الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

بيان الندامة!

مثلي لا يختلف عن آلاف المصدومين من بيان الأحزاب المنبطح، لكن الصدمة مضاعفة لأنها أتت ممن هم مظنة الأمل والإصلاح والقائمين على تحقيق المشروع الإسلامي الذي نبتغيه، والحق أنني كلما تحدثتُ وبينت لمن هم قريبون من هذه الأحزاب وقلتُ إن هذا البيان فخ كبير، وورقة ممهورة بتوقيع هؤلاء على ضياع الثورة. أجد من يصدمني فوق صدمتي ويقول لي: يا أخي خليك في حالك! فكيف أكون في حالي وهذان الكيانان (حزب الحرية والعدالة وحزب النور بالذات) ممن كنت – ولا أزال – أرجو من ورائهما تحقيق أهداف الثورة بالصورة التي تبغيها الثورة لا بالصورة التي يريدوها الآخرون؛ فضلاً عن كونهما كيانان يقعان تحت توصيف "الإسلاميين"، وهو وصف لطالما افتخرت بالانتساب إليه .. حتى رأيت ما رأيت بالأمس القريب.

إن هناك حديثًا عجيبًا في صحيح الإمام مسلم عن أحد التابعين واسمه المستورد القرشي قاله في حضرة عمرو بن العاص رضي الله عنه، جاء فيه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول تقوم الساعة والروم أكثر الناس. فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقولُ ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لئن قلت ذلك: إن فيهم لخصالاً أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كَرَّة بعد فَرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة وجميلة وأمنعهم من ظلم الملوك".

إن عمرو بن العاص رضي الله عنه يرى في الروم أعداء دولة الإسلام وقتئذ، خمسة سمات حميدة جليلة ملازمة لهم، وهذا بلا شك من عدالة وعظمة هذا الدين وأهله، الذين يُقيمون الآخر – ولو كان عدوًا أو كافرًا – تقييمًا موضوعيًا لا غبن فيه ولا ظلم.

لماذا أتيتُ بهذا الحديث في الموقف الذي نحن فيه؟! إن الحديث يعطينا سبيلاً مباشرًا وناجعًا لكيفية تكوين وتنشئة أمة عظيمة لابد أن تستغل اللحظة/التاريخ، فلقد كانت الثورة فتنة في نظر البعض ولم نر الحلم المرجو منهم في تقييم هذه الفتنة .. وكانت مصيبة – ولا تزال في نظر آخرين – ولم نر منهم الإفاقة التي يتمتع بها الروم/ الغرب في إدارة الحوادث والأزمات، ثم إن الثورة بهذا البيان فرَّة يعني تقهقر وتراجع بعدما كان الثّوار في موقف "الكرَّة" أي التقدم وتحقيق مطالب الثورة بعزة وشرف، وفي نهاية الحديث "وأمنعهم من ظلم الملوك" .. هؤلاء الروم لا يقبلون أن يروا ظلمًا من الملوك أيًا كانوا، سواء مقدمات هذا الظلم باصطناع ظالم أو حتى الظالمين أنفسهم أولئك الذين تم دهسهم في مقاصل الثورات الأوربية على مدار تاريخهم الوسيط.

هل تحققت الصفات التي وصفها عمرو رضي الله عنه للروم لأي من الثوار أو بالأحرى من يمسكون زمام المبادرة من السياسيين المفلقين لا سيما الإسلاميين الآن؟ هل فهم هؤلاء الثورة واللحظة التاريخية التي أعقبتها.. تلك التي لا نعلم هل ستتكرر مرة أخرى في العقود أو حتى القرون القادمة إذا تم تضييعها؟!

ثمة من يرى هذه المقدمة.. فيتساءل: لماذا يُهوّل هذا الرجل؟! لماذا يرى الواقع السياسي بعد هذا البيان عابسًا كالحًا؟!

أولاً .. يظل السؤال الذي يدور في عقلي لا إجابة له، وهو: إذا كان هذا الشعب قد انتفض لإزالة الظلم، وتحقيق العدل، وإقصاء الظالمين، وتكوين دولة تحترم الإنسان، وتُحقق كرامته .. قد نجحت في 18 يومًا فقط في إزالة بعض الطغمة الفاسدة، وهي بهذا أسرع انتفاضة مقارنة بأهلنا في البلدان المجاورة: فكيف تعجز عن تحقيق ما اتفق عليه كل الناس في هذا البلد في ثمانية أشهر كاملة؟! ثم بهذا البيان نضيف على تلك المدة ثمانية عشر شهرًا قد نرى مفاجآت ومفاجآت بها؟!

إن التأمل في عجز الثورة عن تحقيق مطالبها في أسرع وقت زمني يجعلني أرجع إلى الصفات التي ذكرها عمرو بن العاص رضي الله عنه في هؤلاء الروم الذين إذا أصابتهم مصيبة لم ييأسوا أو ينتهوا أو يناموا على الأسرّة أو حتى يقبلوا بالآراء المقعدة لهم، والتي تنتشر بيننا وتقول: بأننا لا نستطيع تحقيق هذه المطالب لأننا ضعفاء، أو لأن غيرنا يريدنا أن نصطدم وتجري أنهار دمائنا على عتبة كياناتهم وأحزابهم فيفوزوا هم ونموت نحن، ومن ثم فالحل السياسي قادر على تحقيق ما تصبو إليه الجماهير بأفضل من هذا كله!!

فهذا بلا شك وهم عظيم؛ لأن هؤلاء الذين أخرجوا هذه السياسة مرة أخرى من أدراج ذكرياتهم التعيسة تناسوا أن هذه المواءمات السياسية لم تنفعهم بمثقال حبة من خردل في النظام البائد .. إن أي تفاوض يتخلى أو يتناسى أو يتحاشى الثورة التي لا تقبل فلسفتها/فكرها/واقعها/ القائمين بها بأي حال أي حل مائع يُقال عنه سياسي لهو جدير بانتقاصه وانتقاضه وانتقاد المؤمنين به؛ لأن انتظارنا حتى يونيو 2013م سيكون انتظارًا لمن يملك القدرة على البكاء على أطلال الثورة التي هزتها المحن، وأوقعتها المفاجآت في فخاخ ثمانية عشر شهرًا قادمًا، ومن يندهش من هذا فعليه أن يتأمل في فخاخ ثمانية أشهر ماضية فقط.. هذا إذا اتفقوا على الدستور ووافق الشعب عليه أصلاً!

الأمر الآخر، كتبنا قديما العديد من المقالات والكلمات ووقفنا مع (حزب الحرية والعدالة وحزب النور) في دفاعهم المستميت عن حق هذا الشعب في تحقيق مصيره دونما وصاية متمثلة في مبادئ دستورية/فوق دستورية/وثيقة شرف، وسمعنا التحريم واللعن لكل من يقبل هذه الإهانة للأجيال القادمة .. الآن تتبخر هذه التحريمات، وتُتناسى مظاهرات يوم 29 يولية التي خرج فيها 4مليون بني آدم رافضين لهذه الوصاية على الشعب التي تولى أمرها يحيى الجمل ومن خلفه علي السلمي، حتى إذا جلس هذان الحزبان مع المجلس العسكري رأينا راية الموافقة عالية خفاقة بتوقيع عريض يشلّ كل عاقل في هذا البلد!

لقد كان من الشرف حقا أن نرى شباب حزب العدل الذين رفضوا هذا البيان مجبرين رئيسهم على سحب توقيعه، ثم زاد الشرف شرفًا برفض الدعوة السلفية والهيئة العليا لحزب النور هذا البيان، ولم نر ردة فعل تذكر من شباب حزب الحرية والعدالة/ الإخوان الأحرار الذين أعلمُ علم اليقين مدى طهارة أنفسهم، وطيب خُلقهم، وغيرتهم الشديدة على هذه الثورة المعجزة التي حبانا الله بها.

إن ثمة إشكالية تدور في أعماقي فعلا، وهي تتمثل في أن من عاشوا محنة 1954م ومن بعدها 1965م، وما رأوه من هوائل تلك المرحلة، هم الذين نراهم في المكانة العليا داخل جماعة الإخوان الآن، ومن المفترض أن يكونوا أكثر الناس عبرة بالتاريخ، ومع ذلك لا أفهم السبب الحقيقي في قبولهم لمد المرحلة الانتقالية دون حكومة ممثلة للشعب من مجلسه، ودون رقابة حقيقية على أداء المجلس العسكري .. اللهم إلا التشاغل بأمر الدستور ومشاكله المتوقعة في ضوء ميثاق الشرف "الأدبي" كما قال صبحي صالح. وبالمناسبة فإني لا أفهم كلمة أدبي هذه، لأن شرف المسلم ووعده لا يمكن أن يكون التزاما أدبيا إن شاء نقضه في أي وقت كان وهي إشكالية أخلاقية واضحة إن تم تخطيها!!

هذا عن دراسة لإلغاء حالة الطوارئ التي صرح المشير طنطاوي بفعل ذلك متى تحسنت أوضاع البلاد، ولا نعلم معايير هذا التحسن، ولا متى يكون، ثم دراسة العزل السياسي لفلول النظام البائد، الذين هددوا بإخراج 15 مليون بني آدم مكدرين للسلم العام إن تم ذلك معهم .. فكلا الدراستين تم تأجيلهما أو سيتم على الأرجح!

إننا لا يمكن أن نصطنع عدوًا هو المجلس العسكري، لأنه فعلاً انحاز إلى مطالب الثوار بإسقاط حسني مبارك وأعوانه، ولا يمكن أن نصطدم معه بأي حال .. لكننا في ذات الوقت نفهم أن المجلس العسكري ما قَبِلَ الناس بإضفاء شرعية الحكم عليه إلا مع الموافقة على إعلان 19 مارس الدستوري، والذي يقضي بقوته الشرعية بانقضاء حالة الطوارئ يوم 30 سبتمبر الماضي، وإجراء الانتخابات البرلمانية بعد 6 أشهر من صدوره، ثم الانتخابات الرئاسية التي نفى المجلس العسكري في بيانه رقم "28" أن تكون في 2012م، لكنها أصبحت في منتصف 2013م!

ألسنا في دولة تحترم القانون وإرادة الملايين الذين أضفوا شرعية على ذلك الإعلان ॥ الآن نريد تحقيق ذلك الإعلان بحرفيته متجاوزين هذه الأحزاب التي تخطت إرادة الملايين الذين أيدوهم؛ ذلك "أن نعم هي الاستقرار" وضاعت نعم، ولم يبقَ إلا بيانًا يصفه بعض العباقرة بأنه خطوة للأمام، وكأننا في زمن ما قبل الثورة!!!

نشر في شبكة رصد الإخبارية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق