قديما كنا نسمع في مجالس السمر ذلك المثل الذي يتحدث عن خيبة الأمل التي ركبت جملاً... لقد سبّب هؤلاء "المتوحشون" الذين احتلوا ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي خيبة أمل لأصحاب الأظافر الناعمة، والكراسي الوثيرة، والنظريات السياسية المقعرة والمحدبة على السواء، لقد خرج هؤلاء "البرابرة" عن الإجماع الوطني واحتلوا ميدان التحرير، بل زاد تطرفهم لدرجة جعلتهم ينادون طيلة ذلك اليوم الحار "إسلامية إسلامية".
وبما أنهم خرجوا عن خرافة الإجماع الوطني فقد كان لزامًا عليهم أن يتعلموا الأدب، ويُجبروا على سماع كلام الأسياد؛ فما كان من الأسياد إلا وانسحبوا من الميدان وتركوا "المتوحشين" الذين أوصلوا رسالاتهم على أكمل وجه وأعظمه لدرجة جعلت بعض المعتصمين في الميدان يعلنون في اليوم التالي مباشرة عن إنهاء الاعتصام رغبة في عدم تعطل العملية الإنتاجية والمرورية والمهلبية على السواء.
بل إننا سمعنا السيد المبجل عمرو حمزاوي يعلنها عالية مدوية خفاقة في سماء الوطن عن تشكيل إتلاف يضم كل القوى الليبرالية لمواجهة المتوحشين البرابرة الذين أفسدوا عليهم وداعتهم ونقاء سريرتهم و"تورتتهم" التي كانوا قد بدءوا في تقسيمها بكل سهولة ويسر بادئين بوثيقة المبادئ فوق الدستورية، لكن للأسف هذه الملايين الثلاثة أو الأربعة التي ملئت الميدان زئيرًا وصياحًا جعلت كل المخططات تذوب في ذلك اليوم الرطب.
ثمة من يقول لقد كان من العيب والغباء السياسي أن يرفع السلفيون وبعض الإسلاميين الآخرين علم السعودية في الميدان وشعار "الشعب يريد تطبيق شرع الله" و "إسلامية إسلامية" وغيرها من هذه الشعارات الدينية التي تفرق الوطن إلى "وطنطنات"!
لكن الرد على هؤلاء في غاية السهولة، أليس من حق الإسلاميين أن يرفعوا ما يشاءون، ويقولوا ما يريدون ما دمنا جميعا قد احتكمنا إلى الديمقراطية إجراءًا وقيمةً؟ ثم إن علم السعودية لا يمثل عند السلفيين وغيرهم من الإسلاميين الآخرين الولاء للسعودية وإنما يمثل بكل وضوح الولاء للإسلام ولعقيدة التوحيد، لكن الإعلام اللطيف الظريف الخفيف هو الذي يركز على مثل هذه القضايا التافهة، وقد كان عليه مثلاً أن يأتي لنا بأعلام الشيوعيين التي وجدت في الميدان في ذلك اليوم إن كان موضوعيا متحريا للدقة والشمولية في العرض..
لكن لا علينا لهراء إعلام تافه موجّه.. إن نزول الإسلاميين من الأساس كان ردا على من حاولوا الانتقاص من قدرهم، وتجاهلهم، وكأن مكانهم الطبيعي أن يكونوا في السجون مستمتعين بذلك الجو الروحاني الانفرادي الذي يعزلهم عن العالم كي يتفرغوا لربهم ودعوتهم بين الجدران الأربع، وينزلوا – طوعًا أو كرهًا - عن ممارسة حقهم السياسي إلى العباقرة الأفذاذ أصحاب الظواهر الحنجورية، والبدلات المزركشة، والكلام المنمق، والتحليلات السياسية العميقة التي تنطق بإبداع الخيال العلمي، و"الكاو بوي" على السواء!
ثمة سؤال ظريف آخر: هل نجحت جمعة الإسلاميين المتوحشين؟ بالقطع نجحت ياسيدي، وليس أدل على ذلك من التواتر الرائع، والاتفاق العظيم بين كافة الصحف القومية وغير القومية تقريبًا على فساد ما أحدثه الإسلاميون في ذلك من تفريق الصف الوطني، وتشرذم قواه، وتحلل عراه يا عيني، وكأن العلمانيين المساكين، والليبراليين الطيبين لم يفعلوا ذلك، والكلام يحمل في أعماقه فساد ما أحدثه الإسلاميون بملايينهم تلك لما كان يحلم به جل العلمانيين والليبراليين الذي يرأسون هذه الصحف والمجلات والإذاعات والفضائيات والحركات والائتلافات التي ناصبت الإسلاميين العداء منذ يوم الجمعة وإلى الآن، ومن قبله إن شئنا توخي الصواب.
كما ليس أدل على ذلك من خمول وخمود الحديث عن وثيقة المبادئ فوق الدستورية، ثم الغيظ الليبرالي الذي لا يخفى على القارئ العادي فضلا عن المنقب خلف تصريحاتهم وأحاديثهم وأحلامهم من يوم الجمعة وإلى الآن والذي يريد تكليله السيد حمزاوي وغيره بضرورة الوقوف أمام الإسلاميين من خلال ائتلاف القوى الليبرالية..
في الإسلام علم عزيز اسمه "مقاصد الشريعة الإسلامية" وهي تدور حول الضروريات والحاجيات والتحسينات، وهو علم يساعد المسلم على معرفة الأولويات، ويعينه بشكل ما على تقييم التجارب الإنسانية من ناحية تحقيق المقاصد الكلية للأحداث، وحدث كيوم الجمعة الماضية يمكن أن نقيمه من خلال تحقيق أهدافه الكبرى، وهي: رفض الإسلاميين لأي التفاف على الإرادة الشعبية التي تجلت من خلال الاستفتاء الماضي، رفض الإسلاميين لوثيقة المبادئ فوق الدستورية، الحفاظ على الهوية الإسلامية لمصر من خلال إبراز حجم المؤيدين للمشروع الإسلامي، إرسال رسالة واضحة لكل من المجلس العسكري والعلمانيين أن هؤلاء الذين هُمشوا وقبعوا في السجون لسنوات طويلة لن يسكتوا بعد ثورة أرجعت الحرية للجميع لا فضل لإسلامي فيها على علماني ولا علماني على إسلامي الكل فيها سواء، والكل يتحدث باسمها، ولا حقوق ثورية حصرية لأحد، والفيصل في ترجيح رأي على آخر لا يمكن أن يفصل فيه سوى رأي المصريين من خلال الصندوق وليس القدرة على تملك ناصية الإعلام والمال .. وإن جاء هذا الصندوق بإسلامي قد يستثقله البعض ..
كل هذه الأهداف الكبرى يمكن أن نتلمس نجاحها من خلال جمعة الإسلاميين التي يعتبرها بعض الإسلاميين أنفسهم فشلاً في التخطيط والتوجيه والحرص على المصلحة الوطنية .. ولا أفهم مصطلح "المصلحة الوطنية" هنا، اللهم إلا إشراك من أجبروا المجلس العسكري في إخراج وثيقة المبادئ الدستورية في تسيير وتظبيط وتقنين وتعديل جمعة الإسلاميين، وهذا هو العجب بعينه!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق