السبت، 2 يوليو 2011

أثر الإله في سلوك الإنسان!

قد يكون من قبيل الجدال واللجج أو حتى السفسطة أن نتحدث عن الله عزوجل الواحد الأحد الذي هو ضمير المسلمين والموحدين المطلق الذي يهديهم للحق، ويشرح صدورهم لسواء السبيل، ثم نجد انعدام أثر مثل هذا الحديث على الإنسان وسلوكه، وقتها تكون المعرفة الإنسانية التي انطلقت في حقيقة الأمر من التنزيل الإلهي قد توقفت أو عجزت عن تحقيق الغاية منها، وهذا في رأيي سر فشل الخطاب الدعوي الإسلامي عند كثير من الدعاة!

إن الحديث عن الإله العظيم هو الحديث الذي يجب أن يسود واقع الإنسان بشقيه الجواني/الضميري/ النفسي والبراني/ السلوكي/ المجتمعي؛ ذلك أن تضارب الإنسان وتخبطه في مسارات الحياة، وغرقه في متاهاتها، يسبب له المآقي التي نراها في السلوك الإنساني العام، لا فرق في ذلك بين مسلم بالاسم أو غيره ممن يدينون بغير الإسلام دينا!

وإن قصة الفلسفة الإنسانية هي قصة البحث عن الحقيقة، فمنذ أرسطو وتلامذته من رجالات الفلسفة اليونانية التي أغرقت الإنسان في عالم المحسوسات وحتى الفلسفة الحديثة والمعاصرة التي جعلت الإنسان أداة العالم الحسي ذاته، نجد أن تلك القرون الطويلة في عالم الفكر، وتشريح الكون، وفهم الحياة، والبحث عن الميتافزيقا، والإجابة عن الأسئلة الإنسانية الكلية، نجد أن الإنسان وقف عاجزًا وحائرًا وواقفًا ذات الموقف الذي وقفه أرسطو منذ آلاف السنين، وصدق الفيلسوف محمد ثابت الفندي حين قال: "إن الفلاسفة والمفكرين مختلفون، وسيظلون مختلفين فالاختلاف هو روح الفلسفة وسبب وجودها، وعلة استمرارها، وإذا كانت غاية الفلسفة هي الحقيقة، فإن الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن نخرج بها من دراسة تاريخ الفلسفة ومذاهب الفلاسفة: هي أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة، أو على الأقل لا يمكن الاتفاق على ما يمكن أن يعتبره الفلاسفة الحقيقة"[1].

ومن ثم فإن أي دراسة تشريحية نقدية جادة لأي من هذه الفلسفات ستؤدي بنا إلى نتيجة مفادها، عجز هذه الفلسفات عن فهم الإنسان بأبعاده التركيبية المعقدة، بل إن "تطور" و "تنوع" و "تعدد" المدارس الفلسفية وتعاقبها في تاريخ الفكر الإنساني مع كونها ضرورة إنسانية، دليل بسيط على اعتراف اللاحق منها بفشل السابق، بل ولعنه! إذا تسببت أي من هذه الفلسفات بالقضاء على حلم الإنسان في الاستقرار والسعادة والرخاء، والأدلة على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب فما بالنا بمقال ضئيل الحجم؟!

غير أنه بحسبنا أن نقف مع إحدى هذه الفلسفات المعاصرة التي تسببت في "تنميط" و"حوسلة" الإنسان بتعبير العبقري عبد الوهاب المسيري، أي جعل الإنسان مقولبًا بقالب جاهز وضعته فيه الدولة الغربية المتغولة، والتي تجاهلت الإله الخالق، الذي هو الركيزة الأساسية الثابتة في فكر الإسلام العظيم.

ولنقف مع الفلسفة العملية (البراجماتية) التي تسود المجتمعات الغربية الآن، فمؤسس هذا المذهب الفلسفي هو الأمريكي تشارلز ساندر بيرس (1839- 1914م) ، وهو أول من ابتكر كلمة البراجماتية في الفلسفة المعاصرة، ومذهبه يقوم على فكرة وضع (العمل) مبدأ مطلقًا؛ فهو يقول : "إن تصورنا لموضوع ما هو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر"[2]، وهذا يعني أن علامة الحقيقة أو معيارها العمل المنتج لا الحكم العقلي.

ومن أشهر فلاسفة هذا المذهب هو الأمريكي وليم جيمس (1842 – 1910م) الذي تدرج في اهتماماته العلمية والفلسفية التي تلقاها في معاهد وجامعات أوربية وأمريكية حتى حصل على درجة "الدكتوراة" في الطب من جامعة هارفارد سنة1870م، وعين أستاذاً للفسيولوجيا والتشريح بها، ثم أستاذاً لعلم النفس فبرز فيه. ويتبين من ترجمة حياته أن سبب اتجاهه إلى الفلسفة يرجع إلى سماعه لمحاضرة فلسفية ألقاها "بيرس" الذي كان يعرض فيها مذهبه، فشعر وليم جيمس على أثرها وكأنه ألقى عليه رسالة محدده، وهى تفسير رسالة "البرجماتية".

ويعرف وليم جيمس الحقيقة بأنها "مطابقة الأشياء لمنفعتنا، لا مطابقة الفكر للأشياء". وكما يؤكد جيمس الذي طور هذا الفكر ونظّر له في كتابه " البراجماتية " Pragmatism ،بأنها لا تعتقد بوجود حقيقة مثل الأشياء مستقلة عنها؛ فالحقيقة هي مجرد منهج للتفكير، كما أن الخير هو منهج للعمل والسلوك؛ فحقيقة اليوم قد تصبح خطأ الغد؛ فالمنطق والثوابت التي ظلت حقائق لقرون ماضية ليست حقائق مطلقه، بل ربما أمكننا أن نقول: إنها خاطئة!

ويذكر الأستاذ الدكتور مصطفى حلمي "أنه لاختصار الإحاطة بهذه الفلسفة فإن مدخل دراستها يقتضي تحليلها إلى مكوناتها الأساسية في النظم والقيم، فنحن أمام مقولتين: الأولي: ازدراء الفكر أو النظر. الثانية: إنكار الحقائق والقيم. أي بعبارة أخرى أكثر وضوحاً، فإن العمل عند جيمس مقياس الحقيقة؛ فالفكرة صادقة عندما تكون مفيدة. ومعنى ذلك أن النفع والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة ما أو رفضها"[3].

وقد نبتت فلسفته منذ بداية اهتماماته بها من حاجاته الشخصية، إذ عندما أصيب في فترة من عمره بمرض خطير، استطاع بجهوده أن يرد نفسه إلى الصحة، فاعتقد أن خلاص الإنسان رهن بإرادته، وكان الموحي إليه بالفكرة المفكر الفرنسي "رنوفيير" الذي عرف الإرادة الحرة بأنها "تأييد فكرة لأن المرء يختار تأييدها بإرادته حين يستطيع أن تكون له أفكار أخرى". وكانت تجربة شفائه من المرض قد هدته إلى أهمية العمل ورجحت عنده الاجتهاد في العمل بدلاً من الاستغراق في التأمل " لأن العمل هو الإرادة البشرية استحالت حياة[4].

وقد انتقد كثير من الفلاسفة والمفكرين هذه الرؤية الفلسفية الجديدة، منهم على سبيل المثال ول ديورانت في كتابه القيم "قصة الفلسفة" الذي تناول هذه الفلسفة بشيء من التعليق والتعقيب، فهو يقرر أن هذه الفلسفة هي انعكاس لنمط الحياة الأمريكية، وإن فحص الحقيقة الذي جاء به جيمس ليس جديدًا، وقد اعترف جيمس نفسه بهذا، فإذا كان اختباره للحقيقة يعني بأنها يجب أن تتمخض عن التجربة والاختيار وعلى صدقها فهو مقبول، أما إذا كانت تعني بأن المصلحة والمنفعة الشخصية هي المقياس والاختبار لصدق الحقيقة فهو أمر مردود؛ لأن المنفعة الشخصية ليست سوى منفعة شخصية في نهاية الأمر، والواقع أن ما أراد جيمس أن يفعله هو إزالة الغشاء الذي أحاط بالفلسفة؛ فقد أراد أن يعيد بطريقة جديدة وجهة النظر الإنجليزية القديمة نحو النظرية والعقيدة؛ فقد واصل عمل الانجليزي بيكون في تحويل وجه الفلسفة مرة أخرى في اتجاه عالم الأشياء الذي لا مهرب منه[5].

ومع انتقاد ديورانت لهذه الفلسفة النفعية المادية التي تحول مفهوم الحقيقة ومغزى الحياة عن عمد أو تجاهل لحقيقة الإنسان المركبة والمتطلعة دومًا لعالم الغيب، والتي تتجاوز بلا ريب عالم الشهادة المحسوس، مع انتقاده لهذا إلا أن المجتمع الغربي في مجمله يطبق تلك النظرة تطبيقًا مثاليًا يجعل اللذة الحسية، والمنفعة المترتبة على أي فكر أو عمل هي الغاية التي يحب أن يصل إليها الإنسان!!

ولذلك كانت السيرة الذاتية والحياتية للدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله نصرًا فلسفيًا عظيمًا للفكر الإسلامي الذي ينظر للإنسان باعتباره "إنسانًا" له خصائصه وأبعاده النفسية والسلوكية و"الربانية" المغايرة لما تم التوصل إليه في تاريخ الفكر والفلسفة الغربية التي عجزت عن تقديم الأجوبة النهائية والملحة للإنسان الحائر!

فهو يقرر أنه كان من جراء الفلسفة النفعية المادية التي تتجاهل عالم الغيب والإله أن وقعت المجتمعات الغربية في شراك الاستهلاكية والإمبريالية النفسية[6]، وقد ترتب على الوقوع في هذه المآسي أن زاد السعار الجنسي والاستهلاكي والتكالب على كل شيء، ومن هنا "فهي من أهم العوامل التفكيكية في العصر الحديث، وهذه الإمبريالية النفسية أدركت أن استنزاف المصادر الطبيعية في آسيا وإفريقيا وكل أطراف المعمورة قد ازداد، تمامًا مثل التزاحم على الأسواق، وأن تكلفة المواجهة العسكرية مع شعوب العالم الثالث هي الأخرى قد أصبحت باهظة، فالدخول في حروب عالمية عسكرية يؤدي إلى استنزاف طاقة الدول الكبرى، ثم وجدت هذه الدول أن بوسعها أن تقذف بالدول النامية إلى حروب صغيرة تحقق من خلالها أرباحًا عالية؛ (إذ تقوم هي بطبيعة الحال ببيع السلاح للطرفين المتنازعين، ولا تزال تجارة السلاح هي أهم تجارة في عصرنا الحديث، لا يفوقها حتى تجارة المخدرات). ولكن أبعاد الإمبريالية النفسية أكثر عمقًا وشمولاً من ذلك، فهي تنطلق من الإيمان بأن الهدف من الإنتاج هو الاستهلاك، وأن الهدف من تزايد الإنتاج هو تزايد الاستهلاك، وأن حياة المرء تكتسب معنى إن هو استهلك، ومزيدًا من المعنى إن هو صعّد من استهلاكه، وأن الإنسان أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لا يبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسمانية، وأن سلوكه لابد أن يصبح نمطيًا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع، هذا الإنسان لا يهدف في حياته إلا تحقيق المنفعة واللذة، ويرى أن خلاصه يكمن في ذلك، ولذا كانت "الحاجة أم الاختراع في الماضي"، أما في إطار الإمبريالية النفسية، فـ"الاختراع هو أبو الحاجة"؛ إذ لابد أن تظهر سلعة جديدة كل يوم، ومن هنا يدخل الإنسان في دائرة الإنتاج التي لا هدف لها والآخذة في الاتساع إلى ما لا نهاية!!"[7].

لعل بكلمة الدكتور المسيري قد فهمنا وتيقنا من أثر وجود الإله عند الإنسان، فبالنسبة لنا تصبح التجربة الأخلاقية والمعرفية والعملية منطلقة من أرض صلبة، ومن قيم ثابتة مستمدة من شرع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُجعل النسبية: نسبية القيم والمفاهيم والسلوك دعامة أو منهجًا لنا، فمنهجنا ما هو إلا )تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ[8](، والأصل في فكرنا أن ارتباط الإنسان بالإله هو ارتباط بالمعنى الذي يُشعر الإنسان بحقيقة وجوده، والعكس صحيح، وهذا ما تؤكد عليه الآية القرآنية العظيمة: )نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ[9](.



[1] فاروق الدسوقي: القضاء والقدر في الإسلام 1/5.

[2] يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة ص417.

[3] مصطفى حلمي: الإسلام والمذاهب الفلسفية ص250، 251.

[4] مراد وهبة: قصة الفلسفة ص105 نقلا عن مصطفى حلمي.

[5] ول ديورانت: قصة الفلسفة ص624.

[6] الإمبريالية النفسية انعكاس لحضارة إمبريالية توظيفية تستهلك كل شيء وتوظف كل شيء وتبدد كل شيء (الطاقة - المواد الخام - الأغاني - جسد الأنثى - طبقة الأوزون)، وهي دليل على القلق الذي ينتاب الإنسان، والذي لا يهدئه إلا السيطرة على كل شيء ومن ثم تبديده!!

[7] عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر ص256، 257.

[8] (يس: 5).

[9] (الحشر: 19).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق