الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

الإمام الباجي الأندلسي يربي ولديه بالوصيّة! (1)

كانت من أهم مظاهر التربية في الأندلس نموذج الوصايا التربوية التي حفلت بها المؤلفات الأندلسية، وهذه الوصايا يكتبها الفقيه أو العالم لأولاده يحثُّهم فيها على طاعة الله واتباع نهجه، ويحدد فيها طبيعة العلاقة بينهم وبين العباد، فهي وصايا تربوية في المقام الأول، وتأتي وصية الإمام أبي الوليد الباجي من أوائل هذه الوصايا التي تؤسس للفكر التربوي الأندلسي، حتى إن لسان الدين بن الخطيب الأديب والمؤرخ الشهير والذي ولد بعد الباجي بقرنين ونصف تقريبًا حرص على تقليد هذه الوصية لما فيها من النصائح والإرشادات المهمة، وإن كانت وصية ابن الخطيب تتميز بأسلوبه المسجوع المعهود عليه.
وليس ثمة شك في قول المؤرخ الكبير الدكتور حسين مؤنس حينما قرر أن قمة المنحى العلمي والثقافي للحضارة الإسلامية الأندلسية إنما كان بين منتصف القرن الخامس ومنتصف القرن السادس الهجريين؛ ذلك لأنه على الرغم من التمزُّق السياسي الذي عاشته الأندلس آنئذ في ظل حكم أمراء الطوائف؛ إلا أن المجال العلمي والمعرفي كان له منحىً آخر غير المنحى السياسي للأندلسيين؛ فخلال هذه الأعوام المائة وصل التأليف في شتى ضروب العلوم في الأندلس إلى ذروته، وإذا نحن درسنا ما ظهر من الأعمال قبلها تبينا أنها تمهيد أو خطوات نحو النضوج الذي ظهر خلالها، وما ظهر بعدها كذلك كان نسجًا على طراز ما ظهر فيها، فيما خلا استثناءات لا تضعف هذا الرأي.
الباجي ورحلة علمه
والإمام أبو الوليد الباجي هو سليمان بن خلف بن أيوب (403 – 474هـ) أحد المجددين والمبدعين في تاريخ التراث الإسلامي بصفة عامة، والأندلسي بصفة خاصة، فقد أخذ عن كبار علماء عصره من المشارقة والمغاربة؛ وصاحبَ كبارهم وأعلامهم مثل العلامة المشرقي الخطيب البغدادي (ت 463هـ) الذي أنشد للباجي قوله:
إذا كُنْتُ أعلمُ عِلْمًايقينًا             فإنّ جميع حياتي كساعةْ
فلِمَ لا أكونُ ضَنِينًا بِهَا              وأَجْعَلُهَا في صَلاحٍ وَطَاعةْ
وكثيرًا ما تأملتُ كلام العلامة ابن حزم – وهو يكبر الباجي بعشرين سنة – عن الباجي بإعجاب واندهاش، فابن حزم رغم مناظراته الحادة والشهيرة مع الباجي وتفوق الأخير عليه في كثير منها، إلا أنه لم يكن يتوانى في إظهار إعجابه، بل وشغفه بآراء ومؤلفات أبي الوليد الباجي، منها أن ابن حزم قال: "لو لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب (البغدادي) إلا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم"[1]، ولا عجب في ذلك، فقد حُق لابن حزم ولكافة القارئين لتراثنا أن يُعجبوا بفكر وإرث أبي الوليد الباجي الذي ظل في رحلة علمية للمشرق استمرت ثلاثة عشر عامًا، رجع بعدها إلى موطنه في الأندلس بعلم غزير ظل الرائح والغادي يتحدث عنه، ويتناول مؤلفاته بتقدير وإمعان، فضلاً عن مساجلاته ومناظراته التي ذاعت شهرتها في آفاق الأندلس، ولا عجب إذن أن يحضر مجالسه ثلاثة آلاف إنسان للسماع والتدوين كما ذكر ابن بشكوال في الصلة[2]، ويُتوفى رحمه الله وهو أعلم عصره علمًا وديانة كما يقرر الضبي[3].
مع الوصية
عثر على هذه الوصية الأستاذ الدكتور جودة عبد الرحمن هلال ضمن مجلد يحتوي على عدة رسائل بمكتبة الأسكوريال الشهيرة بإسبانيا، وقد كُتبت هذه الرسالة بعد وفاة الباجي ب275 سنة؛ أي سنة 749هـ، وقد حققها الدكتور جودة تحقيقًا جيدًا ونشرها بمجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، عام 1955م، وهي في المجلد الثالث من ص17 إلى ص47 لمن أراد الإفادة بها.
وموضوع هذه الوصية يهتم بتربية النشء الجديد تربية صحيحة، ولم تكن هذه الرسالة موجهة إلى ابنية فحسب، بل يقصد بها شباب الامة في عصره، والأجيال اللاحقة بعده، وقد تدارسها العلماء ودرسوها لتلاميذهم وأبنائهم، وأخذ أفكارها وحور أسلوبها وأوصى بها ابناءه: لسان الدين بن الخطيب.
قسّم الإمام الباجي وصيته إلى قسمين: الأول منها يتناول فيه الشئون العامة للدين، وما يتطلبه من واجبات والتزامات، وقد جعل رحمه الله المعرفة والعلم أساسًا لتلك الواجبات والالتزامات، ولعل أبرز الأمور التي تناولها الباجي في هذا القسم من الوصية: التنبيه والتأكيد على ضرورة الاستمساك بالمذهب المالكي، ثم الحذر كل الحذر من دراسة علوم المنطق والفلسفة إلا بضوابط معينة، وحديثه عن دراسة الفلك والتنجيم والضوابط التي تحدد هذا.
أما القسم الثاني والأخير من الوصية فيشتمل على وصايا ومواعظ عظيمة، رسم فيها الباجي الخطوط الرئيسة للعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبينه وبين إخوانه وعشيرته وجيرانه، بل وبينه وبين الدولة والمؤسسات الرسمية فيها. من أجل هذا كان لتلك الوصية أثر كبير في الوسط العلمي الذي كان يعيش فيه المؤلف، حيث تعدى تأثير هذه الوصية من ولديه اللذين أُنشئت الوصية من أجلهما إلى قلوب التلاميذ الذين احتلوا مكان الأستاذ، يقرءونها في حلقات الدروس، ويحاضر بها في المجالس العلمية، ومن الأدلة على ذلك ما يرويه ابن الأبار أن أبا إسحاق بن جمعة القاضي كان يحدث بوصية الباجي لابنيه عنه، ويحدثنا أيضًا أن إبراهيم بن أحمد بن جماعة قاضي مدينة دانية ثم قاضي شاطبة قد كانت له رواية عن أبي على الصدفي تلميذ الباجي، وناوله أبو علي المذكور وصية أبي الوليد الباجي، بل ويؤكد الدكتور جودة أن تأثير الوصية لم يكن مقصورًا على أولاد الباجي وتلامذته بل تعدى ذلك بصورة واضحة إلى العصور المتأخرة حتى زمن لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ) الذي كتب وصية شبيهة إلى حد كبير بما كتبه الباجي من قبله بثلاثة قرون[4]!
والحق أن هناك سؤال ملح، وهو: لماذا كتب الإمام الباجي هذه الوصية التربوية لأولاده وهو بينهم، يعلمهم ويربيهم ويُشرف على كل ما يتعلق بهم، خاصة وهم في بدايات سن التكليف كما يبدو من الرسالة؟
هذا السؤال يجيب عليه بقوله: "إنكما لما بلغتما الحدَّ الذي قرُب فيه تعيُّن الفروض عليكما، وتوجه التكليف إليكما، وتحققتُ أنكما قد بلغتما حدَّ من يفهم الوعظ ويتبين الرشد ويصلح للتعليم والعلم، لزمني أن أقدم إليكما وصيتي، وأظهر إليكما نصيحتي، مخافة أن تخترمني منيةٌ، ولم أبلغ مباشرة تعليمكما وتدريبكما وإرشادكما وتفهيمكما؛ فإن أنسأ الله تعالى في الأجل، فسيتكرر النصح والتعليم، والإرشاد والتفهيم. (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[5]) بيده قلوبكما ونواصيكما، وإن حال بيني وبين ذلك ما أتوقعه وأظنه من اقتراب الأجل وانقطاع الأمل، ففيما أرسمه من وصيتي، وأبينه من نصيحتي، ما إن عملتما به ثبتُما على منهاج السلف الصالح، وفزتما بالمتجر الرابح، ونلتما خير الدنيا والآخرة"[6].
ونستكمل في المقال القادم إن شاء الله ما جاء في الوصية من إرشادات وتنبيهات قيّمة تُبين لنا كيف ربّى أجدادنا أبناءهم في ظل الحضارة الإسلامية الوارفة منذ ألف عام مضت!!


[1]  المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس 2/68، 69.
[2] ابن بشكوال: الصلة، تحقيق إبراهيم الإبياري  ص318، 319.
[3]  الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، تحقيق إبراهيم الإبياري 2/386.
[4] جودة عبد الرحمن هلال: مقدمة لوصية القاضي أبي الوليد الباجي لولديه 3/ 17، 23، 24. مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية – مدريد، 1955.
[5] (هود: 88).
[6]  وصية الباجي: 3/30. مجلة المعهد المصري بمدريد 1955م.

هناك 5 تعليقات: