كانت النية مبيتة قبل أشهر للنزول إلى ميدان التحرير من جديد، منذ شهر أغسطس بالتحديد، لقد أطلق بعض الظرفاء على جمعة الإرادة الشعبية (29 يوليو) جمعة قندهار من قبيل تشويه صورة وسمعة الإسلاميين فضلاً عن الاستخفاف بالتيار الإسلامي ومظاهراته، كما وصفوا جمعة 18 نوفمبر بأوصاف فئوية يحركها الإخوان والسلفيون وحدهم، وطالما أنهم يملكون أداة إعلامية عاتية لا يملك الإسلاميون معشارها فسنظل دومًا ردة فعل لهؤلاء المخططين!
الطريق إلى جمعة 18 نوفمبر لم يكن بالسهل المعبّد، ذلك أن أشهرًا من الشد والجذب، والضرب تحت الحزام، والابتزاز بوثائق دستورية يشرف على صياغتها التيار الليبرالي المتطرف بكافة عناصره الفعالة داخل الحكومة وخارجها، فضلاً عن القبول الضمني والذي أضحى جليًا للمجلس العسكري لهذه الوثائق بل هو المحرك لها جعل كثيرًا من الأمور تتضح أمام آلاف من المخدوعين من السياسيين الإسلاميين وأنصارهم، فالمعركة التي ظلت مشتعلة لأشهر بين التيار الليبرالي والإسلامي لم يكن لليبراليين فيها سوى كونهم عرائس يحركهم المحركون من خلف الستار.
لقد مد الإسلاميون "حبال الصبر"، ووافقوا على الوثائق التي يعرضها الليبراليون ورجال الدولة - منذ شهر مايو وإلى حد وثيقة السلمي - تلو الأخرى بغية التعجيل بالانتقال السريع للسلطة المدنية المنتخبة والتي لن تتم إلا بإجراء الانتخابات البرلمانية (شعب وشورى) ثم الرئاسية، وقد كانت لعبة المفاوضات هي لعبة التنازلات والقنص السريع بالتحديد، فكي تصلوا لمبتغاكم عليكم التنازل والتنازل ثم التنازل، ثم تجلت لنا وثيقة السلمي بالوضوح التام الصريح بأن العسكر لا يرضون أن يكونوا متساوين مع مؤسسات الدولة الأخرى، فإما الحكم أو الاستقلالية أو كلاهما معا ثم نترك لكم الباقي وإما "بلاش"!
وهنا وجب الوقوف مع العناصر التالية:
· الإخوان والسلفيون
إن اللحظة الفاصلة التي رفض فيها التياران إكمال المفاوضات/التنازلات، وقرروا النزول كانت لحظة فارقة لهذين التيارين؛ لأن إكمال عملية التنازل وقبول دور المنبطح في الجمهورية الجديدة لن يختلف كثيرًا عن ذات دور الخانع القابل بفرمانات الباشا في الجمهورية القديمة، بل الجديدة ستكون الأسوأ على الإطلاق، وستضيع الثورة التي قتل وجرح وسجن بسببها الآلاف حتى الآن دون الوصول للحد الأدنى من المطلب المنشود وهو الانتقال السريع والسلس ووضع دستور يتوافق مع رأي الأمة وإرادتها.
ولذلك فإن تخلي الإخوان والسلفيين عن خرافة التوافق ونزولهم لحراسة مكتسبات الثورة والمطالبة بها، يعني شجاعة هذين التيارين لأن اللحظة الآن لحظة مفاصلة قد تتطور لتصادم محتمل، يكونوا هم ضحاياه كما كانوا دائمًا من قبل إن فشلت الثورة لا قدر الله؛ ولا سيما الإخوان الذين ذاقوا مرارة الاعتقال والتنكيل عبر ستين سنة عانوا هم فيها أكثر مما عانى غيرهم.
والحق ألا خيار آخر أمام هذين الفصيلين المهمين؛ لكن النزول لم يكن رفضًا لوثيقة العسكر التي صاغها السلمي وفقط وإنما النزول كان ويجب أن يكون لمطلب وحيد متمثل في تجاوز هذه المرحلة المرهقة والمستفزة من تاريخنا المعاصر، ليكون لنا رئيس منتخب في حدود شهر مايو القادم على أقصى تقدير.
لقد كان 18 نوفمبر رسالة قوية أخرى لا تقل عن رسالة 29 يوليو، لكن حفظ الكرامة والتاريخ القريب يقرران أنه لا يجب أن يُخدع هذان الفصيلان مرة أخرى بالجلوس مع عصام شرف أو غيره للوصول إلى حلول وسط ومتوافق عليها في إعادة لمشهد التنازل بألفاظ أكثر شياكة من ذي قبل؛ لأن هذه المسرحية العبثية من الجلوس والتفاوض لا غرض لها سوى نسيان المطلب الأساسي في تحديد موعد انتخابات الرئاسة، والإسراع في العملية الانتخابية التي لا يزال الفلول وأعوانهم على أتم استعداد لها؛ فضلاً عن التسريع في الدخول في معمعة وضع الدستور الذي سيكون معركة ضارية ينسى فيها الجميع ميقات الانتخابات الرئاسية والإعداد لها!
· حازم أبو إسماعيل
في رأيي يظل حازم أبو إسماعيل أكثر المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية وضوحًا وقوة في مطالبته برحيل العسكر عبر تحديد موعد الانتخابات الرئاسية؛ إن المتابع لسياسة الرجل وتصريحاته ومواقفه منذ خلع مبارك وإلى الآن يعلم مقدار الرؤية الواضحة التي يتمتع بها هذا الرجل؛ فلقد وصف بيان الأحزاب مع الفريق عنان بأنه طعنة للثورة في ظهرها، ولعل موقفه ذاك وثبات أنصاره ونشرهم لآرائه هو الذي جعل بقية التيار الإسلامي الموقع على تلك الوثيقة يتراجع بطريق أو بأخرى عنها.
إن ما يلفت النظر أيضًا أن الرجل تعدى حدود التيار الإسلامي ليتضامن مع بقية الحركات والائتلافات الشبابية الأخرى، منها حركة 6 إبريل التي نسق معها حول النزول لجمعة 18 نوفمبر، ووقفه ضد محاكمات المدنيين والناشطين أمام المحاكمات العسكرية وموقفه من محاكمة أسماء محفوظ وعلاء عبد الفتاح وغيرهم موقف الرافض المناوئ المتضامن، الخالع لرؤية بعض الإسلاميين المنعزلين القائلين: بأن تلك المعارك لا ناقة لنا فيها ولا جمل!!
لقد كان للشيح حازم وأنصاره في جمعة المطلب الوحيد شأن وشأن قوي جدًا، وإن كان ثمة عناصر فارقة لصالح هذه الثورة فإن مواقف الرجل والتيار العام المتصاعد المؤيد له ستكون لها كلمتها في الجمعات الحارسة القادمة وما يستجد فيها من قرارات ومواقف مهمة.
لقد صرح الشيخ في كلمته التي ألقاها على مسمع مما لا يقل عن 50 ألف متظاهر ممن انتظروه على شغف ليل الجمعة أنه لا يهمه وثيقة السلمي التي يراد منها شغل الرأي العام والثوار عن هدفهم الرئيس برحيل العسكر، وإنما هدفه الأكبر أن يحدد العسكر ميقات رحيلهم بتحديد موعد الانتخابات الرئاسية؛ ولن يتم ذلك بالتفاوض السياسي وحده؛ فميدان التحرير هو الحل، ولا يمكن أن يسمح لنفسه أو لأنصاره أن يغادروا الميدان مرة أخرى، وستبدأ بجمعات مليونية حارسة لا يتم فيها الاعتصام حاليًا لأن شغل الناس عن الانتخابات البرلمانية وحراستها جريمة كبيرة شبهها بمن يطعن نفسه بنفسه!
· الائتلافات الشبابية والثورية وعموم الناس
ظهرت في جمعة المطلب الوحيد حركة 6 إبريل في الميدان وبعض الائتلافات الشبابية الثورية الكثيرة، بل أرادت الأغلبية منهم مع مصابي الثورة الاعتصام في الميدان معترضين على إستراتيجية الشيخ حازم بتأجيل الاعتصام الآن، وكلمة الحق التي يجب أن تقال في هؤلاء أنهم من أكثر العناصر حماسة وصبرا على نجاح الثورة، ولو كانوا يملكون ما يملكه التيار الإسلامي أو حتى فصيل منه من حشد لنجحت هذه الثورة منذ أشهر، ولكنا في ظل رئيس منتخب الآن، نتطلع لبناء مجتمع مدني جديد، غير أنها عبثية المفاوضات والتنازلات والمساومات على ثورة من المفترض أن لها كلمتها التي يأتمر الجميع بأمرها وأهدافها المعلنة منذ اليوم الأول، والذي آمن بها هؤلاء الشباب الثائرون حقًا.
أظن أن هذه الحركة ومن يسير على دربها في حراسة الثورة ستكون أيضًا من العناصر الفارقة في نجاح الثورة، ولن تغلب ثورة على رأسها الشباب بإذن الله، بما في ذلك الشباب غير المؤدلج/المسيّس المؤمن بضرورة التعجيل والخروج من هذه العبثية السياسية التي يوقعنا فيها فريق من الأشياخ والكهول عفى على تفكيرهم الزمن والتي تتضح من خلال فلسفة العصر التي يتجلى فيها تاريخ الجميع وما يُتوقع منهم!
الكُتاب الشباب والمدونون
تعرفت على بعض شباب المدونين وكتاب المستقبل في الميدان، ورأيت منهم شجاعة صبرًا ورؤىً ثاقبة في التعاطي مع الثورة ومستجداتها بل رأيتُ منهم ضيقًا وحزنًا على قرار عدم الاعتصام، وهؤلاء الشباب من الكتاب والمدونين كان لهم فضل السبق في الثورة على النظام الإعلامي العام منذ العام 2003/2004م، مذ ظهر علاء عبد الفتاح ووائل خليل ووائل عباس..، وغيرهم من مدوني التيارات الأخرى وعلى رأسها شباب التيار الإسلامي بكافة انتماءاته الحركية وهؤلاء من رأيت فيهم عبقرية اللحظة بتجليها في رؤاهم المحترمة رغم صغر سن معظمهم، وعلى هؤلاء نعول على نجاح ثورتنا إن شاء الله.
· التضييق والإرهاب!
بعد هذا اليوم الرائع من تجديد روح الثورة المصرية وبعثها من جديد، عدت إلى البيت سعيدًا بهذا الانجاز وهذا الحشد وهذه الرسائل الكبيرة والواضحة من المصريين للمجلس العسكري لأفاجأ أن صديقي الكاتب الباحث محمد إلهامي الذي استصحبته في الميدان يكتب على صفحته الخاصة أنه رجع إلى شقته وقد وجد بابها مكسورًا ليفاجأ أن جهاز اللاب توب الخاص به وفلاشته قد سرقا وأن محتويات الشقة قد عُبث بها، دون سرقة المال ومتعلقات زوجته!
وفي هذا إشارة ورسالة له بالكف عن نشر آرائه السياسية؛ لأستذكر على الفور أن هؤلاء الشباب من الكتاب المبدعين القادرين على التعبير عن آرائهم بقوة ووضوح دون خوف أو وجل هم أول الناس استهدافًا بعد هذا اليوم وهذه المرحلة الخطيرة من الثورة؛ لأتذكر كذلك علاء عبد الفتاح المسجون في قضية عسكرية قالت والدته إنها مفبركة وتملك الدليل على براءته..
إن مرحلة التضييق/الصدام قد بدأت مباشرة في يوم جمعة المطلب الوحيد؛ لنعرف أن هذه الثورة لن تنجح بمجرد الكلام السياسي المستهلك الفارغ الذي خبرناه منذ الاحتلال الانجليزي لمصر، إن الفعل على الأرض والدعوة لحرية مصر من براثن التخلف والرجعية والفقر والإهمال لا يمكن أن تولد دون تضحيات وتضييق على البشر؛ لأن طبائع الأشياء، وحقائق التاريخ تقر أن الصراع بين الحق والباطل موجود ما وجد الإنسان على الأرض؛ وأن المثالية التي ننشدها قد لا تتحقق في حياتنا، أو يتحقق جزء بسيط منها، لكن هذه الأفعال الصبيانية التي فعلها مبارك وطغمته الفاسدة عبر عقود من القهر والتعذيب بل والقتل لا يجب أن ترهبنا الآن وفي ظل ثورة نُصرّ جميعًا على نجاحها مهما كلفنا الأمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق