من عجيب الأمور أن الأزهر الشريف قد أُنشئ من قبل الفاطميين العُبيديين في القرن الرابع الهجري ليكون مركز التشيع في العالم الإسلامي غير أنه لم يلبث على هذه الحالة إلا مدة قرنين وبضع سنين حتى جاء صلاح الدين الأيوبي ليطهر مصر من ربقة هذا التشيع والرفض وسب الصحابة والبدع والخرافات التي كانت تقال علانية في صحن الأزهر قلب مصر الإسلامية، ويجعل هذا الجامع مركزًا عالميًا لأهل السنة بكافة مذاهبهم وانتماءاتهم.
ولم يلبث هذا الجامع العريق الذي أصبح رمزًا للعزة الإسلامية، والسيادة المصرية، والقوة العربية طوال قرون عدة، حتى أصبح له مشيخة في القرن الحادي عشر للهجرة، ليتم تقنين وتنظيم الأمور العلمية والعقدية في هذا الكيان العظيم، ثم لما كانت مصر ولا تزال في قلب العالم الإسلامي بين الشرق والغرب رأينا إشارات الرحالة وعلماء العالم الإسلامي وغير الإسلامي غاصة في كتبهم ومظانهم تنضح بالإعجاب به وبحوزاته وعلمائه وطرائق التعليم فيه.
لم تقتصر تجربة الأزهر الشريف عند حدود التعليم والتربية والتثقيف بل كان لعلمائه دورهم الأجل في حفظ السيادة المصرية، وقديما وبالتحديد في القرن العاشر الهجري سقطت الدولة المملوكية لتصبح مصر ولاية عثمانية تابعة لاسطنبول، وقد كان من الطبيعي أن يخبو دور مصر والأزهر، لكن على العكس؛ فقد كان الأتراك أشد إعجابًا وانبهارًا وتعلقًا بمؤسسات مصر الثقافية وعلى رأسها هذا الصرح العظيم، وعظم مع الوقت الدور السياسي لعلماء الأزهر، حتى كانت كلمتهم مسموعة من الأتراك وبقية المماليك في مصر، فكانوا إذا رأوا فساد أحد العثمانيين فضلاً عن المماليك سعوا لعزله والقضاء عليه، وكانوا ينجحون في ذلك بكل سهولة ويسر!
ولما دخل الفرنسيون مصر في أواخر القرن الثامن عشر، ثم حول نابليون الأحمق الأزهر ليكون إسطبلاً للخيول الفرنسية، إمعانًا وحنقًا من هؤلاء الأزاهرة الذين قادوا لواء المقاومة والتنوير وضرب القوات الفرنسية في مقتل، لم يخرجه في نهاية المطاف إلا الأزاهرة الذين كانوا يملكون القوة الشرعية والحقيقية في مصر، والتي كانت العامة تثق فيهم كل الثقة، لذلك تم القضاء على أعظم جيش في العالم وقتها في ثلاث سنوات فقط!
ثم لما ذهب الفرنسيون إلى غير رجعة، واتفق رأي المصريين وعلى رأسهم الأزاهرة في تولية محمد علي بعدما حسبوه مخلصًا محبًا لهم، علم أن قوة هذه الأمة تتمثل في هذا الجامع، والقضاء على هؤلاء الرؤوس هو قضاء على أي قوى قد تناوئه في حكمه مستقبلاً، فقضى على الشيخ عمر مكرم والشرقاوي والجبرتي وغيرهم وغيرهم، ثم خبا دور الأزهر حتى أيس أو كاد أن ييأس منه الشيخ محمد عبده رحمه الله في حملاته الإصلاحية في القرن التاسع عشر.
وبالرغم من جود الاحتلال الانجليزي في مصر، والذي استمر سبعين عامًا متصلة، وكان من جملة أسباب طول هذه الفترة سحب القوة الشرعية والسياسية من الأزهر، إلا أنه بالرغم من ذلك رأينا القوة في الحق عند الأزاهرة وشيوخهم ومقاومتهم الباسلة في الدفاع عن أراضيهم وخرج منهم شيوخ عظماء لم يخافوا من الانجليز بل سببوا هم الخوف لهم وعلى رأسهم الشيخ المراغي تلميد الإمام محمد عبده رحمه الله.
مع هذا كله، كان منصب شيخ الأزهر يتم بالانتخاب، ومن ثم ظلت للمنصب وللجامع هيبته ومكانته في العالم كله، حتى رأينا علماء الأزهر المصريين ينتخبون شيخًا لهم من خارج مصر، وهو فضيلة العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله، بل كان للأزهر أوقافه العظيمة التي تقدر بالمليارات، لكن جاء عبد الناصر ليقضي على ما بدأه محمد علي في هذه المؤسسة العظيمة، فقد جعل منصب شيخ الأزهر بالتعيين، ثم استولى على أوقافه لتصبح هذه المؤسسة خاوية على عروشها، ليذوق أبناؤها الفقر والحرمان، ثم يهمش دورهم بعدما كان العالم كله يحترم هذه المؤسسة ودورها العظيم في مناوئة التشيع والتنصير والوقوف أمام الحركات الهدامة، ثم جاء حسني مبارك ليقضي على البقية الباقية في هذه المؤسسة بتعيين المقربين منه وأهل الثقة في هذا المنصب الأجل.
إن الأزهر الشريف – وبالمناسبة فإني دارعمي ولست أزهريًا – قوة كبيرة للدولة المصرية، والأمة الإسلامية، وكم من دولة تتمنى أن تملك نصف هذه المؤسسة بل عشرها لقوتها وتاريخها الضارب في الذب عن الشريعة وحماية الدولة وهيبتها وقوتها أمام العالم.
الآن نريد بأقصى سرعة أن يعاد انتخاب شيخ الأزهر، وأن ترجع الأوقاف التي استولت عليها الدولة ليكون للأزهر ذمته المالية المستقلة التي تعينه على القيام بالمهمات العظمى له ولمصر وللعالم الإسلامي كله، ثم تفعيل هيئة كبار العلماء، وضم دار الإفتاء للأزهر بعدما سعى المرجفون لضمها لوزارة العدل، ليصبح المفتي مجرد موظف معين في تلك الوزارة، كما لابد أن يُنتخب هذا المنصب كذلك من هيئة كبار العلماء، وهي هيئة منتخبة حسب لوائح الأزهر الشريف.
أعرف بعضًا من العلماء الذين قالوا كلمة الحق داخل هذه المؤسسة العريقة في الأعوام العشرين الأخيرة، ولم يرضوا عن السياسة المنبطحة والتابعة تلك التي جعلت الأزهر صغيرا ذليلاً ضعيفًا أمام العامة في مصر قبل العلماء، وأمام العالم قبل المصريين، يأتي على رأس هؤلاء فضية الأستاذ الدكتور المحدّث يحيى إسماعيل الرئيس السابق لجبهة علماء الأزهر المستقلة والذي نفي إلى الكويت منذ عشر سنوات، وتوفيت زوجته ولم يستطع الحضور وحتى هذه اللحظة لا يستطيع الرجل الرجوع لوطنه بناء على توصية أمن الدولة المصري زمن حسني مبارك لدولة الكويت التي يعمل بها أستاذًا في إحدى جامعاتها، وغير هذا الرجل من هُمش دوره، ونحي جانبا داخل وخارج وطنه، ليُفسح المجال أمام أهل الثقة ورجالات الحزب الوطني!
فهل تحقق لنا الثورة المجيدة والتي اشترك فيها أبناء الأزهر ورأيناهم بأم أعيننا في التحرير واقفين صامدين مؤازرين مجروحين مع المصريين في وقوفهم أمام الظلم والاستعباد والتهميش؟ أليس من حق هذه المؤسسة التي هي رفعة وقوة هذا البلد أن تعاد إلى سابق عصرها الزاهر؟ إلى عصر هزم فيه هؤلاء المعممون نابليون وجيشه العظيم الذي كاد أن يستولي على العالم في ثلاث سنوات فقط؟!!
نشر في شبكة رصد وجريدة المصريون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق