قامت الثورة بشعاراتها الأولى (عيش – حرية – عدالة اجتماعية) ثم تطورات هذه الشعارات إلى (الشعب يريد إسقاط النظام) ثم إلى (الشعب يريد محاكمة النظام) ثم سقط النظام وبدأت محاكمته وتناسينا المطالب الأولى للثورة وأولها "العيش"!
من العجيب أن كلمة "العيش" تطلق عند المصريين على الخبز، ولم أجد أي بلد في العالم العربي خاصة يطلق على خبزه لفظة "العيش" إلا نحن؛ وما أرى ذلك إلا دلالة على ارتباط وضعنا الاقتصادي والغذائي برمته على الخبز، حتى أصبح الخبز هو "العيش" على قلته!!
لقد أمّلت الجماهير التي خرجت بالملايين في الثورة خيرًا، وأراد هؤلاء الفقراء وهم نصف الشعب المصري أو أكثر بقليل أن "يقبوا على وش المية" وينظر المسئولون الجدد عن أحوالهم، عن طوابير عيشهم، ومساكنهم وقماماتهم ومعاشهم وبؤسهم وتعليمهم ومرضهم، أن يجدوا أخيرا من يلملم شتاتهم، ويأخذهم في أحضانه طالبًا المغفرة منهم على تقصيره لهم إما بالسكوت أو المشاركة.
حينما نرى أن نسبة البطالة بعد الثورة كما هي، ونرى أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للمصري العادي الذي يسير عابسًا بائسًا في شوارع العاصمة أو حتى في قرية نائية يكلم نفسه متسائلاً عن كيفية توفير "العيش" لأولاده كما هي، ونرى تلك السيدات الفقيرات اللاتي لا يملكن من أمرهن سوى الانتظار في الطابور ليأخذن في نهاية الأمر بعد صخب ولغط وضرب وإهانة عشرة "أرغفة" أو أقل أو أكثر بقليل، نراهن كما هن واقفات في ذات الطابور، متعرضات لذات الإهانة، لا يفهمن ولا تكاد تعرفن معنى الثورة أصلاً فإنني أفهم أن الثورة لم تقم!
حينما أنزل إلى قريتي في الدلتا ولا أزال أجد أن هؤلاء الذين كانوا يخبزون "العيش القمحي" باستمرار، قد تنازلوا عن عادتهم القديمة لغلاء القمح - فبيعه أولى من أكله – واستعاضوا عنه الوقوف في ذات الطابور الذي يقف فيه القاهريون متناحرون فإنني أفهم أن الثورة لم تقم أيضًا!
حينما أرى أن الأطباء مضربون عن العمل بسبب تدني رواتبهم، والمستشفيات الحكومية لا تزال كما هي بل أسوأ من ذي قبل في بعضها، والمعلمون مضربون، بل أساتذة الجامعات مضربون فإنني أفهم أن الثورة لم تقم.
العجيب وأنني أكتب هذه المقالة ( مساء يوم 18 سبتمبر ) أقرأ عن قيام مسيرة في القاهرة للمطالبة بتحسين الأوضاع الطبية والمعيشية.. لقد أنستنا مشاحناتنا السياسية، وانغلاقنا على أنفسنا أن هناك إخوة وأقارب وأحباب لنا في هذا البلد لا يستحقون هذه المعاناة وهذا التجاهل، لماذا يسكت المصريون على كل هذا، هل تحسبون أن الفقراء سعداء بعد الثورة؟ هل تدركون أن مفهوم الثورة بالنسبة لهؤلاء صار مجرد ألفاظ وأحرف لا قيمة لها، كأنها وخز إبرة في جسد مخدّر لا يشعر به؟!
هل هذا مقصود؟ أن يشعر الفقراء وعامة أهل مصر ممن يقتربون من الفقر أن الثورة لم تقدم لهم أي جديد، لا في الوضع الاقتصادي والغذائي، ولا في الوضع الاجتماعي والضماني، ولا حتى في حرية الإنسان وكرامته التي يمكن أن تكبّل من جديد بقانون طوارئ أُضيف إليه بنود جديدة.
لماذا كل هذه المشاحنات السياسية والناس أصلاً لا تشعر بأن ثمة ثورة قامت؟ إنهم ينظرون لهؤلاء الساسة على أنهم مجموعة من المتحمسين الذين يتناحرون في الهواء الطلق دونما طائل من هذا التناحر.. هل أصبح المصري الساكت الذي يكلم نفسه أكثر عمقًا وفهمًا للواقع من هؤلاء المتناحرين على السراب؟!
إن أي معادلة أو استحقاق سياسي لا يأخذ في اعتباره تقديم حلول فورية للفقراء لهو عبث وإضاعة للوقت والمال والجهد، وهؤلاء كمن يتشاجرون ويقسمون الميراث أمام محتضر لا يزال ينظر إليهم!
أولئك الخيرون القائمون على "بنك الطعام المصري" الذي كل همه توصيل الوجبات المجانية لمنازل الفقراء، أو "جمعية رسالة" التي توفر الملبس المستعمل للفقراء، أو مستشفى "57357" التي تقدم الرعاية الطبية المجانية للفقراء وأشباهها، كلهم يشترك في سمة واحدة تعطي لنا لفتة عميقة وهي أن هذا الشعب الفقير لا يزال يطعم نفسه، ويُعالج نفسه، ويكسو نفسه، هذا وأصحاب السيارات الفارهة، والمتشاحنون سياسيًا وحزبيًا في أوديتهم يهيمون على مصالحهم الخاصة، علّهم أصلاً يحققونها!
قد يعترض القارئ ويقول: إننا في بداية الثورة فكيف تطلب من هؤلاء الساسة المخلصون أن يحققوا أحلام ملايين من الفقراء في أشهر قليلة؟ فهذا قطعًا سؤال ظاهره الجدّة، لكن هؤلاء الذين يتعللون بهذه الإجابات التي يحسبونها نموذجية لا يرون الواقع إلا برؤيتهم وخريطتهم الإدراكية الضيقة، فتلك الأشهر السبعة كانت كفيلة، لو كنا في ثورة حقيقية، بظهور مشاريع عملاقة هدفها القضاء على الفقر والبطالة، أو حتى تحركات أقل من المشاريع العملاقة نرى من خلالها بوادر جادة لتحقيق المطالب الاجتماعية للثورة، لكن يبدو أن المطالب الاجتماعية للثورة قد لحقت بالمطالب السياسية التي لا نزال نراها سرابًا وخيالاً ووميضًا بعيدًا!
أريد من أي عاقل في هذا البلد أن يُقيّم لي تلك الأشهر السبعة بإخلاص وتجرد: هل نجحت الثورة؟ هل شعر الفقراء ومعدن الثورة الحقيقي بأن قتلاهم وجرحاهم وأصواتهم ومجهودهم كان في محله حينما خرجوا؟
لا أريد من وراء هذا المقال أن أثبط الهمم، أو أُقعد الناس عن المطالبة بالإصلاح، بقدر ما أريد إعادة تجديد روح الثورة، والانتباه إلى الفقراء والمساكين والمرضى والمقعدين والبؤساء في هذا الوطن، فهؤلاء ما تجدد لديهم الأمل، وما ذرفوا دموع الفرح، وما تلبسوا رداء الشجاعة والخروج، إلا ليكون لهم مكان تحت شمس هذا البلد الجديد بعدما كانوا وراءها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق