حديثُ الثورة حديث ذو شجون؛ إنه يثير في النفس تلك المشاهد الكئيبة الماضية التي جعلتنا نثور لإزالة بعض الظلم الذي أصاب المصريين في مقتل طوال سنين عدة، كما يثير فينا الدهشة والاستفسار والاستنفار في كثير من الأوقات حول مآلات هذه الثورة، وأين وصلت، وإلى أين ستصل، وإلى من يمكن أن تؤول مقاليد البلاد.. هل لإسلامي أم ليبرالي أم مستقل لا يهتم بهذه التوجهات أم تتحقق المفاجأة ويأتي عسكري (متقاعد) ليمسك البلاد في مشهد درامي مأساوي جديد، أم أن هذه الأسئلة كلها ليست في محلها لأن الأمور لن تتضح قبل أعوام عدة!!
إن المتابع لسياسة الإسلاميين في مصر يتعجب من نهجهم، فنرى التناقض في مشهد مركب يصعب تفسيره في بعض الأوقات، ففي الوقت الذي يجلس فيه الإخوان متحاورين ومنضمين مع التحالف الديمقراطي، وفي الوقت الذي يوافقون فيه على الوثيقة "المنسوبة" للأزهر وهي الاسترشادية نراهم منضمين للجبهة الشرعية للحقوق والإصلاح التي خرج حزب النور السلفي المنتمي إليها من أحزاب التحالف الديمقراطي نتيجة سياسة الإقصاء والتهميش وكأنه حزب لا شعبية له، وكان الأحرى بالأحزاب الإسلامية في هذا التحالف أن يدافعوا عن ذات الفكرة التي خرج بسببها حزب النور من التحالف.
بالأمس سمعت من الدكتور حازم أبو إسماعيل رأيه في وثيقة الأزهر، وقد كانت إجابته أن هذه الوثيقة لا تمتُّ للأزهر بشيء فلم ترها أو تطلع عليها هيئة كبار العلماء، ولو رأوها لرفضوها يقينا، ومن قبلُ لم أكن متعجبا من أن يأتي الدكتور البرادعي أو السيد عمرو موسى أو المستشار البسطويسي وغيرهم بالحماس الشديد لتأييدهم لهذه الوثيقة "التنويرية" التي خرجت من الأزهر الجديد.. نعم الأزهر الجديد الذي لم يطلع كبار علمائه على هذه الوثيقة، ولم يُبدوا فيها رأيًا ولا مشورة، هذا هو الأزهر الذي يريده علمانيو مصر ومتنوروها!
وقد كان من اللافت أن حزب الحرية والعدالة قد وافق على هذه الوثيقة في الوقت الذي رفضها فيه حزب النور في ذات الجلسة، وفي قبول الإخوان ورفض السلفيين ما قد يبعث على التأمل والأسف من محصلة موقف الفريقين.
إن هذه الوثيقة التي وافق عليها الإخوان المسلمون باعتبارها استرشادية غير ملزمة لن تكون كذلك في ظني، فلو فكرنا مليًا عند وضع لجنة الدستور للدستور وقد حدث خلاف بين أعضائها – خلاف متعمد أو غيره – حول إحدى المواد فما الحل وقتها لتوافق هؤلاء المختلفين؟
أفهم أن دساتير الدول الديمقراطية تمر بأربع خطوات: النقاش، والصياغة، والتصويت داخل لجنة الصياغة، ثم التصديق من الشعب أو من الجهة التي فوضها الشعب، غير أنه في ظني أثناء مرحلة المناقشة والصياغة قد يرجع هؤلاء المختلفون إلى هذه الاسترشادية وتصبح بصورة أو أخرى "فوق دستورية" وإذا لم يوافق فريق من لجنة وضع الدستور على الانصياع لهذه الاسترشادية وتصلب كل فريق فما مآلات هذا الشقاق؟
إن أبرز النتائج المترتبة على هذا الشقاق أن تطول المدة الزمنية لحكم المجلس العسكري، واستمرار إمساك كثير من أصحاب المنافع والمصالح الخاصة لزمام الأمور في أجهزة الدولة، والله يعلم وقتها متى سيصل هؤلاء إلى حلٍ، وقد يتسبب هذا بشكل أو بآخر في تنازل كل فريق أو أحدهما عن جزء من موقفه وتصلبه للآخر؛ لنرى دستورا – في رأيي – غير بعيد عما سبقه من دساتير توطئ بشكل أو بآخر لأحد أمرين: مدنية الدولة باعتبارها مصطلحا فضفاضًا يكون أقرب ما يكون إلى العلمانية. والأمر الآخر التمهيد لمجيء الديكتاتورية مرة أخرى متمثلة في فرد أو فريق أو طائفة بعينها. وإذا قلنا إن الشعب سيصوت برفض أي دستور يتعارض مع مصالحه، فهذا جيد غير أن دوامة صنع دستور جديد ستتسبب في ضياع الوقت وضجر الناس ثم التنازل في نهاية المطاف، وسياسة النفس الطويل سياسة عادة لا تحبها ولا تقدر عليها الشعوب؛ هذا إذا كان الشعب هو الذي سيصوت على هذا الدستور وليس مجلس الشعب الذي لا نعلم حجم العلمانيين والإسلاميين فيه.
هذا كله قد يحدث بسبب هذه الوثيقة "الاسترشادية" فما بالنا بـ"فوق دستورية" تقيد المشرّعين بوضع الدستور الجديد بناء على ما قام بالإشراف عليه المستشارة تهاني الجبالي التي تثير جدلا واسعا بين الإسلاميين، ومن خلفها الدكتور السلمي الليبرالي الوفدي، والكل يعلم حقيقة هذه الوثيقة وما تفرضه من وصاية علنية على إرادة الناس.
إن الموافقة على أي وثيقة تحت أي مسمى إنما هو إجبار المصريين على التنازل لصالح فريق بعينه، وهذه هي الديكتاتورية التي يحاول أن يسوقها الليبراليون على أنها "جرعة الحماية" التي تحفظ الدولة المصرية من الانصياع لرأي فريق قد يرسخ للديكتاتورية، لأن الدستور – كما يقولون – لا يجب إلا أن يأتي على توافق، ولا أُشبه هذه السياسة إلا بالمثل العربي الشهير: رمتني بدائها وانسلت!
إن اتهاميَ الآخر بما فيّ من إشكالية حب الذات، والتمحور حول الأنا، والسيطرة التي يراها – رغم شرعيتها الانتخابية – غير شرعية لأنه يعلم وفقا لحجمه الحقيقي في الشارع أنه سيخرج من "مولد السيطرة على الدولة بلا حُمّص"، هي جريمة سياسية وأخلاقية في المقام الأول، ولدرء هذه الجريمة قبل وقوعها على الوطنيين الحقيقيين الآن في مصر أن يرفضوا وبشدة أي ورقة – ولو كانت استرشادية - تقيدهم برؤية معينة، أو لحساب فريق معين، أو تفسَّر بطرق ملتوية؛ لأن هؤلاء الملايين الذين خرجوا لإسقاط أعاظم الظالمين لن يخافوا من شرذمة تدعي النخبوية والثقافة والعلية على المجتمع، وقد سبقهم المجتمع وتجاوزهم وهم لا يشعرون، ومثل هذه الأحداث لو وقعت فأظن أنها ستتسبب في ثورة تصحيح لثورة يناير!
أخيرا نقول إنه من الغريب أننا قرأنا منذ أيام أن السيد نائب رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة يقرر أن مدنية الدولة قضية أمن قومي، وكم كنا نتمنى أن يفسر لنا ماهية المدنية هنا، أو ينفي ويكذّب هذه التصريحات حتى لا يستقوي فريق على آخر في معركة الوثائق الدستورية هذه بجهة يحسب الجميع أنها محايدة وعلى مسافة واحدة من جميع الأطراف.
نشر في شبكة رصد الإخبارية وجريد المصريون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق