الخميس، 17 نوفمبر 2011

حينما يصنع "الشطار" طاغوتًا جديدًا!

إن من يتأمل في الثقافة الشعبية لهذا الشعب الذي ينظر إليه بعض الساسة والنخبة والحكام بل وبعض العلية والحلية من الإسلاميين على أنه غلبان جعان لا قيمة له ولا جدوى من ورائه فإن حب الذات والفئة والمصلحة قد غلبته وأعمته لدرجة لم يعد قادرا معها على التوازن فهو كالمسطول سواء!

حينما نتأمل في المثل الشعبي الرائع الذي أبدعته العقلية الجماعية لهذه الأمة الشعبية/البيئة/القطيع كما يحلو للبعض أن يرونهم الذي يقول: يا فرعون إيه فرعنك؟! قال: ملقيتش حد يلمني! فإن هذه الأمة "الجاهلة" تعلم علم اليقين وبفطرة البشر التي فطر الله الناس عليها أن الانبطاح والخنوع والسكوت والنوم تحت اللحاف والمكاسب السياسية المقتنصة من فم الأسد التي هي مجرد عظمة نخرة في نهاية المطاف لهي أسباب كافية لفرعنة أي إنسان ولو كان مجرد جبان/سيس بلغة العصر، شاءت يد القدر وخنوع الشعب أن يصل لمرتقى صعبًا؛ لنتذكر معها قولة أبي جهل لذلك الصحابي النحيف ابن مسعود رضي الله عنه حينما اعتلى جثته العظيمة المنبطحة على أرض معركة بدر الخالدة: لقد ارتقيت مرتقىً صعبًا يا رويعي الغنم! في دلالة على مدى كبره وغروره وصلفه في اللحظات النهائية قبل شحنه إلى جهنم وهذا دأب الطغاة دومًا، وإشارة لنا إلى رعاة الشعوب الذين لم يرتقوا معشار ارتقاء ابن مسعود رضي الله عنه، وظلوا على أنفاسنا حتى جاء الرعاع والرعاة ليرتقوا المرتقى الحقيقي واللائق بهم بعد ثورات مباركة.

بعد مئات السنين من البطش والظلم والتنكيل وضياع الهوية والوحدة والفساد بكافة أنواعه وحكام ظلمة عاثوا خلال الديار، قامت الثورات لترتفع كفة الشعب المصري، وندخل في مرحلة ضرورية انتقالية فاصلة تأخذ بأيدينا من السوداوية إلى نسيم الحرية الرائق؛ لكن هذه المرحلة التي تجلت فيها عظمة وفطنة وذكاء هذا الشعب بموافقة أغلبيته الكاسحة على إعطاء المجلس العسكري مدة محددة بميقات معين يسمح فيها بالانتقال السلس للسلطة؛ ليرجع الحق لأهله بعد مئات السنين من الاستلاب والجبرية والكبت رأينا بعض "الشطار" من الإسلاميين والوطنيين ينبطحون من جديد، في إعادة لترميم تمثال الطاغوت مرة أخرى!

إن العملية السياسية في مصر طوال مائتي عام كانت مسرحية كئيبة الأركان، سوداء المعالم، يُضحك على الشعب الغلبان وهو يعلم أنه يضحك عليه، ثم مع ذلك يمنح هذا الشعب – في ظل تاريخ هذه المسرحية العبثية – ثقته فيمن يحسبهم مظنة الأمل والإصلاح والجهاد وقول الحق، ويصبر على خذلانهم له، ويقف خلفهم رغم فشل الخيار السياسي المنبطح، والجهادي المتطرف لهم، ثم لما ضاق به الحال، ووصلت مصر إلى أسوأ المساوئ قام الشعب بنفسه في بطولة منقطعة النظير ليقود ثورته ثم يلحق به "الشطار" على رهق وعجل بعدما علموا أن الخيار الثوري هو الخيار الناجع والرائع والقاطع للقضاء على مائتي سنة فشل فيها هؤلاء العباقرة في تحريك الحائط؛ ليستسلموا لهذا الحائط بمقولتهم المنبطحة "امشي جنب الحيط"!

على أية حال، شاءت الأقدار أن تطول الفترة الانتقالية لنعلم أن هذه الثورة لا يراد لها الاكتمال والاستمرار والنجاح إلا وفق شروط مسبقة، ومبادئ فوق دستورية تمثل النموذج الحي لعلية الأطهار على الرعاع البيئة؛ ليعيد "الشطار" من جديد إحياء النموذج الخانع المنبطح في قبول "وثائق" تعترف ضمنيا و "أدبيًا" بسيادة طبقة على أخرى في إعادة لتمثيل مشهد اقتناص العظمة من فم الأسد من جديد، وهم يحسبون أنهم على الحق صامدون، منتصرون بهذا الخزي والهوان والاستسلام والركون ونسيان الفعل الثلاثي "ثار" ومشتقاته لينقلب الحال أو كاد إلى "نَعِم" ومشتقاتها وعلى رأسها "نعامة".

لكن هذه الثورة وهذه المرحلة وهذا الجيل لا يحتمل أن ينتظر عقودًا أخرى ينهض فيها جيل آخر لا نعلم متى هو بأعباء مرحلة ثورية أخرى قد تجهض فيها ثورته؛ ليقوم أحفاد الشطار وتلامذتهم بدور المقاوم السياسي المنبطح المركون إلى ثقافة عرجاء، وفكر شائه، وفقه منبطح، ليقف العقل عاجزا عن حل إشكالية هؤلاء المنبطحين المستمرين المخترقين لحاجب الزمن عبر العقود والسنين والأيام، لأرى أن هتلر كان معه بعض الحق في إزالة أو تطهير كما كان يرى كل منبطح محتمل يأخذ أكثر مما يعطي!!

هتلر كان متطرفًا لا فكاك من ذلك .. لكن الحمق الأكبر أن نظل متدثرين مستمتعين بأقوال وأفعال تخدرنا وتنعنشنا وتحمل إلى قلوبنا الأمل القادم، والغد المشرق لنأخذ هذه الكمية من الانبطاح يوميا عبر عروق الثقة، وشرايين الصدق في الأسوة الخانعة، والقدوة "الشطورة" التي تمد حبال الصبر على الأسد الذي يأبى أن يعطي حتى مجرد عظمة نخرة لهم، مستذكرا على الفور رائعة الشاعر الصابر القائل: "يا صابر الصبر صبرنا بصبر المتصبرين"!!

الكلام وحده وإن بدا ظريفًا خفيفًا لطيفًا لا يحمل في أعماقه إلا الأسى والمرارة وتذكار أيام الثورة ونومنا في برودة شهر يناير القارصة دون غطاء في ميدان التحرير: إنني لا يمكن أن أنسى بحثي وبعض إخواني من الثوار ليلة الثلاثاء 31 يناير ونحن نبحث عبر منطقة التحرير وشارع رمسيس ومسجد الفتح، وعبر حظر للتجوال، وأكمنة اللجان الشعبية في هذه المناطق عن مأوى دافئ ننام فيه لنستعيد في اليوم التالي نشاط ثورتنا ثم لا نجد لنرجع إلى الميدان من جديد في حالة من الرهق والإعياء والاستسلام لبرودة الجو لننام على أمل معقود، وغد جميل، ولا يمكن أن أنسى كذلك التضحية والبذل والفداء بالنفس والمال الذي رأيته في هذا الميدان الذي تنزلت عليه الرحمات والبركات بفضل دم الشهداء وأرواحهم الزكية.. كيف أنسى وينسى غيري ممن واجه الموت هذه اللحظات القاسية التي كنا نرجو من الله فيها أن يخلصنا من الظلم والطغيان والفساد؟ كيف بعد هذا كله نعيد تكرار مشهد المائتي عام الماضية في هذه الفترة الانتقالية التي أطالوها بتواطئهم المتعمد أو الجاهل أو المنبطح؟

كانت كلمة السر في ثورتنا في الشباب أولاً والشعب من خلفه ثم لاحقًا الجماعات والأحزاب المنظمة ولا يمكن أن نننزع بجرة قلم عن أي أحد من هؤلاء الوطنية والفداء والتضحية، كلهم شاركوا وامتحنوا وثبتوا وانتصروا وفرحوا سويا، الآن تمتحن الثورة من جديد، تمتحن كما تمتحن المرأة التي حانت لحظة مخاضها وجاءها الطلق بعد تسعة أشهر كاملة من التعب والرهق والصبر لتسعد بلحظة رائعة رائقة يبذل فيها الجهد، وتُرفع فيها أكف الضراعة ليبشر الجميع بمولود جديد جميل عزيز على النفس.

بأيدينا إنجاح الثورة وبأيدينا إماتة الجنين قبل ولادته، لكن موته الآن بعد 9 أشهر كاملة لخليقة بالتأمل والحسرة والألم وحر الطعنة لندخل في دوامة من الخيارات المرّة: العذاب في ظل نظام ديكتاتوري جديد، السفر والهجرة إلى بلاد الله الواسعة، الكبت والموت من الفقر والحرمان والتعاسة، الظلم والفساد وزوار الفجر، والتقتيل والاستكبار في الأرض بغير الحق، العبارات التي تغرق، والفلاحين الفقراء، والصعيد المتهالك، والدولة الخانعة، والإسلام الذي لا نستطيع تطبيقه، والحرية التي اقتربنا منها كما يقرب أهل النار إلى الجنة ثم يؤخذ بهم إلى النار إمعانًا في العذاب والحسرة .. وغيرها من الخيارات الكئيبة الثقيلة على النفس والتي عرفناها وعرفها آباؤنا وأجدادنا في هذا البلد الغلبان.

إن يوم غد الجمعة نجدد فيه إحياء ثورتنا، وتجديد مودتنا، واستعادة حريتنا، والالتفاف حول أهدافنا، ونصرة قضيتنا.. إنه يوم العزة والكرامة يوم ولادة المولود الذي انتظرناه طويلاً فإما أن يأتي إلينا بطريقه الطبيعي المتعارف عليه، وإما أن تكون "القيصرة" هي الحل!

نشر في شبكة رصد الإخبارية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق