كيف يمكن الوصول إلى النهضة المنشودة؟ سؤال يبدو سهلا ميسورًا على كثير من المنظرين والمفكرين، بل يبدو مغريًا إن تحرينا الدقة لمن أراد أن يدلي برأيه ويبسط أدلته.. إن النهضة لأي أمة من الأمم أمل من الآمال المعقودة، وغاية من الغايات التي تصنعها الأمم الحرة لنفسها، والحق أن الأمة المسلمة كانت أمة حرة تملك زمام أمرها، وتقدر على تحريك وجهتها تجاه ما تراه مناسبًا لدينها وأبنائها ومقدراتها.
ولأجل الإجابة المقنعة على ذلك السؤال الكبير، فإني أقر بأن التربية كانت من جملة الحلول المناسبة والناجعة لبلوغ ذلك المرام المنشود، ولقد كان من عناصر التفوق الرائع للمجتمع الإسلامي الأول، والذي لم يتكرر في بقية التاريخ أننا نجد عنصر "الجِدة"، فكل حركة جديدة تكون في تكوّنها وتحركها أنشط وأبلغ من الأجيال التي تخلفها؛ لأن المولد الجديد يعطيها حيوية غير عادية؛ ولأنها تمارس البناء خطوة خطوة، ودرجة درجة، سواء البناء النفسي الداخلي أو البناء الاجتماعي الخارجي، وتبذل الجهد في كل خطوة وتتحمل المشقة، فتكون حريصة على سلامة البناء، حريصة على صيانته من كل خدش أو تشويه[1].
ولقد كان من جملة "الجديد" الذي جاء به هذا الدين العظيم أنه حمل معنى التربية الشمولية في طياته، إذ العبرة والمقصد والغاية التي يجب أن تتحقق فيها الإرادة الإلهية تتمثل بلا ريب في "الإنسان" والإنسان في المفهوم الإسلامي هو الذي يجب أن يحمل الأمانة بحق، والأمانة هي تحقيق العبودية التامة لله الواحد الأحد وفقًا لهديه وشريعته.
الإنسان إذن مناط الحياة، ومناط العمران الذي يحقق الغاية الإسلامية، لكن ما معالم وسمات هذا الإنسان؟ وفي أي مرحلة تبدأ التربية معه؟
من عظمة التربية الإسلامية أنها بدأت بالإنسان المسلم منذ نعومة أظفاره، وقبل أن يشب على الطوق، وتلهيه تلابيب الحياة بمآقيها، لقد بدأت بالطفل.. نعم من الطفولة تبدأ النهضة، ولا يستغربن القارئ الكريم أن يكون محور نقاشنا في هذه المقالات عن التربية الإسلامية الحضارية للمسلمين صغارهم وكبارهم، فذلك هدف نسعى إليه بلا ريب في زماننا هذا.
لقد حرَصَ النبي r وأكَّد على أن الأطفال جزء أصيل من الأمة المسلمة، وكما أسرع r في تعليم الإيمان والعقيدة الصحيحة في صدور وقلوب وحواس هؤلاء الأطفال، حرص -أيضًا- على تربيتهم وتعليمهم لأركان الدين.
وقد جعل الصلاة جزءًا أصيلاً من الكيان العام للطفل المسلم؛ فكان تأكيده r بالقول والعمل، وكلاهما تشريع نبوي متَّبع، قال رسول الله r: "مروا الصبيان بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها في عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع"([2]).
وشارك الصحابةُ النبيَ r هذا الحرص، من حيث معرفة وقت صلاة الطفل، والعمر المناسب، وأثر هذه الصلاة عليه، حتى إن النساء كانت أعلم من الرجال في هذا الشأن في بعض الأوقات، فهذا معاذ بن عبد الله الجهني أحد التابعين المشاهير وهو حفيد الصحابي الجليل خبيب الجهني t، يدخل عليه مجموعة من طلبة العلم يسألونه عن الوقت المناسب لصلاة الصبي، فيسأل امرأته: متى يصلي الصبي؟ قالت: نعم كان رجل منا يذكر عن رسول الله r: أنه سُئل عن ذلك فقال: متى عرف يمينه من يساره فمروه بالصلاة([3]).
وبلغ حرص النبي r بهذه الفريضة أنه كان يُرَتِّب بنفسه ويُخَصِّص أماكن للصبيان في المسجد؛ فعن أبي مالك الأشعري أن النبي r أقام الرجال يلونه، وأقام الصبيان خلف ذلك، وأقام النساء خلف ذلك([4]).
ولم تكن مشاغل الدعوة والحياة تُنسيه r أن يطمئن على حال غلمان المسلمين مع ربهم من خلال الصلاة، وامتحانهم على ذلك، وسؤاله المتكرر؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بتُّ عند خالتي ميمونة (أم المؤمنين رضي الله عنها) فجاء رسول الله r بعد ما أمسى فقال: "أَصَلَّى الغلام؟" قالوا: نعم. فاضطجع، حتى إذا مضى من الليل ما شاء الله، قام فتوضأ، ثم صلى سبعًا أو خمسًا أوتر بهن لم يُسَلِّم إلاَّ في آخرهن([5]).
فهذا الغلام الحصيف عبد الله بن عباس t -الذي كان تجربة حيَّة لحياة الطفل والشبل المسلم- يروي لنا من خلال نومه الزائف، كيف -رغم تعب النبي r- كان r يسأل أول ما يسأل عن حال هذا الصبي مع الصلاة.
وكان للصبيان نصيب في صلوات السنن المؤكدة كصلاة العيد والجنائز وغيرها، فعن ابن عباس t قال: خرجتُ مع النبي r يوم الفطر أو أضحى، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة([6]).
وحتى في صلوات الجنائز كان رسول الله r يُشرك هؤلاء الصغار في تشييع موتاهم، وكان لهذا الإشراك أثره في اللحمة الاجتماعية التي كانت تربط بين الصغار وبين مجتمعهم، فضلاً عن الجانب التربوي الذي كان يعود على هؤلاء بالنفع من خلال التربية على التقوى والخشية؛ فهي إحدى ثمرات صلاة الجنائز، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله r مرَّ بقبر قد دُفن ليلاً فقال: "متى دفن هذا؟" قالوا البارحة. قال: "أفلا آذنتموني". قالوا دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك. فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم فصلى عليه([7]).
بل واشترك الصبيان في الصلاة على النبي r حين توفي، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لما صُلِّيَ على رسول الله r أُدخل الرجال فصلَّوْا عليه بغير إمام أرسالاً حتى فرغوا، ثم أُدخل النساء فصلين عليه، ثم أُدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أُدخل العبيد فصلوا عليه أرسالاً لم يؤمهم على رسول الله r أحد([8]).
ولعلَّ من أعظم الوسائل التربوية التي أقرَّها النبي r أنه كان يُوافق على إمامة الصبي الحافظ، وثمة رواية طريفة -يحكيها لنا عمرو بن سلمة الجرمي t حين قَدِمَ على النبي r في أعوام الوفود- تُبَيِّن كيف أنه r رفع قدر الأطفال الذين لم يكن يُؤْبَه لهم، أو يُهتم بهم، قال: "كُنا على حاضر، فكان الركبان يمرون بنا راجعين من عند النبي r، فأدنو منهم فأسمع حتى حفظتُ قرآنًا. قال: وكان الناس ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، فلما فُتحت جعل الرجل يأتيه فيقول: يا رسول الله أنا وافد بني فلان وجئتك بإسلامهم. فانطلق أبي بإسلام قومه، فلما رجع قال: قال رسول الله r: "قَدِّمُوا أكثركم قرآنًا". قال: فنظروا فما وجدوا فيهم أحدًا أكثر قرآنًا مني. فقدَّموني وأنا غلام، فصليتُ بهم وعليَّ بُردة لي، فكنتُ إذا ركعتُ أو سجدتُ فتبدو عورتي، فلما صلينا، تقول لنا عجوز دهرية: غطوا عنا إست قارئكم. قال: فقطعوا لي قميصًا من معقد النحرين. فذكر أنه فرح به فرحًا شديدًا([9]).
وهناك رواية أخرى تبين أن صلاة الصبي عمرو بن سلمة لم تكن تقتصر على المفروضة، بل على بقية الصلوات الأخرى، قال t: فما شهدتُ مجمعًا من جُرم (قبيلته) إلا كنتُ إمامهم، وكُنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا([10]).
وبعيدًا عن اختلاف الفقهاء في مسألة إمامة الصبي، وأنها يجب أن تكون عند البلوغ والأهلية، إلاَّ أن هذه الرواية تبين لنا إلى أي مدى وصل الاهتمام بالأطفال والصبيان في العهد النبوي، فبمجرد أن رجعت قبيلة جرم بعدما أسلمت وهداها الله للتوحيد، لم تستنكف من إمامة صبي لها، وهم عرب أقحاح نالت التقاليد العربية منهم كل منال، لكن هداية الإسلام وتربيته القويمة أخذتهم من تلك السفاهات البالية إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
وفي زمن الخلفاء الراشدين سار المجتمع على الهدي النبوي؛ حتى إن بعض الصحابة قَدَّم بعض الأطفال للإمامة، ومنهم الأشعث الذي لما قدَّم غلامًا عاب الحاضرون ذلك عليه، فقال: "ما قدَّمته، ولكنِّي قدَّمت القرآن"([11]).
بل إن أم المؤمنين عائشة t كانت تقف خلف الصبيان الحافظين للقرآن، وتأتمُّ بهم، قالت رضي الله عنها: كنا نأخذ الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بنا في شهر رمضان فنعمل لهم القلية والخشكنانج([12]).
أما تربية الآباء للأطفال على حفظ الأذكار والمداومة عليها، فيتجلى ذلك فيما رُوي عن سعد بن أبي وقاص t الذي كان "يُعَلِّم أولاده هؤلاء الكلمات كما يعلم المُكتِّب الغلمان، ويقول: إن رسول الله r كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر"([13]).
هذا عن الصلاة، أما الصوم فقد حرصت الصحابيات على تعويد أبنائهن على تحمل الصوم، وكنَّ يقمن ببعض الحيل لشغل أبنائهن وبناتهن عن التفكير في الإفطار، من ذلك ما روته الصحابية الجليلة الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ التي قالت: أرسل النبي r غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: "من أصبح مُفطرًا فليُتم بقية يومه، ومن أصبح صائمًا فليصم". قالت: فكنا نصومه بعد ونُصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن([14])، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك؛ حتى يكون عند الإفطار([15]).
وكان الغالب على صبيان وبنات المسلمين الصيام في مواعيده وأوقاته، ومن الطريف أن عمر t حينما كان أميرًا للمؤمنين جاءه رجل سكران يُدعى نشوان، أُتي به إليه فاندهش عمر منه، وقال له: في رمضان؟! ويلك وصبياننا صيام. فضربه([16]). ثم نفاه إلى الشام.
وكما رُبِّي الأطفال على حب الصلاة والصيام وتحمُّل مشاقِّهما، أشرك الصحابة أبناءهم معهم في القيام بفريضة الحج، وكان ذلك على مرأى ومسمع من النبي r، فعن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: بعثني أو قدَّمني النبي r في الثقل([17]) من جمع (أي المزدلفة) بليل([18]). وعن السائب بن يزيد قال: حج أبي مع رسول الله r وأنا ابن سبع سنين([19]). ورواية الإمام الترمذي تُؤَكِّد على أن السائب t حج -أيضًا- مع أبيه، فعنه أنه قال: حج بي أبي مع رسول الله r في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين([20]).
وحتى المسلمون الجدد الذين لم يروا رسول الله r ولم يرهم من قبل، كانوا يحرصون على سؤاله عن حج الصبيان عند اللقاء؛ وقد حكى لنا ابن عباس -رضي الله عنهما- قصة رائعة فيها مشاهد تربوية جمَّة رغم قصرها، قال: لقي النبي r ركبًا بالروحاء([21])، فقال: "من القوم؟" قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله". فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"([22]).
أي عظمة من السائلة والمسئول هذه! فهذا النبي r بتواضعه وعدم اختلاف موكبه عن موكب العامة، تسأله إحدى المسلمات عن حج صبيها الصغير، فيُجيبها النبي r بقَبُول حجِّه، بل ويُبَشِّرها r بالأجر!
وانطلاقًا من هذا التبشير النبوي بقبول شعائر الأطفال، قام الصحابة بتربية أبنائهم على حب هذه الفريضة والقيام بها؛ فقد كان ابن عمر يُجَرِّد صبيانه عند الإحرام ويقف بهم المواقف، وكانت عائشة -رضي الله تعالى عنها- تفعل ذلك، وفعله عروة بن الزبير، وقال عطاء (ابن أبي رباح، أحد التابعين): يُجَرَّد الصغير، ويُلبَّى عنه، ويُجَنَّب ما يجتنب الكبير، ويُقضى عنه كل شيء، إلاَّ الصلاة فإن عقِلَ الصلاةَ صلاها، فإذا بلغ وجب عليه الحج([23]).
وبعدُ، فما مرّ بنا هو بداية طريق النهضة، وبداية تحقيق الآمال المنشودة لهذه الأمة، فهيا نبدأ الطريق من أوله، من الطفولة والصبا لنرتقي في مدارج العمران والحضارة، ومن ثم تحقيق الغاية الأكبر الموصلة لجنة رب العالمين।
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق