إن المقارنة بين الحضارات مفيدة لمن يبغي معرفة العموميات الإنسانية من ناحية الفكر والحضارة والثقافة، قد تكون هذه المصطلحات الثلاث مجرد مترادفات تتقارب العلائق اللغوية والاصطلاحية بينها، لكنها في العمق مهمة في كل منها لمن يريد معرفة حقيقة الإنسان من خلال تاريخه الحضاري والفكري والثقافي وما قدمته يداه أو جنته يداه في هذا الكون، ومن ثم العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة!
قديما حرص اليونان على تقسيم مجتمعاتهم إلى أقسام ثلاثة صارمة يظل العبيد في المكانة الدونية دائما فيها، وفي ظل هذه الحضارة الإغريقية التي قامت على تراثها أوربا الوسيطة بل الحديثة أيضًا كان الانفصام واضحًا بين عالم الفلسفة الإغريقي الذي مهّد – في الرؤية الغربية والعالمية على السواء – للفلسفة البشرية وقعّد لها إلى الآن وبين الواقع الإغريقي ذي الطبقية والظلم الاجتماعي والاقتصادي على السواء والمراجع التاريخية خاصة الأوربية منها لا تخلو من التأريخ لهذا الانفصام الواضح بين الإنسان الإغريقي في إطار الفكر الرحب وبين الآخر لا سيما من يعيش في عالم من الظلم والبهتان والنسيان، وقد أشار ديورانت في لمحة ذكية إلي سبب انهيار هذه الحضارة بقوله: "إن الجري وراء اللذات قد أنهك حياة الراشدين من أفراد الطبقات العليا. ولم تجد المشكلة القديمة مشكلة الآداب والقوانين الأخلاقية، وكيف يوفق الناس بين أبيقورية[1] الفرد الفطرية ورواقية الدولة الضرورية[2]، لم تجد هذه المشكلة حلاً لها في الدين، أو السياسة، أو الفلسفة. وانتشر التعليم ولكن انتشاره كان رقيقاً غير عميق، فقد كان يفعل ما يفعله في جميع العصور التي كانت الغلبة فيها للعقل فيعنى بالمعارف أكثر مما يعنى بالأخلاق، ولذلك أخرج جماهير غفيرة من أنصاف المتعلمين الذين انتزعوا من العمل ومن الأرض، وأخذوا يطوفون وهم ساخطون حيث يجب أن لا يكونوا، كأنهم بضاعة سائبة في سفينة الدولة"[3] في تأكيد منه لهذا الانفصام وأثره.
جاء الرومان من خلفهم منبهرين بالإطار المادي لهذه الحضارة التي سبقتهم، ثم لما انتصروا عليهم عقب الحرب المقدونية الشهيرة التي وصلت فيها الإمبراطورية الرومانية لأقصى اتساعها، وأمسى الإغريقي العظيم عبدًا لسيده الروماني الجديد، يأمره بتخليد انتصاراته وأمجاده وبطولاته في التماثيل والمعابد الرومانية التي لا تزال تبهر الناظرين، كان النموذج الكامن خلف كلتا الحضارتين سعي الإنسان لإشباع الذات، من خلال السيطرة على كل ما تطاله يداه، ومن ثم كانت كلمة السر في القوة والتنظيم والمباغتة والهيمنة وأيضًا الأسطورة التي لعبت دورًا مهمًا في تطويع الآخر وقبوله النفسي المسبق لسيادة جنس على آخر!
وصل هؤلاء الرومان اتساعهم وأضحت إمبراطوريتهم ممتدة من المحيط الأطلسي غربًا إلى العراق شرقًا ومن جبال الألب والجنوب الجرماني شمالا إلى ساحل البحر الأحمر جنوباً، واستطاعت أن تهيمن على الشرق الغني، فابتلع الرومان مصر الفرعونية البطلمية والشام الغني بثرواته وموقعه المهم!
وفي سقوط مصر الفرعونية ذات الحضارة العسكرية والعمرانية القوية دلالة مهمة على أمر لافت حقًا، وهو قبول المصريين وقتها بالدونية وضعف المقاومة أو خوائها على الأرجح؛ فهؤلاء المصريون القدماء "لم ينعموا بالحرية يوماً واحداً في تاريخهم كلهم" على حد قول يوسفوس. ذلك أن ثروتهم كانت تغري بهم الطغاة أو الفاتحين واحداً في إثر واحد مدى خمسين قرناً من الزمان كانوا فيها يستسلمون لأولئك الطغاة والفاتحين[4]. في إشارة لأثر انحطاط العامل الثقافي والفكري والحضاري على الذات الجماعية في الأمم ولو كانت أمة ذات تاريخ حضاري مبهر كالفراعنة!
كان نزول الإسلام في البيئة العربية التي لم تُشرب عوامل الانحطاط النفسي والحضاري والأخلاقي بالقدر الذي انتشر عند الروم والفرس والصينيين والهنود والأمم المنحطة الأخرى معجزة حقيقية كانت عاملاً من عوامل انتشار الإسلام بينهم في ثلاثة وعشرين عامًا فقط قضاها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بينهم، وإن انتقضت وشابها العطن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم متجلية في حروب الردة التي أبانت عن التشويه الثقافي الذي أصاب القبائل الخارجة على أبي بكر رضي الله عنه، أو بالأحرى مدى تغلغل الانحطاط بينهم، فخرجت على الخليفة الأول كل القبائل عدا المدينة ومكة والطائف، والتفسيرات التي تناولت أسباب بقاء هذه المدن الثلاث متعددة في كتب فقه السيرة والسيرة على السواء!
في المرحلة التالية وعقب محنة الردة مباشرة انطلقت الجيوش الإسلامية، في عملية أطلق عليها المسلمون وقتها حركة الفتوح والدعوة إلى الإسلام، هذا الدين الذي حمل في ثناياه فكرًا مختلفًا عن الفكر الروماني والثقافة الساسانية والميثولوجيا التي أُطرت في ضمير الشعوب التي احتك الإسلام بها، لقد استطاع هذا الفكر وهذه الثقافة والسلوك المبهر لرجال الفتح الإسلامي أن يقنع ملايين من البشر في الدخول لهذا الدين طواعية في عمليات عسكرية سريعة ومركزة لم نر فيها الدموية المعتادة للحروب العالمية وقتئذٍ أو حتى بعد ذلك، لقد وصلت الدولة الإسلامية فيها أقصى اتساعها في الربع الأول من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، ليتم السقوط المرحلي الأول للإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية، وتفنى الإمبراطورية الفارسية الملحدة في إشارة أخرى لأهمية العامل الديني/ الثقافي في ثبات الشعوب أمام التحديات الثقافية والعسكرية الجبارة، وفي دلالة على قوة وثبات النموذج العالمي الإسلامي.
إن المقارنة السريعة بين الحضارة الإسلامية والرومانية حتى القرن الرابع الهجري أو قبل ذلك بنصف قرن توحي لنا بغلبة الحضارة الإسلامية على مستوى الأفراد والمجتمع والدولة لأن الرابط القوي بين الإسلام وهذه العناصر الثلاثة كان لا يزال وضيئًا مؤمنًا بالعالمية في كل شيء، وأولها إيمان الفرد بهذه العالمية: حب الآخر كما يحب الإنسان نفسه، وإيثار المسلم ولو كان في النفس خصاصة، فلسفة الاعتصام بحبل الله، وحدة العقيدة ووضوحها وثباتها متمثلة في قضية التوحيد، ووجود مرجعية نهائية متجازوة لواقع الإنسان...
هذه المعاني الإسلامية الأصيلة التي لا تقل أهمية عن هيبة الدولة ومدى اتساعها وقوة عناصرها كانت الميزة الكبرى لهذه الحضارة، ثم لما غابت أو كادت أن تغيب أو انحصرت أو شوّهت أو نسيت أو كل هذه معا رأينا الصدمة الأولى لهذه الحضارة في قدوم الغربي البعيد، أو بالأحرى الصليبي المتكئ على فلسفة حب الذات، وإشباع الغريزة مع بعض الحماسة النصرانية الشائهة التي تجعل من المسلم عدوًا كافرًا معه كنوز الشرق، ليصطدم النموذج العلماني في تجلياته الأولى متمثلة في الأفراد، وبين العالمية التي تقاعس المسلمون عن أداء حقها، وبين العولمة والعالمية قامت الحروب منذ القرن الخامس الهجري ولا زالت حتى اليوم؛ لتنتصر العلمانية في أغلب هذه القرون بصور شتى سواء على مستوى الأفراد أم المجتمعات أم الدول أم هم كلهم في عملية إحصائية بسيطة.
إن التأمل في هيمنة النموذج العلماني على العالم - وهو نموذج بالمناسبة يرسخ للرأسمالية المتوحشة في كل العصور، والتفوق العسكري، وإهلاك الطبيعة، والقضاء على كل عدو محتمل يعوق مسيرة الرؤية العلمانية التي تنفصل فيها القيمة، والمرجعية النهائية عن أفعال الإنسان وأفكاره ورؤاه – على النموذج الإسلامي العالمي المناقض للعلمانية بكافة فلسفاتها وتجلياتها العنصرية الأخيرة لمن التحديات العظمى لمشروع الصحوة الإسلامي الكبير.
ما يلفت النظر أن من أهم التجليات العنصرية للنموذج العلماني في القرنين الأخيرين ظهور النازية والفاشية والشيوعية ثم الليبرالية المتحررة ومنها الصهيونية في القرن الأخير.. هذا التعدد للأيديولوجيات المتوحشة يعكس رؤية الغرب للعالم والحياة والأفكار والإنسان، يعكس حقيقة مريعة متمثلة في النسبية المطلقة لكل شيء، والإيمان بهذه النسبية، بحيث أضحى التغيير والتغير إلهًا للحضارة الغربية المعاصرة، في غياب واضح لمعنى القيمة المطلقة والمرجعية النهائية، ومن ثم لابد أن تتصادم حقيقة التوحيد عقيدة الإسلام والحضارة والأفكار والثقافات الإسلامية والسلوك مع العلمانية بكافة تجلياتها المنبثقة عن الطبيعة/المادة/التغيير المسيطر على رؤية كل ما هو غير إسلامي، يزداد هذا التصادم وينحسر طبقًا لأسباب عدة على رأسها العلاقة الجدلية بين القيمة والمادة؛ لكن يظل البادئ لعملية التصادم هو النموذج العلماني المتطلع للتوسع والسيطرة المجرمة على الطبيعة ناسيًا أو متناسيًا أي شجر أو بشر أو حجر على هذه الطبيعة!
أما إيثار المسلمين للسلامة فهو أمر لن يجديهم نفعًا مع علمانية لها تاريخ واضح، ومستقبل لن يختلف كثيرًا عن هذا الماضي، ولذلك كانت عالمية النموذج الإسلامي من أعظم الرحمات الإلهية بالبشر لأنه نموذج استباقي يحد من تغلغل العلمانية المتوحشة الشاملة كما كان الدكتور المسيري يطلق عليها دائمًا رحمه الله، ولا عجب إذن أن نقرأ قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) قراءة جديدة تأخذ في الاعتبار كل هذه العلاقة والتاريخ بين العلمانية والعالمية.
لكن ما يلفت نظر الباحث في تفاسير هذه الآية تلك الخواطر النورانية للأستاذ سيد قطب رحمه الله، والتي تتناول هذه الفكرة بشيء من البسط والعمق في آن واحد، قال رحمه الله: "لقد دلت تجارب البشرية حتى اللحظة على أن ذلك المنهج (الإسلام) كان وما يزال سابقاً لخطوات البشرية في عمومه، قابلاً لأن تنمو الحياة في ظلاله بكل ارتباطاتها نمواً مطرداً، وهو يقودها دائماً، ولا يتخلف عنها، ولا يقعد بها، ولا يشدها إلى الخلف، لأنه سابق دائماً على خطواتها متسع دائماً لكامل خطواتها ... وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها، وهي قلقة حائرة، شاردة في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفاف الأرواح والقلوب . . فهذا هو عنصر الرحمة الأصيل في تلك الرسالة: عنصر التوحيد المطلق الذي ينقذ البشرية من أوهام الجاهلية، ومن أثقال الوثنية، ومن ضغط الوهم والخرافة، والذي يقيم الحياة على قاعدتها الركينة، فيربطها بالوجود كله، وفق نواميس واضحة وسنن ثابتة، لا وفق أهواء ونزوات وشهوات، والذي يكفل لكل إنسان أن يقف مرفوع الرأس فلا تنحني الرؤوس إلا لله الواحد القهار هذا هو طريق الرحمة . . { فهل أنتم مسلمون؟ }"[5]، هذه الخواطر من الأستاذ رحمه الله تصلح نواة لتجديد معالم المشروع الإسلامي العالمي القائم على قاعدة هي في أصلها بعيدة كل البعد عن المادية والطبيعة، تلك القاعدة هي الرحمة.
في نهاية هذا المقال ثمة أربعة كتب ننصح القارئ باقتنائها والاطلاع عليها لأهميتها في هذا الباب المهم الذي يُكوّن رؤية جديدة لدور الحضارة الإسلامية والتحديات التي تواجه نهضتها المترقبة وعلى رأسها العلمانية بكافة تجلياتها في الشرق (الشيوعية/الاشتراكية/ الرأسمالية المتوحشة) أم في الغرب (الليبرالية المتحررة)، هذه الكتب هي: العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، وتاريخ الحضارة من خلال موضوعات للأمريكي كافين رايلي من منشورات عالم المعرفة، لاسيما مقدمته المهمة، مذكرات الدكتور المسيري، والأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة، وهو من منشورات سلسلة عالم المعرفة. وهذه الكتب الأربعة من تأليف وترجمة الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى.
نُشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث
[1] تعتمد المدرسة الأبيقورية على الخبرة الحسية في تفسير سلوك الإنسان، وقد سبق أبيقور سيجموند فرويد في اكتشافه مبدأ اللذة، كما تحدث عن الصراع النفسي سابقا بذلك كل مدارس علم النفس التي تناولت موضوع الصراع، والمقصد هنا الرغبة الجسدية والحسية للأفراد.
[2] تزعم الرواقية أن التحكم الذاتي، الثبات وعدم الالتهاء بالعواطف، التي قد تفسّر باللامبالاة بالمتعة والألم، تجعل الإنسان مفكرا سليما، متزن التفكير وموضوعي. أحد جوانب الرواقية الأساسية هي تحسين رفاهة الفرد الروحية. والمقصد هنا صرامة الدولة وعقلانيتها في التعامل مع الشعوب.
[3] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 8/25. طبعة الهيئة العامة المصرية للكتاب.
[4] ديورانت: السابق 11/96.
[5] سيد قطب: في ظلال القرآن 4/2401، 2402. طبعة دار الشروق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق