حينما كتب المستشرق الانجليزي مارجليوث في كتابه الأشهر "أصول الشريعة المحمدية" قائلاً عن طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ظل دولة الإسلام: "أيًا كان الحاكم الذي يستقر الرأي على الاعتراف به، فإن الرعايا المسلمين ليست لهم أية حقوق ضد رئيس الجماعة القائم". ثم زاد على ذلك بقوله: "إن الحاكم ليس مسئولاً أمام أحد". فإنه لم يكن ليقول ذلك من فراغ، فقد استغل هذا المستشرق المعروف بعداوته لواقع المسلمين المزري الذي أُطّر بتفاوت الأزمان بقبولهم لولاية المتغلب الذي يجبر الناس على السمع والطاعة له دونما احترام لتراث قانوني فقهي تم الاتفاق عليه بين الجميع يبدأ بالبيعة التي يعقبها الأصول الأساسية المميزة لعلاقة الحاكم والمحكوم في ظل الحكومة الإسلامية.
ولم يكن مارجليوث هو المستشرق الغربي الوحيد الذي استغل الهوة السحيقة، والواقع النزق الذي سقط المسلمون فيه، فقد كانت ثمة مساجلات عنيفة بين الإمام محمد عبده وبين المستشرق الفرنسي إرنست رينان في القرن التاسع عشر استغل فيها هذا الأخير ذات الحجة التي اتكأ عليها مارجليوث، وقد كان رد الإمام عبده عليه قاطعًا: بأنه لا يمكن بأي حال أن نحكم على الإسلام بواقع المسلمين، موضحًا بذلك الخلل الفكري والمعرفي الذي وقع فيه هؤلاء المستشرقون عن عمد أو جهل[1].
لقد كانت ولاية المتغلب التي تناولتها جل كتب الفقه الإسلامي أمرًا طارئًا أقر الجميع بطروئه وضرورته باعتباره أخف الضررين الذين يمكن أن نقبلهما لحين انجلاء هذا الطارئ العسر، والغريب أن هذه الشبهة التي أثارها المستشرقون في القرون الأخيرة سمعها الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري من مجموعة من الناس زعموا ألا وجود لحاكم شرعي؛ وقد رد عليهم العلامة أبو حامد الغزالي بقوله البديع: "..فإن قيل فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظوارت، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها، فأي أحواله أحسن: أن يقول القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو أن يقول الإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار، فهو بين ثلاثة أمور: إما أن يمنع الناس من الأنكحة والتصرفات المنوطة بالقضاة وهو مستحيل ومؤدي إلى تعطيل المعايش كلها ويفضي إلى تشتيت الآراء ومهلك للجماهير والدهماء. أو يقول: إنهم يقدمون على الأنكحة والتصرفات ولكنهم مقدمون على الحرام، إلا أنه لا يحكم بفسقهم ومعصيتهم لضرورة الحال. وإما أن نقول: يحكم بانعقاد الإمامة مع فوات شروطها لضرورة الحال ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب، وأهون الشرين خير بالإضافة، ويجب على العاقل اختياره"[2].
لكن الغزالي الذي توفي في بداية القرن السادس الهجري لم يرَ ما جاء بعده من قرون تسعة استطالت فيها الأمة ولاية المتغلب كثيرًا ولم يأت الفرج بانعقاد الولايات الصحيحة إلا في أوقات قليلة، وإنه من الإنصاف أن نراجع تعاطي فقهائنا ومجتهدينا مع هذه القضية التي أثارت القيل والقال في عشرات من المؤلفات النافعة والغثة.
لقد كان العلامة ابن خلدون رحمه الله أحد أبرز الفقهاء الاجتماعيين المرتبطين بواقعهم ارتباطًا جعله يتناول المسائل الفقهية والاجتماعية بمنظور جديد متجدد لا نزال نستقي منه ما ينفعنا، لقد ربط ابن خلدون العدل بصلاح الدولة، وألمح بطرف ذكي أن ولاية المتغلب لا يأتي من ورائها إلا الظلم، ونحن نتيقن من هذا من خلال تأملنا مثلا لعلاقة الحاكم بالمحكوم في المجتمعات الإسلامية في القرنين الأخيرين، وقد عقد رحمه الله في مقدمته الشهيرة فصلاً بعنوان "في أن الظلم مؤذن بخراب العمران" كان مما جاء فيه: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها؛ لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلي قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته، والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال، وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين، فإذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وابذعرّ الناس في الآفاق من غير تلك الايالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها؛ فخف ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة"[3].
ومن ثم يأتي السؤال المهم: ما هي الحلول العملية التي اجتهد مجتهدونا في استنباطها لإزالة حكم المتغلبين الظالمين؟
الحق أن شيخنا وأستاذ أساتذتنا محمد ضياء الدين الريس رحمه الله قد أجلى هذه القضية بشيء من التفصيل والترتيب في كتابه الرائع "النظريات السياسية الإسلامية"، وقد أجاب بمنتهى القطع على هذا السؤال بقوله: "إذا أردنا أن نحدد موقف الفقهاء في هذه المسألة قلنا: إنهم جميعًا متفقون – ولا خلاف بينهم – على أن مثل هذا الإمام أو الوالي الذي لا تنطبق القواعد على توليته }وأهمها العدل والشورى والمسئولية{ مستحق العزل ويجب عزله إذا قدر على ذلك، وأقوالهم التي نصّوا فيها على وجوب العزل قاطعة بذلك. لكن الخلاف بينهم فيما إذا لم يقدر على الإمام وظهر أنه من غير الممكن عزله، فهل يحكم بانعزاله: أي بأن إمامته تبطل من تلقاء نفسها وبطريقة مباشرة من دون خلع واستبدال؟ ثم هل يجب الخروج حينئذٍ وإعلان الحرب عليه، وتحت أي ظروف، وبأي شروط؟"[4].
ودون الخوض في التفصيلات التي ذكرها الدكتور رحمه الله أتوقف عند قوله: "الفِرقُ كلها مجمعة أولاً على أن مثل هذا الحاكم إذا قامت عليه ثورة – أي ثورة كانت – ثم نجحت فإن ولايته باطلة وخلعه صحيح، والثورة مبررة شرعية؛ فالاعتراف إذن بولايته – إذا وجد مثل هذا الاعتراف (وهو ما نراه من بعض الحمقى اليوم في ظل الثورات العربية) – قائم على أوهى أساس، وهو قائم في نفس الوقت الذي يُوجد فيه الاستعداد للاعتراف بشرعية الثورة عليه إذا ضمن نجاحها، وبصحة ولاية من يقوم مقامه. أما من حيث الخروج، ويعبرون عنه بسل السيف، والمراد به القيام بثورة مسلحة فإن الناس اختلفوا في ذلك على أقوال ... وكل هؤلاء مجمعون على أن سلّ السيوف، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، وقد أكد ابن حزم أن هذا هو مذهب كثير من أهل السنة.. قال: وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وأصحابهم، فإن كل من ذكرنا – من قديم وحديث – إما ناطق بذلك في فتواه، وإما فاعل لذلك، بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكرًا."[5].
ومن اللافت أنه ظهر فريق آخر من الفقهاء ومن متأخري رجال الحديث خاصة يقولون بمذهب الصبر على الحاكم، وكانت أدلتهم الفقهية قائمة على أن هذا ما قام به جل الصحابة الذين امتنعوا عن القتال في عهد الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وكان الامتناع عن سل السيف هو أيضًا الرأي الذي اختاره عثمان رضي الله عنه وثبت عليه، بل نهى غيره عن أن يبدأ بقتال يؤدي إلى سفك دم مسلم من أجل الدفاع عنه، وفي هذا يقول الإمام ابن عبد البر القرطبي رحمه الله: "وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم فقالوا هذا هو الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عالما عدلا محسنا قويا على القيام كما يلزمه في الإمامة فإن لم يكن فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي الدهماء وتبييت الغارات على المسلمين والفساد في الأرض وهذا أعظم من الصبر على جور الجائر"[6].
لكن الصبر على الحاكم المتغلب الظالم، هو صبر على ضياع الدولة، وتشرذم الملة، وتفرق الكلمة، واستيلاء النقص على المجتمع المسلم، وضياع هيبة البلاد والعباد ومن ثم استيلاء العدو، وهذا ما يؤيده التاريخ لاسيما الحديث في كل أقطار المسلمين تلك التي وقعت في قبضة الاستعمار وحتى بعد تحررها من هؤلاء الناهبين لم نر دولة مسلمة قوية داخليا أو خارجيًا إلا وحكامها ممن جاءوا بالبيعة الشرعية، أيًا كانت آليات هذه البيعة وفقا للزمان والمكان والبيئات، وفي المقال القادم إن شاء الله سنعرض ردود بعض العلماء الذين فنّدوا مبدأ الصبر على الحاكم الجائر، وأظهروا أنهم بإقرارهم لهذا المبدأ قد أقروا بالشاذّ وتركوا الأصل الذي يجب أن يعاد تجديده وإرجاعه ونشره بين الناس كافة، كما سنعرض لأهم الخصال التي يجب أن تتوفر في الحاكم المسلم.
نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
[1] راجع محمد عبده: الأعمال الكاملة ( مجلد الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات)، تحقيق محمد عمارة ص337 – 351.
[2] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد ص137، 138.
[3] ابن خلدون: المقدمة ص286، 287.
[4] محمد ضياء الدين الريس: النظريات السياسية الإسلامية ص349، 350.
[5] محمد ضياء الدين الريس: السابق ص352.
[6] ابن عبد البر: الاستذكار 5/16.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق