنونًا جمة من العلوم العسكرية
والحربية والشرعية، ثم تنقلوا في السلك العسكري والإداري في الدولة حتى وصلوا إلى
أرفع المناصب، وأصبحوا نخبة المجتمع المصري والإسلامي في زمنهم.
لقد تجلت قوة هذه
الدولة الفتية بعد انتصارها وسحقها للتتار في موقعة عين جالوت سنة 658هـ وبدأت تفرض
هيبتها وسلطانها على كل من مصر والشام وأجزاء من شمال العراق والحجاز والنوبة
وأجزاء لا بأس بها من ليبيا ثم قبرص واليمن في أوقات متناثرة من دولتهم، فضلا عن
الهيمنة على البحر الأحمر والجانب الشرقي والجنوبي الشرقي من البحر المتوسط، وهي
مساحة شاسعة جدًا ما كان لهذه الدولة أن تتحصل عليها، وتُبقيها في مأمن من الأعداء
المتربصين وعلى رأسهم الصليبيين والبنادقة والجنويين والمغول ثم العثمانيين في بعض
الأوقات إلا من خلال جيش وأسطول قويان يُرهبان كل عدو، وما كان ذلك ليحدث لولا
وجود منهاجية وحياة عسكرية قاسية اتكأت عليها هذه الدولة في حماية حدودها وأمنها
الداخلي والخارجي.
ومما يلفت النظر، أنه
قليلاً ما تُنولت المؤلفات العسكرية في تراثنا الإسلامي بالتحقيق والشرح والتقديم،
حتى إن الناظر في كم المؤلفات العربية والشرعية واللغوية والفقهية والتاريخية،
فضلاً عن الرياضية والحسابية والطبية والكيميائية والهندسية وغيرها، يحسب أن
حضارتنا حضارة العلوم الشرعية والعلمية وفقط، وأن النماذج المنهاجية في المجال
الحربي والعسكري معدومة قليلة، رغم أن هناك عشرات المعارك الخالدة التي دونتها
مؤلفات التاريخ والبلدان تدوينًا أمينًا، والعشرات من المخطوطات العسكرية والحربية
في دور الكتب والمتاحف تحتاج لمن يبحث عنها، ويخرجها من براثن الظلمات وغياهب
الرفوف.
والحق أن العمل الجاد
والرائع الذي بذله اللواء العراقي محمود شيت خطاب رحمه الله باهتمامه في هذا
الجانب المعتم في حضارتنا ليستحق عليه منا الدعاء الكثير، وثمة عمل مهم قام
بتحقيقه رحمه الله، هذا العمل هو تحقيقه لمخطوط من العصر المملوكي بعنوان
"الأدلة الرسمية في التعابي الحربية" ومؤلفه أحد نقباء الجيش المصري
وأمرائه في عصر السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون (ت778هـ)، واسمه
محمد بن محمود منكلي.
يقول شيت خطاب عن هذا الكتاب: "استمتعتُ
كثيرًا بقراءة هذا الكتاب وتحقيقه؛ لأنني استفدتُ منه شخصيًا معلومات عسكرية
جديدة، لعل أهمها ما يمكن أن نطلق عليه: السجية العسكرية أو الأخلاق العسكرية؛
ولأنني اكتشفتُ أن أجدادنا الغر الميامين كانوا عُلماء من الطراز الأول في العلوم
العسكرية؛ ولأن هذا الكتاب وغيره من التراث العربي الإسلامي في العسكرية قدّم
الجواب الشافي عن تساؤلي: كيف انتصر أجدادنا على أعدائهم الكثيرين؟ لقد كنتُ أظنُّ
أن أجدادنا انتصروا بعقيدتهم أولاً: العقيدة المنشئة البناة التي ذاد عنها حماة
قادرون، وقد تعلمتُ من هذا الكتاب وغيره من كتب التراث العسكري، أن أجدادنا كانوا
عُلماء حقًا في العسكرية، فكان انتصارهم بعقيدتهم الراسخة، وقيادتهم المحنكة،
وعلمهم المتين"([1]).
فلماذا استمتع اللواء
خطاب بهذا الكتاب، وأي سجية أخلاقية كانت تناطح المعلومات العسكرية الصماء في ذلك
الكتاب؟
يقول ذلك الفارس
المصري محمد بن منكلي القاهري في كتابه عن أهمية الأخلاق ودورها في الشاب المحارب،
والجندي المسلم، وخاصة أهل المشورة الذين يشاورهم القائد فيما يستجد إليه من أمور
الحرب وغيرها: "والعبدُ([2])
يذكر طرفًا مختصرًا من أهل المشورة: أول ذلك أن يكون تقيًا لله U. الثاني: لا يستفزُّه الطمع فيُستمال([3]).
الثالث: أن يكون محبًا صادقًا لمن استشاره. الرابع: أن تكون محبته خالصة لله،
صادقة، باذلاً نفسه للذي استشاره. الخامس: لا يذيع سرّ من استشاره، ولو جُبِر.
السادس: لا يُحدّث نفسه بإعجاب لكونه صار ممن يُستشار، وظن لنفسه تمييزًا فهذا رجل
مغرور بنفسه أحمق. السابع: لا يُدلُّ([4])
على من استشاره، وكُلما قرب منه ازداد احتشامًا، واعتقد فيمن استشاره المنَّة له
في ذلك لاختياره له بهذه المنحة. الثامن: لا يذيع السر، ولو مات من استسرّه بسر،
فإن أفشاه فهو عند المروءة يُعدُّ من الخائنين الخائبين. التاسع: أن يكون خبرة
فيما يُستشار فيه جملة وتفصيلاً. العاشر: وهو البُغية العزيزة الغريبة التي لا
تكاد توجد إلا في بعض الأعصار، وسبب ذكري لها لأنه ممكن وجودها في الأنفس
المتجوهرة بنور الله U، وصاحب هذه الطريقة إذا استُشير فيما يعلمه، ربما استمع هاتفًا إما من
داخل صفاء باطنه النزيه أو من خارج إحدى الجهات يرشده لوجه الصواب في المسألة، أو
يرى منامًا يدلُّ على مقصوده. قال العبد الفقير محمد بن منكلي غفر الله له: هذه
الخصال المذكورة، كلها اجتمع الداعي بأصحابها وصحبهم، وكلهم تواصوا بالحق وتواصوا
بالصبر، لكن بقي التخلق بهم، وأخشى أن تكون صحبتي لهم حجة علي لقوله تعالى: ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا
تَفْعَلُونَ([5])(، وكل من صحب قومًا ولم يتخلق
بأخلاقهم الحميدة، فهو محروم"([6]).
وقد تناول المؤرخ تقي
الدين المقريزي (ت845هـ) مراحل التربية العسكرية وماهيتها في هذا العصر في أكثر من
مؤلَّف له، منها ما ذكره في "الخطط" عند حديثه عن المدارس الحربية
المملوكية التي كانت تُسمى بـ"الطِبَاق" قال رحمه الله: "الطباق:
عمّرها الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأسكنها المماليك السلطانية، وعمّر حارة
(مسكن) تختص بهم، وكانت الملوك تُعنى بها غاية العناية، حتى إن الملك المنصور قلاوون
كان يخر (ينزل من القلعة) في غالب أوقاته إلى الرحبة عند استحقاق حضور الطعام
للمماليك، ويمر بعرضه عليه، ويتفقد لحمهم ويختبر طعامهم في جودته ورداءته، فمتى
رأى فيه عيباً اشتدّ على المشرف والإستادار ونهَرهما وحلّ بهما منه أيّ مكروه،
وكان يقول: كلّ الملوك عملوا شيئاً يُذكرون به ما بين مال وعقار، وأنا عمّرت
أسواراً وعملت حصوناً مانعة ولي ولأولادي وللمسلمين، وهم المماليك، وكانت المماليك
أبداً تُقيم بهذه الطِبقات (المدارس الحربية) لا تبرح فيها، فلما تسلطن الملك
الأشرف خليل بن قلاوون سمح للمماليك أن ينزلوا من القلعة في النهار ولا يبيتوا إلا
بها، فكان لا يقدر أحدٌ منهم أن يبيت بغيرها، ثم إنّ الملك الناصر محمد بن قلاوون
سمح لهم بالنزول إلى الحمّام (العام) يومًا في الأسبوع، فكانوا ينزلون بالنوبة مع
الخُدّام، ثم يعودون آخر نهارهم، ولم يزل هذا حالهم إلى أن انقرضت أيام بني قلاوون،
وكانت للمماليك بهذه الطباق عادات جميلة، أوّلها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره عرضه
على السلطان، ونزله في طبقات جنسه وسلمه لطواشيّ[7]
، فأوّل ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كلّ طائفة لها
فقيه يحضر إليها كل يوم، ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى، ومعرفة الخط، والتمرن
بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرّسم (القرارات العامة) إذ ذاك
أن لا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شبّ الواحد من المماليك علّمه الفقيه
شيئاً من الفقه، وأقرأه فيه مقدّمه، فإذا صار إلى سنّ البلوغ أخذ في تعليمه أنواع
الحرب: من رمي السهام، ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كلّ طائفة معلم حتى يبلغ
الغاية في معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النُّشاب[8]
ونحو ذلك، لا يجسر جند، ولا أمير أن يحدّثهم أو يدنو منهم، فينقل إذن إلى الخدمة
وينتقل في أطوارها رتبة بعد رتبة إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا
وقد تهذّبت أخلاقه، وكثُرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتدّ ساعده
في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح، ومرن على ركوب الخيل، ومنهم من يصير في رتبة
فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر، هذا ولهم أزمَّة من الخدّام، وأكابر من
رؤوس النوب يفحصون على حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشدّ المؤاخذة،
ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عثر أحد من مؤدبيه الذي يعلّمه القرآن، أو
الطواشيّ الذي هو مسلَّم إليه، أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف
ذنباً، أو أخلّ برسم، أو ترك أدباً من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة
مؤلمة شديدة بقدر جرمه، وبلغ من تأديبهم أن مقدّم المماليك كان إذا أتاه بعض
مقدّمي الطباق في السحَر، يشاور على مملوك أنه يغتسل من جنابة، فيبعثُ من يكشف عن
سبب جنابته، كان من احتلام فينظُر في سراويله، هل فيه جنابة أم لا، فإن لم يجد به
جنابة جاءه الموت من كلّ مكان، فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في
سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جارة أو تعدَّى"([9]).
ولنا أن نتصور الجندي المملوكي الذي يتخرج بعد هذا النظام العسكري والثقافي
الصارم، ومدى قدرته على الذب عن الدولة، وإسهامه في إبراز قوتها وبأسها في عيون
الأعداء.
إن هذه نبذة سريعة عن
العسكرية الإسلامية في العصر المملوكي، وهؤلاء هم أبناء تلك الدولة العظيمة، الذين
كانوا يُربون منذ نعومة أظفارهم على تحمل المسئولية، وكانوا يُنتقون بعناية شديدة،
ليكونوا تحت إشراف السلطان رأسًا وفي خدمة الدولة، ثم هم مجموعة اجتماعية تربوية
منخرطة في قضايا المجتمع، متشحة بلواء العلم، مستمسكة بالذوق العام، والثقافة
الإسلامية الهادفة، فلا نستغرب أو نندهش من ذلك التمكين والقوة التي كانوا عليها.
من أجمل ما قرأت خصوصاًما إقتطفته من خطط المقريزي ... بارك الله فيك استاذنا و نفعنا الله بك دائماً
ردحذف