الأحد، 2 نوفمبر 2014

لماذا سقطت بغداد العباسية؟ (1)

ولد المستعصم بالله عبد الله بن المنصور المستنصر بالله بن الظاهر بالله في بغداد سنة 609هـ، وبويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه في جمادى الآخرة سنة 640هـ وله من العمر واحد وثلاثون سنة، وكانت هذه البيعة على رغبة من كبار رجال الدولة وهواهم دونما سواهم!
أخلاق سامقة!
لقد نشأ المستعصم بالله كوالده المستنصر وجده الظاهر حافظًا لكتاب الله، متعلمًا على كبار أشياخ عصره في العلوم الشرعية واللغوية والنقلية بصورة عامة؛ وقد أُقيم له احتفال مهيب لما ختم القرآن الكريم وهو في سن الحادية والعشرين من عمره.
أُثر عن المستعصم حسن الخلق، وسلامة الصدر، وطيب المشرب؛ فقد "كان كريما، حليما، دينا، سليم الباطن، حسن الهيئة"[1].
وهذه الأخلاق الطيبة يؤكدها جل المؤرخين بمن فيهم القريب من الاتجاه الشيعي كابن الطقطقى الذي يقول: "كان المستعصم رجلاً خيراً متديناً لين الجانب سهل العريكة عفيف اللسان، حمل كتاب الله تعالى، وكتب خطاً مليحاً، وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة"[2].
إن هذه التربية الراقية التي شبّ عليها المستعصم لم يكن يعضدها أهم صفات التخلق بالإمارة والزعامة وهي الهمة والذكاء والحنكة والقدرة على الخلافة وتكاليفها، ولذلك انصب اهتمام رجال الدولة على اختياره دون غيره؛ قال اليونيني: "كان للمستنصر بالله أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول: إن ملكني الله تعالى أمر الأمة لأعبرن بالعساكر نهر جيحون وأنتزع البلاد من يد التتر وأفنيهم قتلاً واسراً وسبياً؛ فلما توفى المستنصر بالله لم ير الدوادار والشرابي وكانا غالبين على الأمر ولا بقية أرباب الدولة تقليده الخلافة خوفاً منه ولما يعلمون منه استقلاله بالأمر واستبداده بالتدبير دونهم وآثروا أن يليها المستعصم بالله لما يعلمون من لينه وانقياده ليكون الأمر إليهم فاتفق رأي أرباب الدولة على تقليد المستعصم بالله الخلافة بعد أبيه فتقلدها واستبدوا بالتدبير"[3].
والمتأمل في خلافة المستنصر يجدها مثالية إلى درجة كبيرة فقد اهتم بالبناء والتشييد والتقرب من الرعية ومجاهدة التتار والعلاقات الخارجية الممتازة وحرصه إلى حد ما أن يعلم ابنه المستعصم تربية جيدة تجعله على درجة مقبولة لتولي أعباء الخلافة.
عهد لمن لا يستحق!
لكن من الملاحظ أن جل المصادر التاريخية لم تذكر أن المستنصر قد عهد لولده عبد الله المستعصم بالعهد ليكون خليفة من بعده؛ وحتى اللحظة الأخيرة من حياته لم نجده يميل إلى هذا؛ ولعل هذا الفعل أو بالأحرى الاطمئنان وعدم التسرع قد يُرجح رواية المقريزي التي يؤكد فيها أن المستنصر مات إثر فصده بمبضع مسموم[4]؛ ما يعني أن الوفاة أو القتل كان مفاجأة؛ وقد لا يُستبعد من هذه الجريمة أرباب الدولة وكبارها كإقبال الشرابي والدوادار وابن العلقمي استاذ دار الخلافة آنئذ!
يبدو أن عملية قتل المستنصر كان الهدف من ورائها إقصاء أخيه الخفاجي الذي أُثر عنه القوة والحنكة والمهارات المطلوبة لتقلد الخلافة في ظل الظروف العصيبة التي كانت تمر بها الأمة؛ وعلى رأسها التحدي المغولي الذي كان على احتكاك وصراع مباشر بالخلافة العباسية بعد القضاء على الدولة الخوارزمية – حاجز الفصل بينهما – منذ مقتل جلال الدين منكوبرتي سنة 628هـ.
واللافت أن المؤرخ العصامي (ت1111هـ) يذكر أن الخفاجي هذا أخو المستعصم وليس عمه[5]، ولم أجد من المصادر الأخرى ما يؤيد هذا؛ اللهم إلا ما ذكر الإربلي وابن الفوطي – كدأبه في ذكر أولاد الخلفاء العباسيين – من أن المستنصر لم يكن له إلا ولدان هما عبد الله المستعصم أبو القاسم وأن إشارات المؤرخين التي تشير على سبيل الحصر أن للمستنصر أخ واحد يقال له الخفاجي غير صحيحة؛ لأنه كان له ستة إخوة ذكور غيره ذكرهم الإربلي في خلاصة الذهب هم "أبو عبد الله العباس وأبو الفضل سُليمان وأبو القاسم علي وأبو المظفر الحسن وأبو هاشم يوسف وأبو الفتوح حبيب"[6] كلهم أبناء الخليفة الظاهر (ت623هـ)، ولا تنطبق إشارة الحصر التي تفهم على سبيل العموم من كلام المؤرخين إلا على عبد العزيز الأخ الوحيد للخليفة المستعصم وقد يكون هو الخفاجي الذي أشار إليه العصامي، وقد لا يكون عمه فعلا؛ فقد كان من الطبيعي أن تئول الخلافة لأحد الولدين في ظل وجود الإخوة؛ فاختار أرباب الدولة المستعصم عبد الله على عبد العزيز "الخفاجي"؛ كل هذا على سبيل الاحتمال.
قال العصامي: "كان للمستنصر ابنان: أحدهما يسمى بالخفاجي، كان شديد الرأس، شديد الرأي، شجاعاً صعب المراس، والثاني هذا المستعصم، وكان هيناً ليناً، ضعيف الرأي، فاختاره الأمير شرابي على أخيه الخفاجي؛ ليستبدّ هو بالأمر، ويستقل بأحوال الملك؛ فإنه لا يخشاه كما يخشى من أخيه الخفاجي. فلما توفي المستنصر أخفى الأمير إقبال موته نحواً من عشرين يوماً، حتى دبر الولاية للمستعصم، وبويع له بالخلافة، ففر أخوه الخفاجي إلى العربان وتلاشى أمره"[7]. وإن كان الأمر ليس على سبيل اليقين كما بيّنا؛ وكما أكدت على ذلك مصادر تاريخية جمة[8].
ومن الملاحظ أيضًا أن الأسرة العباسية وعلى رأسها إخوة المستنصر بالله وأحد أعمامه الباقين لم يبايعوا المستعصم بالله وهذا ما ذكره الإربلي بقوله: "استدعي أحد أعمامه وهو أبو الفتوح حبيب وأُوهم أن جماعة إخوته حضروا وبايعوه فلما حضر لم يرهم فبايع وعاد إلى داره بالفردوس ثم طُلب الباقون للمبايعة فامتنعوا ... وأما أعمامه وكذا عم أبيه الممتنعون من الحضور والمبايعة فأُشير باستدامة غلق باب الفردوس الذي يحتوي على دورهم بحيث لا يدخل إليهم طعام ولا غيره فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، فسألوا المبايعة وأُحضروا فبايعوا"[9].
وهذا النص الذي ذكره الإربلي في غاية الأهمية إذ يبين لنا أن المستعصم لم يكن مرغوبًا فيه من الأسرة العباسية ذاتها لوهنه وضعفه أو لأنه لم يكن الابن الأكبر للمستنصر؛ ومن ثم لعل الأخ الآخر عبد العزيز كان هو الأكبر والموسوم بالخفاجي!
وأيًا ما كان هذا الخفاجي – الذي لم أستطع الوصول إلى ترجمته – سواء أكان أخًا للمستعصم أم عمه؛ فقد أُزيح عن الخلافة وهرب إلى عرب العراق الذين أووه وظل مختفيًا بينهم حتى اجتياح المغول لبغداد سنة 656هـ.
وقد لخص مشهدَ وفاة المستنصر والبيعة للمستعصم الذهبيُ في "تاريخ الإسلام" بقوله: "كتم يومئذٍ (العاشر من جمادى الآخرة سنة 640هـ) موت المستنصر فخطبوا له يومئذٍ، فحضر شرف الدين إقبال الشرابي ومعه جمعٌ من الخدم إلى التاج الشريف، وحضروا بين يدي ولده أبي أحمد عبد الله، فسلم عليه إقبال بإمرة المؤمنين، واستدعاه إلى سدة الخلافة، ثم عرف الوزير، وأستاذ الدار ذلك، واستكتماه إلى الليل. ثم استُدعي الوزير وهو عاجزٌ في محفةٍ، وأحضر أيضاً مؤيد الدين محمد ابن العلقمي أستاذ دار الخلافة، فمثلا بين يدي السّدة فقبّلا الأرض وهناه بالخلافة، وعزياه بالمستنصر وبايعاه. وأحضر جماعة من الأسرة الشريفة من أعمامه وأولاد الخلفاء، ثم خرج الوزير وسلم إلى الزعماء والولاة محال بغداد، وأمر أن لا يركب أحد من الأمراء من داره. وفي بكرة السبت رأى الناس أبواب الخلافة مغلقةً، وجلس عبد اللطيف بن عبد الوهاب الواعظ وأخبر بوفاة الخليفة وجلوس ولده المستعصم بالله ثم لما ارتفع النهار، استدعي الأعيان للبيعة وجلس الوزير لعجزه، ودونه بمرقاة[10] أستاذ الدار، وكان يأخذ البيعة على الناس، وصورتها: أبايع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيه الشريف وأن لا خليفة للمسلمين سواه. فبايع الناس على درجاتهم. ثم أُسبلت الستارة وبايع من الغد الأمراء الصغار والمماليك الميامين، ثم بايع في اليوم الثالث من تبقى من الأمراء التجار وبياض الناس. ثم جلس الملأ للعزاء بالمستنصر ثم أنشد الشعراء وعزوا بالمستنصر، وهنأوا بالمستعصم. ثم برزت مطالعةٌ على يد إقبالٍ الشرابي في كيسٍ، وبسمل الخدم بين يديها، فقرأها الوزير، ثم قرأها أستاذ الدار على الناس قائماً خلاصتها التأسي والتسلي والوعد بالعدل والإحسان"[11].
فلا يشك متتبع لسير هذه الطريقة في إخفاء وفاة المستنصر ومبايعة المستعصم بهذه السرية والهيئة، أنه إنما أُريد تولية هذا الضعيف لضعفه ووهنه.
لقد كانت هذه البداية غير مبشرة للخلافة العباسية بصورة عامة؛ بل لعلها السبب الأكبر في انهيارها بالكلية؛ وإن النظر تحت الأقدام من شيم أولي الشهوات وأصحاب المصالح الخاصة والعقول الضيقة وإن كانوا أصحاب أخلاق وتعلق بشرع الله بل لو كانوا من الشجعان المغاوير كقائد الجيوش العباسية إقبال الشرابي الذي كان وآخرين معه السبب في البيعة للمستعصم؛ وإن المركب التي يقودها أكثر من ربان وقائد لا شط لها، ولا قرار إلا القاع!!

نُشر في الحملة العالمية



[1] الذهبي: سير أعلام النبلاء 22/175.
[2] ابن الطقطقى: الفخري في الآداب السلطانية ص333.
[3] اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/255.
[4] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/415.
[5] العصامي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/516.
[6] الإربلي: خلاصة الذهب المسبوك ص210.
[7] العصامي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 3/516.
[8] منها سير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام للذهبي، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، وذيل مرآة الزمان لليونيني، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي.
[9] الإربلي: خلاصة الذهب المسبوك ص214، 215.
[10] المرقاة: الرتبة والدرجة، والمعنى أن أستاذ الدار جلس في موضع أدنى من الوزير بحسب الرسوم والبروتوكلات وقتها.
[11] الذهبي: تاريخ الإسلام 46/455، 456.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق