كان العرب بالنسبة للروم والفرس مجموعة من القبائل التي لا تمثل أي تهديد، أو حتى قيمة مضافة لهذين الكيانين الكبيرين قبل الإسلام، ولقد رأينا أن هؤلاء العرب الذين أسلموا قد وقفوا بجوار الروم في حربهم مع الفرس بحكم الدافع الديني؛ ذلك أنهم أهل كتاب مثلهم، وقد تحقق وعد الله بنصر الروم على الكفار من أهل فارس. كانت هذه إرهاصات المعرفة العربية بالروم؛ فقد كان أكثر ما يميز الروم الاهتمام بالجانب العسكري الذي ردع القبائل العربية، وجعلها في مرجل يمكن استعداؤه واستدعاؤه متى ما شاؤوا؛ غير أن الإسلام قد جعل هؤلاء المعتدين المغيرين على أنفسهم.. الأقل شأناً في نظر الروميين جعلهم «أمة»، ومفهوم الأمة في الإسلام أعمق وأشد قوة من مفهوم القومية أو الإمبراطورية أو أي كيان سياسي آخر ينضوي تحته بشر مختلفو المشارب والأعراق.
انطلقت هذه الأمة؛ لتحقق رسالتها بنشر الإسلام في كل أرض تطؤها أقدامهم، وقد كان الطبيعي أن يصطدم هؤلاء الفاتحون بكل من يكره الدين الجديد، ولا يقبل أن يترك له الحرية في الدعوة إلى الإسلام؛ وذلك لأسباب عقدية أو نفعية أو طبقية أو غيرها.
لقد استطاع المسلمون في ظل الدولة الأموية أن يحاصروا القسطنطينية في شرق أوروبا دون فتحها، ثم تمكنوا من الوصول لقلب فرنسا في الغرب الأوروبي، ثم الانحسار والتملك لشبه الجزيرة الأيبيرية، واستقرارهم في الأندلس مدة ثمانية قرون متصلة؛ هذا فضلاً عن دخول الإسلام في جنوب أوروبا وفي صقلية تحديداً، وقد استمر فيها مدة قرنين متتاليين حتى جاء النورمان في القرن السادس الهجري؛ ليقضوا على هذه الحضارة الإسلامية بالتدريج دون تفويتهم لفرصة الاستفادة التامة من هذه الحضارة من ناحية النظم والفكر والعلوم التطبيقية.
فتح القسطنطينية:
ثم استطاع العثمانيون في الوقت الذي سقطت فيه الأندلس أن يفتحوا القسطنطينية، وتصبح العاصمة الجديدة لآخر خلافة إسلامية قوية استطاعت أن تصل بالإسلام في بعض الأوقات إلى النمسا وألمانيا! هذه الجبهات الثلاث التي أحاطت بأوروبا معرفياً وأخلاقياً وحضارياً وعسكرياً من الشرق والغرب والجنوب، جعل من الطبيعي أن يتعرف كل فريق على الآخر، لكن أوروبا القرون الوسطى كانت تسيطر عليها نزعة صليبية براجماتية صرفة، كان عامة الأوروبيين هم وقود هذه النزعة التي تكللت بدخول هؤلاء الصليبيين للمشرق الإسلامي في نهاية القرن الخامس الهجري في ظل تشرذم إسلامي إسلامي بين العباسيين الذين كان قادتهم العسكريون من السلاجقة منكفئين على خلافاتهم الداخلية، وبين الفاطميين الضعفاء الذين كانوا يسيطرون على معظم بلاد الشام بما فيها القدس، وقد سقطت في يد الصليبيين بعد موقعة قتل فيها سبعون ألف مسلم في مشهد يلخص كل ما كان في الخريطة الإدراكية لهؤلاء الصليبيين المجتاحين.
نموذج فريد:
على أن القرن الذي تلا دخول الأوروبيين إلى المشرق، جعلهم على دراية عملية بهؤلاء المسلمين أصحاب الحضارة المتقدمة، ولذلك لم يكن من المستغرب أن نرى من المستشرقين من يقول: إن الحضارة الإسلامية تكاد تكون الوحيدة التي احتلت محتليها، وأثّرت بالإيجاب في غازيها، وهو ما يعلنه «وول ديورانت» صراحة بقوله: «إن الحضارة الإسلامية الرائعة كانت غنية إلى حد القدرة على تمدين غزاتها»(1). لكن بعد سقوط الأندلس واكتشاف الأراضي الجديدة في أمريكا الشمالية والجنوبية والالتفاف حول العالم الإسلامي، بل واحتلال بعض أجزائه في جنوب الجزيرة العربية من خلال بعض الحاميات البرتغالية في القرن السادس عشر الميلادي، ثم صعود الهولنديين ثم الفرنسيين ثم الإنجليز، ثم تطور هذه الإمبريالية والتطلع للتوسع وزيادة النفوذ والأموال والعتاد والتقدم الرأسمالي الذي صاحبه غطاء شرعي من سلطة الكنيسة، كل هذه العوامل جعلت هؤلاء الغربيين يُسخِّرون كل ما لديهم من طاقات استكشافية تحقق لهم السيطرة على العالم الإسلامي الذي يملك الإرث الثقافي الذي لو جدده أبناؤه، وحافظوا على أصوله وعملوا به لرجعوا إلى سيرتهم الأولى في التوسع ونشر الإسلام والتقدم الحضاري والمدني، بل إن العالم الإسلامي يملك كذلك الإرث المادي الذي يعين هؤلاء الأوروبيين على بناء إمبراطورياتهم الجديدة القائمة على الحرية، وتقليص سلطة الكنيسة والتوسع الرأسمالي وزيادة التطلع لإشباع غرائز المجتمعات، والقضاء على المنظومات الإقطاعية والظلم الاجتماعي من خلال الثورات، ولعل أبرزها الثورة الفرنسية التي قامت في عام 1789م، لكن تحقيق العدل والرخاء في المنظومة الغربية كان على حساب الجنوب وأبناء الجنوب حيث تناسى «نابليون» شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة الشهيرة (الإخاء والحرية والمساواة) ليدخل مصر عنوة بعد تسع سنوات فقط في صيف عام 1798م، ومعه آلاف من العساكر المجهزة بأقوى الأسلحة والعتاد والعلماء والمستشرقين والمستكشفين، بل وكثير من الباغيات من أجل تحقيق التوسع الحضاري للثورة الفرنسية!!
نهب الثروات:
وقد شهد القرن التاسع عشر تنافساً مستعراً بين الدول الأوروبية لا سيما دول غرب أوروبا للاستفادة من ثروات العالم كله، وفي مقدمته العالم الإسلامي الذي كان في مرحلة الخمود والخمول والنوم الحضاري والمعرفي والعسكري الجلي، لتنتهي المسألة الشرقية شر نهاية بسقوط الخلافة العثمانية في العام 1924م، ويحل محلها اتفاقية «سايكس بيكو» التي قسمت هذا العالم إلى قطع يسهل السيطرة عليها وعلى مواردها، بل وعلى ثقافاتها وأعراقها. هذه الأسباب التاريخية ومآلاتها المأساوية للعالم الإسلامي كان للظاهرة الاستشراقية أثرها الكبير والعظيم في حدوثها.
هذه اللمحة التاريخية السريعة كان لابد منها قبل الحديث - الذي قد يستمر في هذه السلسة المهمة عبر حلقات متتابعة - عن رؤية المستشرقين للحضارة الإسلامية من خلال تناولهم لمصادرنا التاريخية والوثائقية والعمرانية، وكل ما أمكنهم الوصول إليه لتفسير التاريخ الإسلامي وكل ما يمكن أن يساعدهم لتحقيق أهدافهم ومقاصدهم الكبرى.
غاية الاستشراق وموضوعاته:
أما عن ماهية الأهداف والمقاصد الكبرى لهؤلاء المستشرقين، فلا يمكن للباحث الموضوعي أن يحصرها في اتجاه العداء للإسلام وحضارته؛ فمنهم من كان غرضه العلم والمعرفة، ومنهم من كان غرضه التبشير والتنصير، ومنهم من كان غرضه إبراز تهافت النموذج الإسلامي من شقيه المعرفي والمادي، وفي هذا يقول الدكتور قاسم السامرائي: «إن الاستشراق بتباين ضروب مظاهره ودراساته وأعلامه لم يكن لأجل العلم الصرف، وإننا نخطئ أيضاً إذا قررنا هذه النتيجة حكماً عادلاً؛ لأن هذه النتيجة تضم أولئك الذين آثروا الانزواء في صوامع العلم لأجل العلم والمعرفة، ومن هنا أرى أن الاستشراق بتياراته المختلفة يجب ألا يُدرس كتيار عام أو ظاهرة عدائية، بل أرى أن يدرس المستشرقون على أساس الأفراد»(2)، وقد اتفق مع هذا الرأي الباحث التركي الشهير الدكتور فؤاد سزكين أحد أبرز المفككين للاستشراق العلمي المناوئ للحضارة الإسلامية.
ويؤكد الدكتور فاروق عمر مؤرخ العراق الكبير أن النظرة الجادة لكتابات المستشرقين تؤكد أنهم «لم يكونوا على رأس واحد وتفسير واحد للظاهرة التاريخية، بل تنوعت آراؤهم وتضاربت تفسيراتهم، وانتقد بعضهم البعض الآخر؛ فالبروفيسور «جب» Gibb حين يتكلم عن أعمال وكتابات المبشرين من المستشرقين يقول منتقداً بشدة: لقد قامت في صفوفهم في السنوات الأخيرة محاولة إيجابية تحاول النفاذ بصدق إلى أعماق الفكر الإسلامي بدل السطحية الفاضحة التي صبغت دراساتهم السابقة، ولكن ورغم ذلك فإن التأثر بالأحكام القديمة عن الإسلام ما زال قوياً في دراساتهم، ولا يمكن إغفالها»(3). وكما كانت الغايات متفاوتة؛ فكذلك كانت أعمالهم؛ فالعناصر الإيجابية تتمثل على سبيل المثال في العناية بالمخطوطات العربية، وفهرستها وتحقيق العشرات منها، والقيام بالعديد من الدراسات اللغوية المفيدة والموسوعات النافعة. والعناصر السلبية؛ فتتمثل في العديد من الدراسات التي تناولت القرآن والسنة والسيرة؛ فالكثير من هذه الأخطاء يشتمل على أخطاء شنيعة لا تخفى على الباحث المسلم ذي العقلية الواعية(4). هذه العناصر الإيجابية والسلبية لأعمال المستشرقين لها تأثيراتها القوية في الفكر الإسلامي الحديث إيجاباً وسلباً كذلك، ومن ثم فإن دراسة الظاهرة الاستشراقية وتتبعها والرد على أخطائها والاستفادة من مآثرها هو أمر مهم لكل من يبغي تصحيح مسار المشروع الإسلامي العالمي.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
ــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 26/29، الهيئة العامة للكتاب - القاهرة، 2001م.
(2) قاسم السامرائي: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية ص139، الرياض، 1983م.
(3) فاروق عمر فوزي: الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص14، طبعة الأهلية للنشر والتوزيع - الأردن، 1988م.
(4) انظر: محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص13، دار المعارف - القاهرة، بدون تاريخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق