تناولنا في المقال السابق "أول وثيقة للعيش المشترك في التاريخ (1)" دراسة المبادئ الأولية التي تناولتها وثيقة المدينة المنورة، ورأينا أنها أول وثيقة من نوعها تقرّ مبدأ المواطنة والمساواة، وفي هذا المقال نستكمل حديثنا عن بقية البنود والمبادئ.
لقد
حدَّدت الوثيقة طبيعة الشعب الذي يحمل جنسية المدينة المنورة؛ فهو شعب مكوَّن من
أصحاب الانتماء العقدي كالمسلمين واليهود، وأصحاب الانتماء العرقي كالأوس والخزرج
والمهاجرين، وأصحاب الانتماء القومي وهم أهل المدينة جميعهم، وأصحاب الانتماء
الجغرافي ونقصد الحجازيين المدنيين ومواليهم وأحلافهم داخل الرقعة الجغرافية التي
حدَّدها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي يثرب: ما بين الحرَّتين (الشرقية
والغربية) وما بين الجبلين (عير وثور)، وهذا التنوُّع أقرَّه النبي - صلى الله
عليه وسلم -، وعَمِل بمقتضاه بعبقرية لافتة، ونجحت هذه التنوُّعات في تكوين مجتمع
متجانس[1].
وكما ضمنت الوثيقة لجميع الموقِّعين عليها الحرية في
الاعتقاد والأفعال والأقوال، فإنها راعت ما قد يترتَّب على هذه الحرية من أمور
سلبية توجب العقاب والمحاسبة، وكان الضابط في إنزال العقوبة على الجاني ملتزمًا
بمبادئ العدل والقسط؛ فالعدل هو الخُلق الأساسي الذي تضمنته الوثيقة في أكثر من موضع
منها؛ حرصًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترسيخه في المجتمع الجديد، لا
فرق في ذلك بين المؤمنين أو غيرهم، وأكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - على
المسئولية الفردية لا الجماعية إلاَّ إذا دعت الضرورة والواقعة لذلك، ففي البند
رقم (14) يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمنين المتقين أيديهم
على كل مَنْ بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثمًا أو عدوانًا أو فسادًا بين
المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم". والأمر ذاته بالنسبة
لليهود كما في الفقرة الثانية من البند رقم (27)؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم -:
"يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم
وأنفسهم، إلاَّ مَنْ ظلم نفسه وأثم فإنه لا يُوتغ إلاَّ نفسه وأهل بيته".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البند رقم (33): "إن ليهود بني ثعلبة مثل ما
ليهود بني عوف، إلاَّ مَنْ ظلم وأثم، فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البندين رقم (43)، (44) للتدليل على المسئولية
الفردية، والعدل المتوخَّى من وراء ذلك: "إنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر
للمظلوم". وهكذا يُرَسِّخ النبي - صلى الله عليه وسلم - العدل -وهو خُلق
إنساني أساسي- كأساس للعيش المشترك، وكضمانة وصمام للأمان لاستمرارية هذا العيش.
ونجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُمَانع من أن
ينصَّ في الوثيقة على معاملة اليهود المحالفين للمسلمين بالمعروف والعدل، وعدم
التحريض عليهم وإيذائهم، فهذا يُعَبِّر عن ثبات القيم الأخلاقية في السياسة
الإسلامية، وإنها لا تعرف الكيل بمكيالين، وهو ما يُقَرِّره النبي - صلى الله عليه
وسلم - في البند رقم (17) بقوله: "إنه مَنْ تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة
غير مظلومين ولا متناصر عليهم". ولا شكَّ أن مثل هذه التصرفات الراقية
لتُعِينُ بكل قوَّة على إيجاد عيش مشترك يحيا الجميع في ظلاله بأمان وهدوء.
وقد حرصت الوثيقة على أمر في غاية الأهمية، ووسيلة لا
ريب في أثرها الكبير في التقارب والتعارف، ونقصد بذلك المساواة، فلا يمكن تحقيق
عيش هانئ وادع إلاَّ بتحقيق المساواة بين الناس، دون الإخلال بالمميزات الخاصة،
والفروق الفردية التي وُهبت لكل منهم، وهذا عدل في التعامل مع كافَّة الطوائف،
وهكذا نجدُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في البند رقم (16): "إن ذمة
الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس".
وقوله في البند رقم (20): "إن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في
سبيل الله".
كما أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوثيقة على
أن الملكية مكفولة ومحترمة للجميع؛ فهي من المشتركات العامَّة -كما بيَّنَّا في
النظرية- ولا يجوز الاعتداء عليها أو التصرُّف فيها إلاَّ بعد إذن أصحابها
والقائمين عليها؛ إذ إنها فطرة إنسانية مترسِّخَة في الوجدان، وصبغة يتمايز بها
أفراد المجتمع عن بعضهم، والحقُّ أنه لا يخلو مجتمع من هذه الملكيات الخاصة، بل
يمكن القول: إن الملكيات الخاصة قد سبقت إقامة المجتمعات الإنسانية المنظمة؛ ولذلك
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في البند رقم (48): "إنه لا تُجَار حرمة
إلاَّ بإذن أهلها". حرصًا منه على أن احترام هذه الحُرُم، مما يزيد فرص
التعايش والتوافق بين الناس جميعًا.
ثم كانت هناك آلية ووسيلة في غاية الأهمية حرص النبي -
صلى الله عليه وسلم - على إبرازها وكتابتها وتوضيحها والسعي إلى تطبيقها، حتى
يتسنَّى استكمال عملية التعارف والتعايش المنوطة بتلك الوثيقة، ونقصد حلَّ جميع
المشاكل العالقة بين المتعاونين الجدد -أعداء الأمس- والتي يأتي على رأسها دفع
ديات القتلى (وهي عميلة التعاقل)، وفكُّ الأسارى (افتداء العاني)، ولا شكَّ أن
لهذه المبادرة الإنسانية الأثر العظيم في إمكانية البدء والتلاقي على صفحة بيضاء
ناصعة، يُمْحَى فيها التاريخ المشترك الأسود بكل سهولة ويُسر، لا فرق في ذلك بين
المهاجرين والأنصار، ونجد هذا التحليل في البنود من (3) كما في قوله - صلى الله
عليه وسلم -: "المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون
عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين". إلى البند رقم (11) وهو قوله:
"وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها
بالمعروف والقسط بين المؤمنين". وقد ذُكر الشرط عينه على بني عوف وبني الحارث
بن الخزرج، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت،
فضلاً عن المهاجرين من قريش وبني الأوس.
وقد قُيِّد ضمان تحقيق هذا الشرط بخُلق أساسي يتعارفه
الجميع ويُقِرُّونه وهو العدل والقسط المبتغى من وراء الشرط، ولعلَّ ذكاء النبي -
صلى الله عليه وسلم - يتَّضح بجلاء في هذه البنود (من 3 إلى 11)؛ فالقضية المراد
الانتهاء منها نهائيًّا تتمثَّل في التصارع القبلي والتاريخ السيئ بين قبائل الأوس
والخزرج، فضلاً عن بطونهما ومواليهما وحلفائهما، فلقد اشتهرت بينهم أيام (حروب
طاحنة) قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم: كيوم بعاث وسُمير وغيرها من
الأيام التي تناحروا وتقاتلوا فيها؛ ولذلك فضمانة لتحقيق مبدأ السلم والعيش
المشترك كان من الطبيعي أن تزول أذيال الماضي ومآسيه من خلال حلول عملية تُرضي
جميع الأطراف، وكان ذلك من خلال عملية اجتماعية تُعَدُّ من عادات وتقاليد العرب في
جاهليتهم ثم إسلامهم، تمثَّلت في العقل وفداء الأسارى، ويمكن أن يُقاس على هذا
الأمر أن كل حلٍّ اجتماعي أو بالأحرى كل عادة أو تقليد يُؤَدِّي إلى التصالح والتعايش
بين المتخاصمين لا بُدَّ من الأخذ به، والاعتماد عليه؛ وبذلك لم يتجاهل النبي -
صلى الله عليه وسلم - عادات وتقاليد المدينة، بل استثمرها فيما يُؤَدِّي إلى
التعارف والتعايش.
ونلحظ كذلك أن الوثيقة قد رسَّخت مبدأً أخلاقيًّا كان لا
بُدَّ منه في تقعيد التعايش المشترك، ونقصد بهذا الخُلق السامي: التكافل؛ فالتكافل
يضمن وجود الحبِّ المترتِّب على التعارف الذي أكَّدته الوثيقة النبوية وسعت إلى
تحقيقه؛ ففضلاً عن التعاقل وفداء الأسرى كما مَرَّ بنا، نجد النبي - صلى الله عليه
وسلم - في البند رقم (12) يُقَرِّرَ أن "المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم
أن يُعطوه بالمعروف من فداء أو عقل". والمُفْرَح هو المثقل بالديون، وهذا
الجانب الأخلاقي المشار إليه لا يجب بحال أن ننحيه جانبًا عند بحثنا عن القيم
المشتركة، التي تجمع بين الشعوب وتؤلِّف بينها، فكم من الدول الفقيرة في عالمنا اليوم
ينظر إليها الأغنياء والأقوياء على أنها مناطق وبائية يجب استئصالها والتخلُّص
منها؟! وإن هؤلاء لو استعاضوا بهذه الأفكار المشوَّهة الجانبَ الأخلاقي الذي يدعو
إلى التكافل ورفع الإصر عن المعوز لكان خيرًا لهم، ولَزالت البغضاء والشحناء من
قلوب الفقراء تجاههم.
ومما يلفت النظر أيضًا أن البنود من (3 إلى 11) قد جاءت
مُبقية للتشكيل القبلي كما هو، وكذلك البنود من (27 إلى 40)، وهذه الأخيرة إنما
تناولت اليهود وتعاملت معهم وفقًا لارتباطاتهم القبلية لا الفردية، وهذا دليل على
أن غاية التعارف والتعايش المشترك قد أبقت التكوين الاجتماعي كما هو؛ فنظام
القبيلة والعشيرة لم يكن شرًّا، ويُستفاد من هذا أن التعارف والوسائل المفضية إليه
لا يجب أن تهدم التنوُّعات الاجتماعية أو الثقافية للأمم والشعوب، بل تُبقيها كما
هي؛ ما دامت لا تُؤَسِّس للصدام والتحارب.
نُشر في موقع الحملة العالمية لمقاومة العدوان
[1] حدَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - حُرم المدينة
الأربعة في أكثر من حديث؛ منها ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا بَيْنَ
لابَتَيْهَا حَرَامٌ". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَدِينَةُ
حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ .. ". البخاري: كتاب أبواب فضائل
المدينة، باب لابتي المدينة (1774)، ومسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة (1370).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق