توفي المجاهد الغازي كمال ريس في عام 917هـ = 1511م وبعد وفاته آثر ابن
أخيه محي الدين أن يترك البحر لفترة تنسيه فاجعته، لكنه وهو الكهل المحنك، الذي
علمته التجارب والسنون لم يرجع إلى غاليبولي ليخمل أو يكسل؛ فقد أراد أن يبدأ في
أول عمل كارتوغرافي له([1])؛
فقد علمنا في السابق أنه تعلم الكثير من الأسرى الأوربيين وخاصة الطليان والإسبان
عن أوضاع الخرائط والرسومات - منذ وجوده في غرب البحر المتوسط أثناء جهاده
للإسبان- وآخر ما تم التوصل إليه في ذلك العصر، وسوف نتوقف مع إنتاجه الفكري والكارتغرافي
في الباب الثاني من هذا البحث؛ إذ هذا الجانب المهم من حياته لا بد أن نستعرضه بشيء
من التأني والتدبر؛ ليتسنى لنا أن نقدر هذا العظيم المجهول حق قدره.
في هذين العامين استطاع محي الدين أن يعتكف في غاليبولي مقارنًا بين
الخرائط المشرقية والأوربية؛ ليخرج لنا بإبداعه الكارتوغرافي الأول متمثلاً في
خريطة العالم وذلك سنة 919هـ = 1513م، والثاني كان كتابه "بحرية" والذي
أصبح فيما بعد دليلاً للملاحة العثمانية([2]).
وأراد الريس أن يهدي أول إنتاجه الجغرافي إلى السلطان سليم الأول، لكنه لم
يستطع الوصول إليه على ما يبدو، ثم ما لبث بيري أن رجع إلى عمله في الأسطول
العثماني في أعوام 1516- 1517م ليرأس مجموعة من السفن سيكون لها دورها في تعضيد
الأسطول العثماني أثناء فتحه لمصر([3]).
وقد وقعت مجموعة من الأحداث كانت السبب الرئيسي لاستدارة العثمانيين عن
فتوحاتهم في أوربا متجهين إلى المشرق، وخاصة إيران مقر الصفويين ومصر مقر
المماليك؛ فهذه الاستدارة أو تغير الاتجاه كان نتيجة طبيعية للمنغصات التي واجهها
العثمانيون؛ منها احتضان المماليك لمنافسي السلطان العثماني سليم على العرش،
ومحاولات المماليك لإقامة علاقات مع الصفويين الذين عملوا على نشر المذهب الشيعي
في شرق الأناضول مهددين بذلك سياسة الدولة العثمانية وأمنها؛ ومن ثم كان لا بد أن
يُسارع السلطان سليم لدرء هذا الخطر، فهزم بالفعل جيوش الصفويين بزعامة الشاه
إسماعيل الصفوي في وقعة جالديران سنة 920هـ = 1514م، وفرّ الشاه إلى داخل إيران([4]).
ويذكر ابن زنبل الرمال أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى مهاجمة العثمانيين
لمصر أن السلطان الغوري آوى قرقود أخا سليم ومنافسه على العرش، قال: ".. فهرب
أخوه قرقود أخا سليم إلى مصر واستجار بالغوري فأبى أن يمكنه منه فاشتدت العداوة
بين الغوري وبينه حتى وقع ما وقع"([5]).
وبالفعل تحرك العثمانيون لمهاجمة المماليك، فتقابل الجانبان في موقعة مرج
دابق بالقرب من حلب عام 916هـ = 1522م، واستطاع العثمانيون أن يُنزلوا هزيمة ثقيلة
بالمماليك الذين فقدوا سلطانهم الغوري في هذه الموقعة، ثم ما لبثوا أن دخلوا دمشق
ومعظم المدن الشامية الأخرى، وبدأ تحركهم بقيادة سليم الأول إلى مصر([6]).
شارك محي الدين الريس في فتح مصر مع القوة البحرية التي أتت من شواطئ
الدولة العثمانية، ونجحت القوات البحرية العثمانية في دخول المياه الإقليمية
المصرية، ويبدو أن مقاومة المماليك البحرية كانت شبه منعدمة؛ إذ لم يذكر ابن إياس
أي حديث أو إشارة للأسطول العثماني في الإسكندرية؛ اللهم إلا ما ذكره عن توجه
السلطان سليم شاه إلى الإسكندرية، وكانت مدة غيابه عن القاهرة خمسة عشر يومًا، وقد
كانت هذه الزيارة السريعة إلى الإسكندرية هي المرة الأولى والأخيرة التي يذهب فيها
السلطان العثماني إلى هناك([7]).
ونستنتج من هذا أن بيري قد قابل السلطان سليم الأول في الفترة ما بين 28
ربيع الثاني إلى 10 من شهر جمادى الأولى عام 923هـ = مايو 1517م([8])،
وهذا ما يؤيده بيري نفسه في كتابه البحرية، وينقله عنه كراتشكوفسكي بقوله:
"وتوجد في كتاب بحرية إشارة لبيري ريس نفسه يفهم منها أنه أكمل رسم خارطة
كبيرة للعالم بغاليبولي في عام 919هـ = 1513م ورفعها بعد أربعة أعوام من هذا إلى
أعتاب السلطان سليم في عام 1517م وذلك أثناء وجوده بمصر"([9]).
وقد أشار في كتاب البحرية بأن السلطان تكرّم بقبول الخارطة([10]).
ومن خلال نظرتنا لخريطة القاهرة التي رسمها الريس أثناء مقامه في مصر يتضح
لنا أنه استقر به المقام مدة لا تقل عن ستة أشهر، استطاع في خلالها أن يرسم
القاهرة وبعض ضواحيها بشكل ممتاز.
رجع بيري إلى مقر القيادة البحرية في غاليبولي ومقر إقامته هناك، بادئًا في
وضع الملاحظات الأولى لكتابه البحرية، وكانت هذه الملاحظات متزامنة مع خريطته
الأولى التي انتهى منها عام 919هـ = 1513م، وقد عمد محي الدين في زيادة المادة
العلمية لتعينه في مساراته البحرية المختلفة.
وفي تلك الأثناء وبالتحديد في عام 926هـ = 1520م توفي السلطان سليم الأول
ليخلفه ابنه سليمان القانوني الذي ستشهد الدولة العثمانية في مدة حكمه التي قاربت
ستة وأربعين سنة أوج عظمتها وقوتها البحرية اللافتة.
بدأ سليمان بتحقيق ما لم يستطع آباؤه تحقيقه في مجال الفتوحات والجهاد؛ فقد
فتح بلغراد سنة 926هـ، ثم تطلع لفتح جزيرة رودس تلك الجزيرة التي أعاقت في كثير من
الأحيان تحركات الأسطول العثماني؛ فضلاً عن تهديدات فرسان القديس يوحنا للسفن
التجارية وحركة الملاحة في البحر المتوسط؛ وبعد أن أضحت مصر والشام من جملة ولايات
السلطنة العثمانية كان من الطبيعي أن تتجه أنظار العثمانيين صوب هذه الجزيرة التي
تتوسط ولايات العثمانيين، ومن ثم قرر السلطان سليمان القانوني فتح هذه الجزيرة
وكان هذا القرار في عام 928هـ = 1522م([11]).
ولكن ما يهمنا في هذا الفتح العثماني المجيد لهذه الجزيرة الحصينة، أن بيري
ريس قد اشترك فيه باعتباره قائدًا لمجموعة من السفن العثمانية؛ ويذكر الأستاذ
إينان ذلك بقوله: "وكان يعتبر اشتراك بيري في الحملة على جزيرة رودس مع
الأسطول العثماني أمرًا طبيعيًّا"([12])،
لكنه لا يُشير إلى المصادر التي عوّل عليها في استقاء هذه المعلومة المهمة التي
تؤكد على استمرارية بيري في وظائفه البحرية، وانشغاله بها في تلك الفترة عن أهم
أعماله الكارتغرافية، ونقصد كتابه "بحرية" الذي سيصدره عما قريب.
ولكن المستشرق الألماني ديتس يرى أمرًا آخر مهمًّا، وهو أن أطلس بيري ريس
الجغرافي – يقصد بذلك خارطته الأولى التي أصدرها في العام 1513م – ربما ساعد بعض
الشيء العثمانيين في فتح هذه الجزيرة الإستراتيجية([13]).
ومهما يكن من أمر اشتراك بيري ريس في هذه الموقعة المهمة، فقد استطاع
العثمانيون أن يُجلوا فرسان القديس يوحنا الذين هددوا أمن الناس والمراكب
الإسلامية في البحر المتوسط طيلة قرنين متتالين، ليخرجوا منها خاسئين حاسرين بعد
انتصار مهيب في شهر صفر سنة929هـ = يناير1523م([14]).
ومن ثم فقد رجعت القوات العثمانية إلى ديارها منتصرة فرحة بما منَّ الله
عليها، ويبدو أن بيري كان قد اشترك في هذه المعركة المهمة، وكان هذا الاشتراك قد
أضاف إلى رصيده الجهادي والبحري الكثير والكثير؛ فهو الآن في الخامسة والخمسين من
عمره تقريبًا، ولذلك رشحه السلطان سليمان بنفسه ليكون مستشارًا للصدر الأعظم إبراهيم
باشا المتجه إلى مصر لتنظيم أوضاعها الإدارية([15]).
وقبل اصطحاب بيري لإبراهيم باشا في رحلته إلى مصر، فإنه كان قد انتهى من
المسودة الأولى من كتابه بحرية، ومن الملاحظ أنه يحيط بتاريخ وضع المصنف غموض
شديد؛ لا يقتصر سببه في أنه وجدت للكتاب مسودتان كما اكتشف في القرن العشرين؛ بل
لأن المؤلف نفسه قد أحاطه بغموض بيّن؛ فهو يذكر أن الدافع إلى تأليف الأطلس كان
مناسبة اعتلاء السلطان سليمان للعرض عندما حاول أهل كل مهنة أن يقدموا إليه هدية
من مجال فنهم؛ لهذا فقد بدأ المؤلف عمله – كما يزعم كراتشكوفسكي – في عام 927هـ =
ديسمبر 1520م، ورفع الأطلس كاملاً إلى السلطان سليمان في سنة 930هـ = 1523م، وهي
السنة نفسها التي سيبدأ فيها بيري بتجهيز المسودة الثانية للكتاب([16]).
غير أنه يبدو من أقسام معينة في المقدمة أن محي الدين قد بدأ عمله في
الأطلس قبل ذلك بمدة طويلة أي في عهد السلطان سليم الأول وكان يريد رفعه إليه ولكن
لما وافته منيته رفعه إلى السلطان سليمان القانوني، وتشير جميع القرائن إلى أن
العمل قد سار جنبًا إلى جنب في كل من الأطلس والخارطة الأولى، وذلك بمدينة
غاليبولي التي كانت المركز الإداري للأسطول العثماني آنذاك، ووجدت بها المادة
اللازمة التي استعان بها المؤلف في شكل واسع، وإلى جانب هذا فقد كانت وراء المؤلف
تجربة عشرين أو ثلاثين عامًا من المران العملي في الشئون البحرية بحيث تردد صدى
ذلك فيما تميز به المصنف من نضج واكتمال([17]).
بدأ بيري بقيادة الأسطول المتجه إلى مصر، والحق أنه كانت هناك مجموعة من
العوامل أدت إلى ذهاب الصدر الأعظم بنفسه وبصحبته بيري إلى مصر في عام 930هـ =
1524م، فبعد وفاة خاير بك أمير أمراء مصر في عام 928هـ = 1522م اضطربت أحوال مصر
بالرغم من تعيين أمراء من قبل العثمانيين فيها؛ مثل: مصطفى باشا وقاسم باشا،
لكنهما لم يتمكنا من وقف حركات التمرد والعصيان التي قادها كل من المماليك
والعربان في مصر، وزادت الأوضاع سوءًا حينما تولى أحمد باشا – الذي كان متطلعًا
لمنصب الصدارة العظمى – أيالة مصر؛ إذ أعلن تمرده على الدولة العثمانية وخروجه
عنها؛ مستقلاً بإمرة مصر؛ الأمر الذي أدى قتله من قبل العثمانيين الموالين
للأستانة في القاهرة([18]).
ومن اللافت أن الرحلة البحرية التي توقفت في رودس نتيجة لسوء الأحوال
الجوية ووجود العواصف والأنواء([19])،
قد أدت إلى تقارب الصدر الأعظم إبراهيم باشا من بيري؛ ففي أثناء الرحلة التي كان
يقودها بيري، لاحظ إبراهيم باشا رجوع بيري في اللحظات الحرجة إلى مجموعة من
الأوراق المبعثرة - ويقصد المسودة الثانية من كتاب بحرية – وقد استطاع أن يقدر قيمته ومن ثم أشار عليه بأن يؤلف بين
هذه الأوراق على صورة كتاب كامل، فاستجاب بيري لرغبته وبدأ يعيد النظر في المتن
والخارطات حتى انتهى من المسودة في خلال عامين من ذلك، أي في عام 932هـ = 1526م([20]).
نستنتج من هذا أن بيري كان مستقرًّا حتى عام 932هـ في غاليبولي؛ إذ كانت
القاعدة التي ينطلق منها في رحلاته البحرية المختلفة، لكنه كان يعود إليها كل مرة
عقب المهام البحرية الموكلة إليه، ويذكر الأستاذ إينان أنه وجد في الوثائق الرسمية
للدولة في هذه الآونة أن بيري ترك العمل في البحر المتوسط؛ ليصبح قائدًا للأسطول
العثماني في البحار الجنوبية، ويقصد البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي([21]).
لكن الأستاذ الكندري يقرر أنه أكمل آخر مؤلفاته الكارتغرافية وهي خارطته
الثانية في عام 935هـ = 1529م، وكان إتمامه لهذا العمل في غاليبولي أيضًا، ما يعني
أن مهمته في البحار الجنوبية كانت مهمة انتقالية لم تزد على العامين أو أقل من
هذا؛ ليرجع مرة أخرى إلى مقر القيادة العامة للأسطول العثماني في غاليبولي([22]).
نُشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
([3]) صرح
بعض من أرخوا لبيري ريس بأن هذه المرحلة الأخيرة من حياته يكتنفها الغموض، ومن هؤلاء
نجد الدكتور فيصل الكندري؛ إذ يقول: "إن حياة بيري ريس لا يزال يكتنفها الغموض،
ولا نعلم كل شيء عن حياته؛ فخلال الفترة ما بين 1513- 1529م ربما يكون بيري ريس قد
شارك في حملات خير الدين بربروسا في شمال أفريقيا أو في جبهات أخرى، وظل يعمل كعنصر
هام في البحرية العثمانية. كما تختفي أخباره الدقيقة عنا من عام 1529- 1547م ليعود
إلى الظهور من جديد عندما يقود أسطولاً عثمانيًا من السويس لإعادة السيطرة العثمانية
على عدن"، وهذه النتيجة اللافتة التي توصل إليها الدكتور الكندري وهو أستاذ متخصص
في التاريخ العثماني، صحيحة بنسبة؛ لكننا نختلف معه في كثير منها؛ لأننا نملك كثيرا
من المعلومات المتعلقة بهذه الفترة من حياته، وسيظهر هذا بالدليل في هذا الفصل الذي
عنوناه بشروق وغروب. الكندري: بيري ريس ص25.
([9]) كراتشكوفسكي: تاريخ
الأدب الجغرافي العربي 2/595. يذكر الدكتور الكندري أن السلطان تكرم بقبول هذه
الخارطة في القاهرة. بينما يذكر الدكتور عفت إينان أن بيري أهدى السلطان سليم
خريطته الأولى في الإسكندرية عقب معركة الإسكندرية، ولم أستطع الوصول إلى معلومة تاريخية
أو مصدر تاريخي يقول بأن هناك معركة بحرية وقعت بين العثمانيين والمماليك في الإسكندرية؛
فلم يذكر ابن إياس وكذلك ابن زنبل الرمال أي معلومات تتعلق بما ذكره إينان؛ وعمومًا
فقد تكون مناوشات بحرية بسيطة؛ إذ القوة المملوكية البحرية في ذلك الحين كادت أن تكون
منعدمة. الكندري: السابق ص15، وعفت إينان: السابق ج1.
([11]) ذكر محمد فريد
المسوغات التي أدت بالسلطان سليمان القانوني إلى فتح هذه الجزيرة بقوله: "أخذ
السلطان في الاستعداد برًّا وبحرًا لفتح جزيرة رودس التي لم يتمكن السلطان محمد
الفاتح من فتحها لتكون حلقة اتصال بين القسطنطينية ومصر من جهة البحر؛ ولكي لا
يكون للمسيحيين مركز حصين في وسط بلاده تلجأ إليه عمارات الدول المعادية للدولة
وقت الحرب"، ولا شك أن هذه الأسباب كافية جدًّا لتعجيل السلطان بفتح هذه
الجزيرة في بداية سلطنته. محمد فريد: السابق ص203.
([12]) إينان: السابق
ج1. لم يُشر عبد الرحيم العباسي في كتابه المهم "منح رب البرية في فتح رودس
الأبية" اشتراك بيري ريس في هذه الحملة، لكنه كذلك لم يُشر إلى قادة الألوية
البحرية الآخرين؛ إذ صبّ جل اهتمامه في تأريخ هذه الواقعة لتحركات السلطان
والأعمال الحربية والبرية لقادة الإنكشارية والطوبجية وغيرهم. انظر: عبد الرحيم
العباسي: منح رب البرية ص60 وما بعدها.
([19]) تحرك الوزير
الأعظم إبراهيم باشا في أول ذي الحجة سنة 930هـ/30 سبتمبر 1524م من اسطنبول
متوجهًا إلى مصر على رأس قوة عسكرية، وهيئة إدارية، تشكلت من خمسمائة فرد من جنود
الإنكشارية، ودفتردار الرومللي اسكندر جلبي، وأغا عسكر السباهية خير الدين أغا،
ورئيس الجاويشية صوفي أوغلي محمد على رأس ثلاثين جاوش، وكاتب الديوان الأول جلال
زاده مصطفى جلبي، وبعض كتبة الخزينة الآخرين، وغيرهم من أعضاء هيئة الديوان
الهمايوني المقرر خروجهم في صحبة الوزير الأعظم حسب الأعراف العثمانية المعمول
بها؛ فضلاً عن المستشار الشخصي للصدر الأعظم بيري ريس. سيد محمد السيد: مصر في
العصر العثماني في القرن السادس عشر ص126.
توجد في بداية هذا المقال عبارات يمكن أن تفهم بشكل خاطئ، لأن محي الدين ابن الريس (بيري ريس) لم يتعلم علم رسم الخرائط من الأوربيين، بدليل أن خرائطه التي رسمها في مطلع القرن السادس عشر أفضل بكثير من جميع الخرائط التي رسمها الأوربيون في القرن السادس عشر. و تتميز خرائط بيري ريس بالدقة و الجودة التي تدل على موهبة عظيمة، و على علم عظيم. و علم رسم الخرائط يحتاج إلى العلم بالرياضيات (خاصة حساب المثلثات الكروية) و بعلم الفلك. و من الواضح أن ابن الريس كان على علم كبير بعلوم لم تكن معروفة في أوربا في ذلك الوقت. لكن ابن الريس كان يحتاج إلى معلومات عن مناطق جغرافية وصلت إليها سفن الأسبان و البرتغاليين، و استطاع أن يحصل على تلك المعلومات من خرائط بدائية كانت على سفن أسبانية و برتغالية، استطاع أن يأسر بحارتها و يستولي عليها. و هذا كلام يحتاج إلى تفصيل: أولا قال ابن الريس أنه اعتمد على عشرين خريطة بعضها خرائط عربية إسلامية و بعضها من الأسبان و البرتغاليين و إحداها من أيام الإسكندر الأكبر. ثانيا علم المثلثات الكرية (حساب المثلثات الكروية) ابتكره علماء الحضارة الإسلامية في القرن العاشر الميلادي و ليس غريبا أن يكون بيري ريس على علم كبير به. ثالثا لقد ولد كريستوفر كولومبوس عام 1451م في مدينة جنوة، و ولد محي الدين بن الريس حوالي 1465م، و في عام 1492م وصل كولومبوس إلى جزر قريبة جدا من سواحل أمريكا، و في السنوات التالية وصل إلى ساحل أمريكا، لكنه لم يدرك أنه اكتشف قارة جديدة، و إنما كان يعتقد أنه وصل إلى الهند، لكن المستكشف الإيطالي أميرجو فيسبوتشي المولود حوالي 1454م عرف أنها قارة جديدة. أما محي الدين بن الريس القائد البحري العظيم، فلقد قام برسم خرائطه المشهورة عام 1513م، و فيها تظهر معظم أمريكا الشمالية و أمريكا الجنوبية بوضوح شديد كقارتين مستقلتين عن قارة آسيا، و تظهر السواحل الشرقية للأمريكتين بوضوح، كما تظهر تفاصيل مهمة، كانت مجهولة تماما للأوربيين في ذلك الوقت. و لكن محي الدين ابن الريس لم ينسب ذلك الاكتشاف إلى نفسه و إنما قال أنه اعتمد على خرائط رسمها آخرون، و قال" ﻳُﻮﺟﺪ ﻛﺎﻓِﺮ ﻣﻦ ﺟﻨﻮﺓ ﺍسمه ﻛﻮﻟﻮنبو ﻫﻮ ﻣﻦ ﺍﻛﺘﺸﻒ جزر أنتيليا و ﻳﻮﺟﺪ ﻛﺘﺎﺏ ﺳﻘﻂ في ﺃﻳﺪﻯ ﻛﻮلونبو ﻣﺬﻛﻮﺭ ﻓﻴﻪ ﺃﻥ في ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻐﺮﰉ (ﺍﻷﻃﻠﺴﻰ ) ﻭﻋﻠﻰ ﺟﺎﻧﺒﻪ ﺍﻟﻐﺮبي توجد ﻫﻨﺎﻙ ﺳﻮﺍﺣﻞ ﻭﺟﺰﺭ ﻭﻛﻞ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﳌﻌﺎﺩﻥ و الأﺣﺠﺎﺭ ﺍﻟﻜﺮﳝﺔ ﺃﻳﻀًا. و ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺩﺭﺱ كولونبو ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻛﻠﻴًّا ، ...، ذهب إلى ملك أسبانيا." و خلاصة كلام محي الدين بن الريس أن كريستوفر كولومبوس عثر على كتاب يؤكد وجود قارة أمريكا، لكن يبدو أن كولومبوس لم يفهم و توهم أنها سواحل الهند، و نستطيع أن نستنتج أن هذا الكتاب ألفه مكتشفون مسلمون سبقوا إلى اكتشاف أمريكا، و الأهم من ذلك أن عددا كبيرا من بحارة حملات كولومبوس (حوالي الثلث) كانوا مسلمين تم تنصيرهم بالإكراه و كانوا علماء في رسم الخرائط، أي أن الخرائط التي حصل عليها ابن الريس كانت على الأرجح مرسومة بواسطة بحارة (ملاحين) مسلمين، بعضهم سبق كولومبوس إلى أمريكا، و بعضهم رافق كولومبوس. كما ذكر ابن الريس أنه اعتمد على خريطة قديمة جدا من زمن الاسكندر الأكبر. و تؤكد خرائط ابن الريس أن المسلمين كانت لديهم معلومات دقيقة عن أمريكا قبل أن يكتشفها الأوربيون.
ردحذفأزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفلكن بعض الكتاب الأجانب اعتنقوا نظرية تقول أن المسلمين لم يكتشفوا أمريكا بأنفسهم، و أن ابن الريس كان مجرد قرصان اعتمد على خرائط من حضارات متقدمة جدا قبل طوفان نوح ( حضارات لا يعترف بها التاريخ الرسمي الأكاديمي) أو أنه اعتمد على خرائط من كائنات من كواكب أخرى ( من الفضاء الخارجي)، واستدلوا على ذلك بأكذوبة أن خرائط ابن الريس فيها تفاصيل من المستحيل أن يعرفها إنسان إلا بواسطة التصوير من قمر اصطناعي أو من مركبة فضائية. و كانت أهم ادعائتهم أن ابن الريس رسم القارة الجنوبية القطبية بدقة شديدة، لكن هذه أكذوبة، لأن ابن الريس أخطأ خطأ كبيرا لأنه رسم القارة القطبية الجنوبية متصلة بقارة أمريكا الجنوبية. و الحقيقة أن القارة القطبية الجنوبية منفصلة تماما عن أمريكا الجنوبية ( يفصل بينهما ممر بحري عرضه 800 كيلومتر تم اكتشافه في القرن السادس عشر )، كما أن خريطة ابن الريس للأمريكتين ليست أدق من خرائط القرنين التاسع عشر و العشرين (قبل اختراع الأقمار الصناعية). و الحقيقة هي أن خرائط ابن الريس بقيت 300 سنة بلا منافس ( من بداية القرن السادس عشر حتى بداية القرن التاسع عشر) لكن بعد ذلك رسمت خرائط أدق منها. و لا مانع أن تكون بعض الحضارات البائدة غير المعروفة قد تركت خرائط دقيقة جدا، لكن لو كانت تلك الخرائط مع ابن الريس لما أخطأ في رسم القارة القطبية الجنوبية. و تدل خريطة ابن الريس كذلك على تقدم عظيم في علم رسم الخرائط الذي يتطلب علما كبيرا بعلم الرياضيات و علم الفلك و هذا كان موجودا في الحضارة الإسلامية . و تبقى الحقيقة المؤسفة و هي أن ابن الريس قد حوكم بتهمة الخيانة العظمى و أعدم بقطع الرأس بعد أن تجاوز الثمانين، بأوامر السلطان سليمان القانوني الذي اشتهر بتطبيق القانون بقسوة شديدة. و كان ابن الريس بريئا من التهمة، لكن الدولة العثمانية كانت قد بدأت في سوء الإدارة و التدهور. و يمكنك قراءة حقيقة إعدامه في الملف على الرابط http://books.islamway.net/1/sea.pdf
ردحذف