كان الدافع لكتابة هذه السلسلة الثلاثية من المقالات بسبب حوار دار بيني وبين أحد الإخوة الكرام ممن يخطبون الجمعة ويعتلون المنابر، وكانت خطبته تدور حول ضرورة الصبر على الحاكم الجائر وعدم الخروج عليه أو خلعه أو الثورة أمام ظلمه وجبروته بحجة المآلات السيئة التي تترتب على ذلك، ثم دارت بيننا مناقشة عقب الصلاة أوضحتُ له فيها أن الرأي القائل بالصبر على الحاكم الظالم مع وجود القدرة على خلعه هو ظلم كبير وفساد عظيم للأمة كلها، وأوضحت أن الرأي الذي أخذ به هو الشاذّ أو بالأحرى الضرورة، والأصل أن الأمة لها القوامة في خلع الإمام الجائر الزائغ عن الحق، فما كان منه إلا أن جاء لي بأحد الكتب التي جعلها عمدة له في خطبته تلك، وقد راجعت الكتاب فرأيته لمؤلف لا يملك من الاجتهاد شيئًا، وكل ما فعله أنه أخرج الآراء الفقهية التي تعضد وجهة نظره، وهذا ما يسمى بالاجتهاد التسويغي الذي يدخل فيه العالم أو طالب العلم برؤية وقناعة مسبقة يبحث لها عن الأدلة التي تؤيدها وتقويها، وهو بذلك مجرد ناقل لا أكثر.
إن طالب العلم أو العالم الذي يكتفي بنقل آراء فقهية مختلف عليها ويحاول أن يسبغ عليها الإجماع والإجماع منها براء لهو أمر خطير بشقيه النظري الفقهي والواقعي العملي؛ لأن هذه الآراء الفقهية التي يُبغى من ورائها تقديم الحلول للناس من العلماء – وهم صفوة المجتمع – تصبح – كما الحال سابقا – مُقعدة للناس في وقت وجبت الحركة ودفع الظلم، بل إن نقل هذه الآراء المجردة عن الواقع الحاضر لهي أشبه بتلك الآراء الطبية التي كتبها أطباء الحضارة الإسلامية في القرن الخامس أو السادس الهجري ليأتي بها مجرد قارئ لكتبهم وينشرها من جديد محاولا إجبار الناس على الأخذ بها بحجة أنها مما أجمع عليه أطباء تلك العصور!
وليس الغرض الغض من الآراء الفقهية التي كتبها علماؤنا الأجلاء على مدار تاريخ التراث الفقهي وإنما الغرض يتمثل في وجوب فهم الواقع، وعدم اقتطاع الآراء الفقهية عن سياقها التاريخي لأن الفقه ليس مجرد آراء نظرية واختلافات منبتة عن الوقائع والنوازل.
على أية حال، لقد رأينا أن بعض المستشرقين استغلوا الواقع المزري للمسلمين ليخرجوا بأحكام اجتماعية و سياسية عامة تصف نظام الحكم الإسلامي بأنه نظام ديكتاتوري جبري ليس للأمة فيه قيمة ولا رأي، وقد تزعم هذه الآراء المستشرقان مرجليوث ورينان وغيرهما من الناقمين على تراث الإسلام، ولم يعلم هؤلاء أن فقهاء المسلمين مجمعون على أن القوامة على الحاكم للأمة، والحق أنني قد أعذرُ هؤلاء بسبب الواقع المشوّه الذي عاش فيه المسلمون خاصة في القرون الأربعة أو الثلاثة الأخيرة لأسباب عديدة منها تلك الآراء الفقهية المقعدة المستسلمة التي أسبغت على الأمة الجبرية والنكوص على العقب!
لقد كان حديثي في المقال السابق تعريضا بإمامة المتغلب الذي يتحول مع الوقت إلى جائر على شعبه مستكين على العدو، وقد أوضحنا أن هذا الإمام / الرئيس/ الملك الجائر يتسبب في انهيار مكتسبات الأمة، وهذه المكتسبات هي المحددات التي جعلها الإمام الجويني في كتابه "الغياثي" من دلائل قبول الأمة للإمام، فقد قال رحمه الله: "إن مقصود الإمامة القيام بالمهمات والنهوض بحفظ الحوزة وضم النشر وحفظ البلاد الدانية والنائية بالعين الكالية"[1].
إنه لا مشاحّة في أنه ليس من غرضي البحث فيما بُحث فيه سابقا والغرق في تفاصيل فقهية اختلف فيها الفقهاء، بقدر ما هو محاولة لفهم الواقع الاجتماعي الذي ترتب على ولاية الإمام المتغلب الجائر/ الرئيس الظالم العسوف، وهي الرؤية التي عبّر عنها العلامة ابن خلدون ببراعة في مقدمته الرائقة لا سيما في فصل "أن الظلم مؤذن بخراب العمران"، وهي خطوة اجتماعية حضارية فقهية في المقام الأول تراعي أمر الله الصريح في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[2]}، فهذا العدل هو غاية الغايات في الحكم الإسلامي، وهو أساس أي ملك أو ولاية، بل هو أحد المقاصد الكبرى للإسلام.
لقد ذكر جمهرة من الفقهاء صراحة أن القوامة للأمة، وهي الوحيدة أو من ينوب عنها من أهل الحل والعقد الحقيقيين المعبرين عنها بأمانة وصدق القادرة على انتزاع أو خلع أو الإطاحة بالإمام الجائر، وقد اختلفوا في الفاسق وليس حديثنا هنا عن الفاسق ففسقه على نفسه كما أشار إلى ذلك كل من الجويني والغزالي وغيرهما لتسويغات مهمة، وبعضهم أقر بعزله كما صرح الإمام الشافعي من قبلهما.
وعن حق الأمة في القوامة يقول الإمام الشافعي رحمه الله فيما رواه عنه الإمام التفتازاني في شرحه للعقائد النسفية: "إن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاض وأمير"[3]، وقال عالم بغداد وفقيهها عبد القاهر البغدادي: "ومتى زاغ (الإمام) عن ذلك كانت الإمامة عيارًا عليه؛ في العدول به من خطئه إلى صواب، أو في العدول عنه إلى غيره. وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعماله وسعاته: إن زاغوا عن سنته عدل بهم، أو عدل عنهم"[4].
وقد عقّب الدكتور الريس رحمه الله على كلمات البغدادي النيرات بقوله: "هذا المبدأ الذي قرّره البغدادي أحد مجتهدي شريعة الإسلام – وقد عاش في القرنين الرابع والخامس الهجريين – هو لُباب ما في أرقى الدساتير الحديثة التي عرفها الغرب؛ فسيادة الأمة بالنسبة إلى الإمام مقررة بكل وضوح، وعلاقة الأمة به كعلاقته مع خلفائه وعماله وسعاته تمامًا"[5].
وهذه القوامة لكل الأمة لا حجر فيها لرأي بحجة أن قائله من العامة، فهذه الحجة قد لا تنفع إذا كان العامي جاهلاً بمجريات الأمور والأوضاع ولذلك رفض الإمام الجويني عزل الإمام بالفسق لأن الناس أو أي جماعة لها مصلحة ومطمعة في الحكم قد تصف الحاكم بالفسق ومن ثم تزول الإمامة ولا تنعقد ويعيش الناس في هرج من أمرهم، لكن لكل الناس الحق في دفع الظلم إذ لا يحتاج إلا إلى شعور عام على النفس والغير ليتحرك المسلم لدفعه، ولذلك "جعلت الشريعة القول واجباً على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة والنظام العام وفي كل ما تعتبره الشريعة منكراً"[6].
ومن ثم فمن حق الأمة التي تملك القوامة والسلطة الحقيقية والقدرة أن تعزل أو تخلع أو تخرج على الإمام المتغلب الذي جمع مع تغلبه الجور والعسف، وإمامة المتغلب "كلها تجري على قاعدة الاضطرار"[7]، والأصل فيه أن يستجمع شرائط الإمامة التي اتفق عليها العلماء أو جلها أو أكثرها، فمتى خالف ذلك انعزل.
ومن اللافت أن الإمام رشيد رضا قد فرّق بين متغلبين: الأول اختاره ووافق عليه أهل الحل والعقد/ الشورى/ ممثلو الأمة، مع فقدانه لبعض شروط الإمامة/دستور الأمة؛ لطارئ أوجب عليهم ذلك. والثاني: متغلب ظالم عسوف فاسق. فنراه قائلاً عن كلا الإمامين: "ذاك يطاع اختياراً، وهذا يطاع اضطراراً . ومعنى هذا أن سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة تنفذ بالقهر وتكون أدنى من الفوضى . . ومقتضاه أنه يجب السعي دائما لإزالتها عند الإمكان، ولا يجوز أن تُوطَّن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلبين يتقاذفونها ويتلقونها، كما فعلت الأمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها بقوتها الكامنة فيها، وكون قوة ملوكها وأمرائها منها، ألم تر إلى من استناروا بالعلم الاجتماعي منها كيف هبوا لإسقاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين؟!"[8].
ليس هناك كلام أوضح ولا أعقل من الذي قاله الإمام رشيد رضا رحمه الله، لقد نسي كثير من العلماء أو طلاب العلم أن إمامة المتغلب الذي أجبر الناس على سمعه وطاعته مجرد طارئ وجب عليهم السعي لانتقاضه بل هو فرض كفائي كما ألمح الشيخ رحمه الله، وليس تدريس هذا الباب "ولاية المتغلب" وتعليمه وتلقينه للناس كأنه الأصل الذي وجب عليهم اتباعه وقبوله! ألم ينظر هؤلاء إلى تردي الأمم المغلوبة على أمرها؟ كيف هي حضاراتهم وكيف هي أوضاعهم؟ ألم يروا أنهم في وادٍ وحال أمتهم وضياعها بسبب هؤلاء المتغلبين في وادٍ آخر؟!!
لقد ذكرنا في المقال السابق أن الذين قالوا بوجوب الصبر على الحاكم المتغلب وإن كان جائرًا هو الخوف من حدوث الفتنة وسفك الدماء واضطراب الأحوال والاعتداء على الحقوق، وكانت لهم العبرة في أفعال الصحابة زمن الفتنة، لكن هذا المذهب هو الذي أُسيء فهمه، والذي حمل بعض النقاد والمستشرقين على فقهاء أهل السنة ودعاهم إلى النقد أن عبارات بعض المؤلفين من المتأخرين تذكر بمسألة الصبر على أئمة الجور، وانعقاد بيعة المتغلب، كأنها أمر عادي، أو كأنها إحدى القواعد الأصلية دون أن تنبه إلى أنها مسألة شاذّة أو ضرورة، وذلك إما للرغبة في الإيجاز أو لطول ما مرّ عليهم من قرون وعهود وهم يرون هذا الحكم الذي لا تنطبق عليه قواعد الشرع باقيًا ثابتًا؛ وكأنه لا يُستطاع تغييره وكأنه صار مما يقتضيه – لا محالة القانون الوجودي[9]، وفي المقال القادم والأخير سنفصل في تحقيق مذهب القائلين بالصبر إن شاء الله.
لكن ثمة كلمة أخيرة لا بد منها وهي: إن من يتأمل في أوضاع العالم المعاصر ليجد أن هناك دول العالم الأول والثالث، وتصنيف هذه الدول من حيث التقدم والتخلف يرجع إلى نُظم الحكم فيها ومدى احترامها لحقوق الإنسان وأولها الكرامة والحرية والعدل والمساواة، وحرية الأمة في اختيارها وأنها مصدر السلطات، وهذا المبدأ لا يتعارض مع الإسلام مطلقًا فقد أمر الله صراحة نبيه أن يشاور أصحابه ومن يعيشون في أمره الإداري والدنيوي مع مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وعصمته وتأييده من الوحي، يقول تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[10]}، وقد نفّذ نبي الله ما أمره به سبحانه وتعالى، فلم يكن رسولنا صلى الله عليه وسلم منفردًا بالأمر وحده، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيتُ أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم"[11].
ومن أجمل ما أختم به هذا المقال، ما ذكره الإمام الحسن البصري تعقيبا على مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم غنياً عن المشاورة، و لكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده"[12]، والشورى أساس الحكم الرشيد القائم على تفعيل مصالح العباد، وهو ما لم نره في ولاية المتغلب أو الجائر!
نُشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
[1] الجويني: غياث الأمم والتياث الظلم، تحقيق مصطفى حلمي وفؤاد عبد الباقي ص76.
[2] (النحل: 90).
[3] النسفي: شرح العقائد النسفية ص145.
[4] البغدادي: أصول الدين ص69.
[5] الريس: النظريات السياسية الإسلامية ص340.
[6] عبد القادر عودة: التشريع الجنائي في الإسلام 1/72.
[7] محمد رشيد رضا: الخلافة ص48.
[8] رشيد رضا: السابق ص45.
[9] الريس: النظريات السياسية ص352، 353.
[10] (آل عمران: 159}.
[11] سنن الترمذي 4/213 ح1714. قال الألباني: ضعيف بزيادة في المتن. والحديث يؤيده صريح القرآن وصحيح سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
[12] ابن جماعة: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، تحقيق فؤاد عبد المنعم ص66، 67.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق