الجمعة، 29 يوليو 2011

يومٌ تخطّى حاجز الزمن!

لعل ما يندهش له القارئ الكريم أن يقلب في صفحات التراث الإسلامي ليجد ارتباط هذه الأمة بجذور تتعدى تاريخها الزمني إلى دلالة أعمق وأكثر نضوجًا تتمثل في الإنسانية الدالة على الله عز وجل!

يوم الوحدانية:

لقد كان تاريخ النبوة والرسالات أحد أهم مباحث علم الكلام والعقيدة في تاريخ التراث الإسلامي، وكانت هذه المباحث تتناول من الناحية النقلية والعقلية مدى احتياج الإنسان إلى يد تهديه البصيرة والحنو والمنهج الذي تطمئن إليه نفسه المضطربة الحائرة، وتمثلت هذه الرعاية الإلهية برحمتها بهؤلاء المعذبين الحائرين الذين أغووا أنفسهم وعالمهم حتى صارت الدنيا قبل مجيء نبينا r ممقوتة لأهل السماء "إلا بقايا من أهل الكتاب"[1]، فصار ارتباط الأنبياء بالهداية والرحمة الربانية بأهل الأرض دلالة على التوحيد الرباني والإنساني الذي تخطى حاجز الزمن، وجعل الإنسان مرتبطًا بأخيه الإنسان وإن تباعدت الأقطار والأزمان والأمصار!

فإذا كانت رسالة الأنبياء واحدة لأهل الأرض، مع اختلاف الشرائع بما يتناسق مع الأزمان والبيئات، فإن الله عز وجل قد جعل يومًا عيدًا وجامعًا لمن ارتضوا هذه الوحدانية عبر مسيرة الزمان، وأضاف لهذا اليوم من المكرمات والقدسية ما يذكرنا بتاريخ وحقيقة الإنسان وكنهه وغايته ووجوده بل ويحمل في طياته ما قدّره الله في هذا اليوم من الأحداث التي زادت من عظمته، وجعلته دالاً على الله الواحد الأحد!

ذاك هو يوم الجمعة الذي يجمع أشتات أهل التوحيد منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة، وإنه من الخطأ أن نفصم هذا اليوم عن مسيرة الإنسان لنجعلها وفق المنظور الزمني الإسلامي الذي بدأ منذ بعثة النبي r وحتى يومنا هذا؛ ذلك لأن هذا اليوم مرتبط بوجود الإنسان الذي حُمِّل الأمانة الإلهية المتمثلة في إقامة ما ارتضاه الله لعباده وما نهاهم عنه[2]، فهو "خيرُ يومٍ طلعت فيه الشمسُ .. فيه خُلق آدمُ وفيه أُدخل الجنةَ وفيه أُخرجَ منها..[3]" وكما بدأت الحياة الإنسانية على الأرض في هذا اليوم فإنها ستنتهي في هذا اليوم فـ"لا تقومُ الساعةُ إلا يوم الجمعة"[4].

يوم التمايز الحضاري للأمة المسلمة:

وإن من مقومات البناء الحضاري للأمة المسلمة الاستمساك بالقيم الإلهية، والاستعصام بما ارتضاه الله لنا، وهذا من علامات التمايز الحضاري، والتفوق الفكري الذي يسِمُ بني الإسلام، وإن ما يلفت الانتباه أن الله اختار لأهل التوحيد هذا اليوم وهو بلا ريب من مقومات البناء الحضاري لنا!

بيد أن أهل الكتاب رفضوا فضَلّوا عنه، فقد "اختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق، واختار النصارى يومَ الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل فيه الخَليقَةَ"[5] على ما يذكر العلامة ابن كثير، وهذا ما يؤكده رسول الله r بقوله: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أُتوا الكتاب من قبلنا، ثُم هذا يومُهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله؛ فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدًا، والنصارى بعد غدٍ"[6]؛ فهذا التمايز الذي حرص عليه النبي r لهذه الأمة هو في حقيقة الأمر من مقومات نهضتها، ومن علامات ارتباطها بالله U، وهذا ما يؤكد عليه r في رواية أخرى بقوله: " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق "[7].

والحق أن كثيرًا من علمائنا حاولوا أن يتعرفوا على كنه هذا اليوم، ويفهموا الحكمة من اختياره لنا من ربنا عز وجل، وخاضوا في ذلك في مؤلفات كثيرة، ولكن ما ذكره العلامة ابن حجر العسقلاني رحمه الله في الفتح يستلفت النظر حقيقة، فقد ذكر أن الحكمة من اختيار هذا اليوم تتمثل في "وقوع خلق آدم فيه، والإنسانُ إنما خُلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه؛ ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات، وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه"[8].

فما ذكره العلامة ابن حجر تؤكده أحاديث النبي r التي تفصّل فضل هذا اليوم وأهميته وثمرات أخذه بحقه، وهي كلها تؤكد على الأهمية الخاصة لهذا اليوم بالنسبة للمسلمين، لكن غالبية أحاديث النبي r التي تتناول يوم الجمعة تتحدث عن أهمية صلاة الجمعة وآدابها وفضلها وما يترتب عليها من مقومات معنوية بل ومادية في البناء الإسلامي العام.

ولعل أبلغ ما ذكره نبينا r تدليلاً على التميز الذي يتمتع به هذا اليوم في الإسلام قوله r: "إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ: خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا الْعَبْدُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَهُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ"[9]

وحدة العبادة والتنظيم:

وإن الآية القرآنية الوحيدة التي ذكرت يوم الجمعة صراحة في كتاب الله تنبّه عموم المسلمين إلى ضرورة ترك كل مشاغل الحياة وملاهيها وملذاتها من أجل صلاة يوم الجمعة التي هي "عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد وفي العبادة الواحدة"[10]، وفي ذلك يقول الله U: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[11](، وما هذا التنبيه إلا ضرورة على وجوب "الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش ... وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس؛ فلا بدّ من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش، وجواذب الأرض؛ ليخلو إلى ربه، ويتجرّد لذكره، ويتذوق هذا الطعم الخاصّ للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى، ويملأ قلبه وصدره من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه!"[12].

ومع أن صلاة الجمعة دليل على وجوب الانخلاع من مشاغل الحياة كما يقرر الأستاذ سيد قطب، غير أن ذلك لا يتم كما دلت الآية الكريمة إلا بوجود وحدة تلملم شتات الصف الإسلامي في هذه الصلاة وذلك اليوم.

إذن يوم الجمعة شاهد من شواهد الوحدة بين المسلمين، فهذا الاجتماع الأسبوعي "لا يقوم على المغالبة، بل على الأخوة العامة بين المسلمين، والمودة والرحمة بينهم، وهذا الاجتماع تتكون منه أمة متحدة المشاعر العالية، متجهة نحو الفضيلة والمثل العليا، ويخضع فيه الإنسان لخالق الأكوان وحده، وعندئذٍ يعلو الإنسان عن المغالبة إلا إذا اعتدى عليه، فالدفاع يكون واجبًا في هذه الحال، ويكون ذلك من الفضيلة ومنع الفساد في الأرض، كما قال تعالى: ) وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[13]("[14].

التأثير في حركة التاريخ والواقع:

ومن المدهش أن ثمة تأثيرًا لهذا اليوم على الضمير الجمعي للمسلمين، والحق أن هذا التأثير يتعدى معاني الوحدانية والوحدة السابق ذكرها إلى التأثير على حركة التاريخ والواقع، فمنذ معركة بدر الكبرى التي حدثت في يوم الجمعة وانتهاء بجمعات كثيرة نشهد فيها سقوط الطغيان والظلم يتأكد لنا الأهمية الروحية والواقعية التي يحدثها هذا اليوم في نفوس المسلمين، ومما يستلفت النظر أن بناء المدن الإسلامية القديمة كان مركزه الأساسي المسجد الجامع الذي تقام فيه صلاة الجمعة، وهو مركز الحياة الدينية حيث الصلوات الخمس والجمعة، والتعليمية حيث حركة المجالس العلمية والتعليمية فيه، بل والسياسية حيث إعلان المراسيم العامة والقرارات الجهادية والخطب الحماسية، والمالية حيث إلحاق بيت المال لفترة لا بأس بها بالمسجد الجامع[15]، كل ذلك دليل لا غبار عليه على ارتباط المادي بالقيمي في ظل المشهد الحضاري الإسلامي، وعلى تأثير هذا اليوم في حركة التاريخ.

إن يوم الجمعة يومٌ قد تخطى حاجز الزمن، وهو في المشهد الإسلامي لا يتوقف عند القيمة الروحية المستقاة منه، بل تتعدى أهميته إلى التأكيد على هوية المسلم، وغاية وجوده، وتأثيره المباشر في حركة الإنسان الذي قَبِلَ حمل الأمانة العظيمة، يقول تعالى: )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[16](،

نُشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865).

[2] انظر: الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 20/338.

[3] سنن الترمذي: كتاب أبواب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة (488). وصححه الألباني.

[4] السابق نفسه.

[5] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/119.

[6] صحيح البخاري: كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة (836).

[7] صحيح مسلم: كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (856 )، والنسائي: السنن الصغرى، كتاب الجمعة، باب إيجاب الجمعة (1368).

[8] ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 2/356.

[9] أخرجه ابن أبى شيبة (1/477 ، رقم 5516) ، وأحمد (3/430 ، رقم 15587) ، وابن ماجه (1/344 ، رقم 1084) ، قال المنذري (1/281): فى إسنادهما عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ممن احتج به أحمد وغيره. وقال البوصيري (1/129): هذا إسناد حسن. وابن سعد (1/30) ، والطبراني (5/33 ، رقم 4511) ، وأبو نعيم فى الحلية (1/366) . وأخرجه أيضًا: البيهقي فى شعب الإيمان (3/90 ، رقم 2973) وحسنه الألباني (صحيح الترغيب ، 695).

[10] انظر: محمد قطب: في النفس والمجتمع، فصل العبادات الإسلامية.

[11] (الجمعة: 9، 10).

[12] سيد قطب: في ظلال القرآن 6/3569.

[13] (البقرة: 251).

[14] محمد أبو زهرة: الوحدة الإسلامية ص231، 232.

[15] راجع: دورتيه زاك: دمشق، تطور وبنيان مدينة مشرقية، ترجمة قاسم طوير ص72.

[16] (الأحزاب: 72).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق