في السيمنار الذي عُقد بجامعة جنيف في خريف سنة 1999م
اتفق الحاضرون على ضرورة دراسة العولمة من الوجهة العملية لها، وهي ميزة قلما قام
باحثون جادون بها، إذ انصبت معظم دراسات العولمة على نقد/إضافة أفكار
"نظرية" جديدة في هذا المسار، وقد كان موضوع النتائج منصبًا على دراسة
قطاعات الدولة المختلفة في إطار العولمة وتحدياتها.
ما يهمنا في هذه الدراسة التي نشرها المركز القومي
للترجمة في مصر لاحقًا تحت عنوان "دول وعولمة .. استراتيجيات وأدوار" في
العام 2007 أن الدراسة تناولت فكرة "الحكم الرشيد/الصالح" من منظور
العولمة الرامي إلى إعادة تعريف دور الدولة ومؤسساتها وفقًا لخدمة مصالح العولمة
الاقتصادية في المقام الأول؛ والحق أن مفهوم الحكم الصالح لا يوحي بمدلول واحد –
كما تبين الدراسة – وإنما بصفة عامة يصف العمليات والمناهج التي من خلالها يسعى
عدد من الفاعلين المختلفين؛ مثل المؤسسات السياسية والخاصة والمجتمع المدني ونشطاء
السوق إلى حل المشكلات التي تتمخّض عن مواجهة المصالح المتعارضة.
وهذا يعني أن الصبغة الشخصية والوطنية تسعى العولمة بصورة
دائمة إلى نزعها، بل إلى تفريغ العالم من فاعلية الاجتماعيين وأجبرته كدول وأنظمة
على التفكير كمؤسسات ذات مسئولية محددة، واستخدم الشرطي، شُرطي العولمة سلاحه
الفتاك عن طريق وسائل الإعلام لتنميط رأي الناس، والدفع بالأكاذيب باسم الحرية.
***
كان لابد من الاستهلال بهذه المقدمة للاعتماد عليها في
تفسير ما يحدث في مصر، الأمر ببساطة بالإضافة إلى التصارع الأيديولوجي العقدي و
السياسي، يتضمّن بصورة واسعة صراع المصالح.
الإشكالية أن الفاعلين الاجتماعيين في مصر، أو ما سموا
طويلاً بالهامش/الناس، أصبح لهم بعد ثورة يناير دور أساسي في إعادة تشكيل السياسة
العامة للمجال المحلي، وأصرّ هذا الهامش بعد طول معاناة مع الدولة الحديثة وزيفها
أن يصدّر الإسلاميين بالنيابة عنه للدفاع عن حقوقه التي اغتصبت طويلاً.
إذا كانت القوى الثلاث التي تحرّك أي مجتمع هي قوة
السلاح وقوة المال وقوة الإرادة الشعبية، فإن قوة الإرادة الشعبية تغلب قوة السلاح
والمال إن ظلت يقظة لا يؤثّر فيها تنميط الإعلام الموجّه لخدمة العلمانية
وأسيادها، لكن سرعان ما تغلب قوة السلاح وممثلوها إن لم ترض بالشرعية الجديدة
بديلاً، خاصة إذا خفت دور الهامش الذي لا تظهر فاعليته السياسية في مسار التاريخ
إلا قليلا، وهنا تلجأ القوة المالية إلى الأقوى بطبيعة الحال.
الليبراليون واليساريون في مصر يشكلون بوتقة خصبة لقوى
المال والسلاح، قوى المال من الفلول وأصحاب المصالح الفاسدة المسيطرون على جزء
واسع من الاقتصاد فضلاً عن الإعلام كله تقريبًا، والسلاح من العسكر الذي قد يرى في
وصول مشروع إسلامي يضاد في أعماقه منطق العلمانية والدولة الحديثة ورؤيته البديلة
لطبيعة العقيدة الفكرية للجيش.
إذا غاب أهم فاعل يقصم ظهر العلمانية أو غيّب وهو الشعب
الغارق مع مشكلاته الخدمية والحاجية، فتصارع الإسلاميين العاقدين العزم على ألا
يرجعوا مرة أخرى إلى المعتقلات وتمثيل دور ردة الفعل، والجيش المسيطر الوحيد على
السلاح، وأصحاب المصالح الفاسدة من رجالات العهد البائد المتسرولين بسروال
العلمانية واليسارية أمر وارد بلا شك.
لقد أثبت منطق التوافق فشله في أوقات المفاصلة، بل أثبت
أن الحسم في تصفية مصالح النظام البائد، وإعادة صياغة بنية الدولة المصرية بعد
الثورة خاصة الجهاز الأمني والإعلامي والقضائي أمرٌ غُيّب بقصد ممن فهموا معادلة
الواقع بصورة عبثية خاطئة وهم الإسلاميون بطبيعة الحال.
لكن فهم الإسلاميون اللعبة بعد أن كشف الجميع وجهه
الصريح، وسرعان ما قام تحالف بينهم وبين بعضهم، لمواجهة قوى المال الخادم المطيع
لأهداف العلمانية بطبيعة الحال.
نحن الآن أمام عدة سيناريوهات إذا تأزم الوضع الحالي:
1-
سيناريو الثورة الرومانية الفاشلة وجمهوريات الموز ممن ذاقوا ويلات
الانقلابات العسكرية، وهو انقلاب قد يساعد عليه التصعيد المادي الواضح من الفريق
العلماني وهذا مستبعد.
2-
سيناريو الجزائر والدخول في فوضى دامية تنزع الإسلاميين من الحكم وهذا
مستبعد لطبيعة الجيش والمجتمع المصري ورسوخ قدم الإسلاميين في مصر.
3-
سيناريو باكستان الرامي إلى اتفاق
بين الإسلاميين والجيش والقضاء على عبث العلمانيين وممارساتهم التصعيدية وهذا قريب
يؤيده مشروع الدستور.
4-
سيناريو ثورة إسلامية على المسار الإيراني لن ترضى لا بالحكم العسكري أو
الحكم العلماني إذا اتفق هذان الطرفان على إقصاء الإسلاميين وهذا وارد بطبيعة
الحال.
***
إن مصالح العلمانية لن ترضى بالفوضى في مصر، وهي تسعى –
كما يسعى الإسلاميون الثوريون – إلى الحسم، والحسم له خيارات أقواها التفاهم مع
الإخوان المسلمين باعتبار أن الرئيس منهم، في ظل اطمئنان العسكري على وضعه في
الدستور الجديد.
لكن كما عودنا الأمريكان دائمًا فهم مع كل الأطراف، وضد
كل الأطراف في ذات الوقت، وميلهم في نهاية المطاف إلى من سيؤمن المصالح العلمانية
باعتبارها نسقًا عامًا يجعل الدولة الوطنية دائرة في فلك العلمانية بطبيعة الحال،
أما إذا شعرت العلمانية أن مصر تتجه لأسلمة الدولة، وإعادة صياغة بنيتها من جديد،
فهي لن ترضى إلا بحسم من نوع آخر .. المعركة ستطول، ويبدو أن مصر في إطار المحيط
الإقليمي وفي دول الثورات العربية بل
والدول المحيطة بمصر ذاتها يتجه على المدى البعيد إلى:
1- تصالح التيار الإسلامي مع الدولة الحديثة وعلى رأسها حاميها
الأمين العسكر لفترة ما.
2- فشل الإسلاميون "الوسطيون/المعتدلون" في
عملية أسلمة الدولة وهو ما يؤدي إلى خلاف فكري/ سياسي مع الإسلاميين الأصوليين.
3- سيطرة الجبهات "الإسلامية التجديدية"
بمعناها الأصولي على المشهد العام جراء تنافس سياسي أو بسبب خلاف مع
"الإسلاميين المعتدلين"، والبدء في عملية تفكيك أو إعادة صياغة بنية
الدولة الحديثة وفق الرؤية المجردة للإسلام.
يبدو
أن مصر تتخلّص في هذه اللحظات من الحركات والفصائل "العلمانية" دون
التخلّص من العلمانية ذاتها التي سيكون الجيش على رأس الراعين لمصالحها فيما يبدو،
وهي حركات ثبت فشلها في طوال تاريخها الحديث سواء في التفاعل مع الجماهير، أو حتى
في احترام إرادتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق