كان من المفارقات التي لا أنساها أن أتعرف على إمامنا أبي محمد بن حزم (ت 456هـ) أول ما أتعرف من خلال كتابه "طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف"، ذاك الكتاب الرائع الذي يرسم لنا الأثر النفسي والفكري والعاطفي الذي عايشه ابن حزم في فترة مراهقته وشبابه.
وقدّر الله لي أن أدرس تاريخ الأدب الأندلسي على يد علامة كان – و لا يزال – على قدم راسخة، وقريحة متوقدة في هذا العلم المهم، وأقصد أستاذي وأستاذ أساتذتي الطاهر مكي – أطال الله في عمره، ونفعنا بعلمه - ذاك الرجل الذي صال وجال في الأندلس؛ حيث نال درجة الدكتورة من جامعاتها، وأخذ العلم على كبار مفكريها وعلمائها، وأتقن اللغة الإسبانية كأنه رجل من رجالاتها، وكان لكتابه "دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة" دور آخر في تقريب الأوضاع الاجتماعية والأدبية لأسلافنا الأندلسيين، حتى لكأنك حين تقرأ هذا الكتاب تعيش على سهل من سهول قرطبة أو طليطلة أو إشبيلية ... تنتظر أقرانك الأندلسيين للذهاب إلى حلقات الإمام ابن حزم أو ابن شهيد أو غيرهما.
وقد ذهبت أيام دار العلوم، وبقيت تجربة ابن حزم التي كانت تراودني بين الفينة والأخرى، وكان السؤال الذي يجول بخاطري: كيف لهذا الأصولي الظاهري المتشبث برأيه أن يكتب كتابًا كطوق الحمامة قد يصفه من لا يفقه تاريخ التراث الإسلامي بأنه كتاب خلاعة ومجون، بل قد يصفه آخرون بأنه منتحل على لسان ابن حزم؟!
من اللافت أن "طوق الحمامة" ليس مجرد كتاب يعبث بالعواطف، ويهيج القلوب، إنه كما يقول أستاذنا الطاهر مكي: "لا تكاد تمضي خطوات مع ابن حزم في طوق الحمامة حتى تجد نفسك أمام فيض من ذكرياته، عن نفسه وعن أصدقائه، وآخرين مجهولين، وكلهم من العشاق: زفراتهم حارة، وأحاسيسهم صادقة، يخلطون المداد بالدمع أو الريق، ويستخدمون في التراسل الحمام والعيون والرسل، ويعانون من الوشاة، ويموتون من الحب، وهو إلى جانب ذلك معرض حافل بالحديث عن شيوخ ابن حزم، والشخصيات العامة في قرطبة، وبالإشارات التاريخية، والأحداث المهمة، والحفلات الخاصة، وتخطيط العاصمة ومعمارها، ومساكن آل حزم ومستواها، وكلها تتحرك بالحياة، وتمضي متماسكة مثل عناقيد العنب، وهو قبل ذلك كله سيرة ذاتية للمؤلف، خطّها بقلمه، واعترافات مخلصة ألقى بها في جرأة وصدق غير معهودين في الفكر العربي على أيامه وما بعدها إلى أيامنا"[1].
كان "طوق الحمامة" تجربة حية لحياة شاب أندلسي أُشرب روح الأندلس وحضارتها، تلك الحضارة التي احتلت محتليها كما يقول الإسبان فكيف بالأندلسي المولد والهوى والممات؟!
إن نظرة لأحد أبواب هذا الكتاب: كباب "مراسلة الأحباب"، يُعْلمنا كيف كانت مشاعر ابن حزم متقدة مشتعلة ملتهبة لا يوقف سيلها إلا مداد القلم، وسلوة الأسطر؛ فبعد حديثه عن باب المراسلة بالعين، وكلامه الذي يبدو كدليل لكل محب عاشق في كل زمان، ينتقل إلى هذا الباب، فترى أشعاره إنعكاسًا لأعماق نفسه، يقول:
جَوابٌ أتاني عَنْ كِتابٍ بعثْتُه فسكَّن مهتاجًا وهيَّج ساكنًا
سَقَيتُ بدمْعِ العيْنِ لما كتَبْتُه فِعَالَ مُحبٍّ ليس في الودّ خائنا
فمازال ماءُ العين يمحو سُطُورَهُ فيا ماءَ عيني قد محوت المحاسِنا
غدا بدمُوعِي أوّل الخطِّ بيننا وأضحى بدمعي آخر الخَطِّ بَائِنَا
هذا الولَهُ والعشق من ابن حزم الشاب، كان إذا قُرئ في عصره، وتدبره المتدبرون لعلموا أن ثمة أديبًا ستنجبه الأندلس قريبًا، لكن مساره قدّره الله بغير ذلك؛ فقد ذكر عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب في أخبار المغرب" عن ابن حزم أنه "صنف في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل، وغير ذلك من التاريخ وكتب الأدب والرد على المخالفين له، نحوًا من أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري"[2].
وإذا أردنا إنعام النظر، وإجالة الفكر في المرحلة الثانية والوسطى في حياة هذا الرجل، فهي "استبداده بعلم الظاهر" كما يقرر المراكشي، أي اتكائه في مسائل الفروع على مذهب الظاهرية، فابن حزم اطّرح مذهب الإمام مالك الذي هو المذهب المعبر عن الغرب الإسلامي كله (الأندلس والمغرب)، وكان له قصب السبق، واليد الطولى في نشر هذا المذهب في بلاد الأندلس، حتى صار له أتباع وأنصار.
وكتابه "المحلى" يمكن أن نلمس فيه بكل وضوح مرحلة اتقاد العقل، وبزوغ العبقرية الأندلسية في القرن الخامس الهجري، فالكتاب جامع لمسائل الفقه وأصوله فضلاً عن الحديث عن الرجال وتقييماته العبقرية لهم، وهو الرجل الأندلسي الغربي البعيد، حتى إن الذهبي وابن حجر من بعده وهم من المشارقة قد اعتمدوا عليه، وساروا على خطواته في تعديل كثير من الرجال وجرحهم، ولا يمكن أن نتغاضى عن هذه الرؤية الأصولية الرياضية الثاقبة، التي نراها بوضوح في مقدمة المحلى؛ إذ يقول: "إنكم رغبتم أن نعمل للمسائل المختصرة التي جمعناها في كتابنا الموسوم بالمحلى شرحًا مختصرًا نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار؛ ليكون مأخذه سهلاً على الطالب والمبتدئ، ودرجًا له إلى التبحر في الحجاج، ومعرفة الاختلاف، وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه، والإشراف على أحكام القرآن، والوقوف على جمهرة السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمييزها مما لم يصح، والوقوف على الثقات من رواة الأخبار، وتمييزهم من غيرهم، والتنبيه على فساد القياس وتناقضه، وتناقض القائلين به"[3].
وبكل وضوح وبساطة تتملكني الدهشة والتعجب، فكيف خرج "طوق الحمامة" ذلك الكتاب العاطفي الأدبي الرائق و "المحلى" ذلك الكتاب الأصولي الحديثي الفقهي ذي الرؤية الجديدة تمامًا على المحيط الأندلسي خاصة والإسلامي عامة، من مشكاة واحدة، ومن رجل واحد، أليس في الاختلاف البين، والبعد الواضح بين المجالين أن يوجد من قد يشكك في نسبتها إلى ابن حزم؟
قد يتبادر ذلك إلى من جهل ابن حزم؛ فإذا كان عصر الموسوعات العلمية في تاريخ الفكر الإسلامي قد ظهر بعد وفاة ابن حزم بما يقارب ثلاثة قرون في مصر المملوكية، إلا أن الموسوعية التأليفية، والعقلية المتدفقة قلما تجدها في تاريخنا الإسلامي إلا في ابن حزم وأضرابه من المغاربة والمشارقة.
وللأسف كانت غزارة مؤلفاته، وأولية بعضها، ومناظراته الحادة سببًا في ظلمه من الحاقدين والمغرضين وأرباب السلاطين الذين لا يرون إلا أنفسهم أهلٌ لكل شيء، حتى إن ابن حزم رحمه الله قد ضاق بهم ذرعًا، وعرّض بنفسه وبعلماء الأندلس الراسخين في رسالته الشهيرة "فضل الأندلس وذكر رجالها"؛ بقوله: "أزهدُ الناس في عالمٍ أهله، وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده ... ولا سيما أندلسنا، فإنها خُصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، واستقلالهم كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته، بأضعاف ما في سائر البلاد. إن أجاد قالوا: سارقٌ مغير، ومنتحل مدع، وإن توسط قالوا: غثٌ بارد وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا: متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهَبَل!! وبعد ذلك إن ولَجَت به الأقدار أحد طريقين: إما شفوفاً بائناً يعليه على نظرائه، أو سلوكاً في غير السبيل التي عهدوها، فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضاً للأقوال، وهدفاً للمطالب، ونصباً للتسبب إليه، ونهباً للألسنة، وعرضةً للتطرق إلى عِرْضه، وربما نحل ما لم يقل، وطُوِّق ما لم يتقلد، وأُلحق به ما لم يفه به ولا اعتقده قلبه، وبالحرى، وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من السلطان بحظ، أن يسلم من المتالف، وينجو من المخالف. فإن تعرض لتأليف غمز ولمز، وتعرض وهمز، واشتط عليه، وعظم يسير خطبه، واستشنع هين سقطه، وذهبت محاسنه، وسترت فضائله، وهتف ونودي بما أغفل، فتنكُسُ لذلك همته، وتكل نفسه وتبرد حميته، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعراً، أو يعمل رسالة، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل، ولا يتخلص من هذا النصب، إلا الناهض الفائت، والمطفف المستولي على الأمد"[4].
ويبدو أن العظماء من علماء الحضارة الإسلامية كابن حزم وابن رشد والغزالي وابن تيمية وغيرهم كانوا على موعد مع إحراق مؤلفاتهم، وقد تجمعت في ابن حزم عوامل عدة، منها: تنديده بولاية خلف الحصرى للخلافة بإشبيلية، ومعارضة بعض الفقهاء له وسعيهم لدى السلطان للإيقاع به وإثارة العامة ضده، فضلاً عن هواه الأموي ومعارضته لأمراء الطوائف ومن ثم التقت أغراضهم مع ما كان يرمى إليه المعتضد ين عباد، فكانت واقعة إحراق كتبه على مسمع ومرأى من الناس ومنه[5].
ولقد صدق أبو العباس بن العريف – أحد الصالحين بالأندلس - حين قال: لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان؛ فقد كان ابن حزم رحمه الله، لا يتوانى في تقريع كل مناظر له، خاصة إذا كان ممن لم يؤت من العلم إلا قليلاً فضلاً عن قدماء العقل والفكر والثقافة، وظل ابن حزم على نهجه ومنواله حتى قرر في نهاية عمره أن يعتزل حياة الجهد والمناظرات والاضطهاد إلى حياة الهدوء والتأليف في قريته الصغيرة "منت لشم" من وديان "ولبة" في جنوب غربي الأندلس[6].
ويمكن أن نلحظ بكل وضوح مدى النضج العقلي والفكري الذي وصل إليه في هذه المرحلة الأخيرة من عمره من خلال إحدى رسائله المهمة وهي "رسالة في مداواة النفوس"، فهذه الرسالة كما يقول علامة التحقيق الأندلسي الدكتور إحسان عباس رحمه الله: "تبدو هذه الرسالة نوعًا من المذكرات والخواطر التي دونت على مرّ الزمن، وكانت حصيلة التجربة المتدرجة، ولعل أكثرها إنما دوّن في سن كبيرة؛ لأنها تُشير إلى الهدوء والنضج في محاكمة الناس والأشياء، وتمثل مفارقة وتكملة لطوق الحمامة، وخروجاً على بعض الأحكام التي جاءت في الطوق أو تطويراً لها. ففي هذه الرسالة يقدم ابن حزم نظرته في الحياة على نحو فلسفي أو فكري.فإذا نظر إلى الحياة الاجتماعية وجدها تقوم على محور واحد، أحد طرفيه موجب والثاني سالب، أما الطرف الموجب فاسمه "الطمع" ومعناه بهذا التعميم: المحرك أو الدافع الداخلي الذي يوجه الفرد نحو هذا الشيء أو ذاك. فالطمع أصل في كل المظاهر الاجتماعية التي نراها من حب وطموح وحياة مادية وغير ذلك. وإذا أخذنا الحب مثلاً لنفسره على مبدأ الطمع وجدنا أنواعا من الحب تختلف في الظاهر، وترجع كلها إلى أصل واحد هو "الطمع فيما يمكن نيله من المحبوب"[7].فإذا كان الطمع بهذه القوة في حياة الأفراد فمن الطبيعي أن ينشأ عنه " الهم " وهو الظرف السالب في محور الحياة الاجتماعية.ويصف ابن حزم جميع أدوار الحياة ومظاهرها بأنها محاولة لطرد الهم، وأن الناس جميعا يتفقون في هذه الغاية سواء في ذلك المتدين ومن لا دين له، والخامل والزاهد والفيلسوف العازف عن اللذات وغيرهم. فطالب المال يكد في سعيه ليطرد "هم الفقر" ، والساعي وراء الشهرة يجري إليها ليطرد "هم الخفاء والخمول" ... أما الشيء الذي يقتلع الهم من جذوره دون أن يثير بين عناصر المجتمع هماً جديداً فهو ما يستخلصه ابن حزم رحمه الله من خلال تجربته الفريدة بقوله: "فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه طريق واحد، وهو العمل لله تعالى. فما عدا هذا فضلال وسخف"[8].
بهذه القناعة الفلسفية العميقة، وبهذه التجربة الحياتية الصاخبة عاش ابن حزم أخريات عمره في الريف الأندلسي، بعيدًا مضطهدًا، ومن الغريب أن يصب كل اهتمامه في إخراج كل ما يمكن إخراجه من مؤلفات، رغم كونها لم "تتجاوز عتبة داره"[9].
توفي ابن حزم رحمه الله عام 456هـ، بعد تجربة تستحق أن تُدرس، وحياة تستوجب التوقف أمامها كثيرًا، فإذا اعتبرنا أن تجربة ابن حزم في الإصلاح العلمي والثقافي قد مرت بثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة التعرف على الآخر، والمرحلة الثانية مرحلة الاحتكاك بالآخر، والمرحلة الثالثة والأخيرة هي مرحلة الابتعاد أو الإقصاء عن الآخر، لعلمنا أن أوليته وتناول العلماء الراسخين لحياته ومؤلفاته بكثير من الإكبار والإجلال، وكثير من النقد واللوذعية تستلزم منا أن نستلهم منه كل ما يمكن تقديمه لطلاب العلم فضلاً عن المتعالمين الذين يملئون الدنيا ضجيجًا وصياحًا ونقيقًا!
[1] ابن حزم: طوق الحمامة، تحقيق الطاهر أحمد مكي ص45، 46. ط2، دار الهلال – مصر،1994م.
[2] عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ص94. إصدارات لجنة إحياء التراث الإسلامي، التابعة للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية – مصر، بدون.
[3] ابن حزم: المحلى، تحقيق أحمد محمد شاكر 1/2. ط1، إدارة الطباعة المنيرية – مصر، 1347هـ.
[4] ابن حزم: مجموع الرسائل، تحقيق إحسان عباس 2/177، 178. ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت.
[5] ابن حزم: مجموع الرسائل 3/20- 25.
[6] ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس 1/568.
[7] رسائل ابن حزم 1/325.
[8] رسائل ابن حزم 1/338.
[9] مقدمة طوق الحمامة ص32.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق