كان مقتل الخليفة
الراشد عثمان رضي الله عنه سببًا في انطلاق عدة أحداث جسام مترتبة على هذه القتلة
البشعة التي قَبِل فيها رضي الله عنه أن يُراق دمه دون إراقة دماء المؤمنين في
المدينة المنورة، ومن ثم في الولايات الإسلامية المختلفة.
لقد اختار الصحابة علي
بن أبي طالب رضي الله عنه ليخلف عثمان، ويقبل حمل الأمانة الثقيلة التي انقسمت
فيها الأمة بين أمرين: ففريق يطالب بدم عثمان والقصاص له أولاً وقبل أي شيء آخر ويتزعمهم معاوية بن أبي
سفيان رضي الله عنه في الشام، وفريق يرى الخلافة قبل القصاص، وتثبيت دعائم الدولة
وتقوية يد الخليفة والخلافة وهدوء الحال ثم القصاص بعد ذلك وهذا الرأي ما أراده
الخليفة الراشد علي بن أبي طالب عليه السلام.
وبسبب اختلاف وجهات
النظر، واختراق جبهة علي رضي الله عنه بالمنافقين والأفاقين ومروجي الفتنة، فتارة
يكونون معه، وتارة ينقلبون ضده، وتارة ينسحبون من معسكره، وأخرى يتسببون في اقتتال
المسلمين حتى يبعدوا عن أنفسهم الأضواء باعتبارهم القتلة الحقيقيين لعثمان رضي
الله، بسبب كل هذا كانت خلافة علي رضي الله عنه - التي لم تتجاوز الأعوام الخمسة –
قلاقل واضطرابات لم يستطع فيها أن يحقق مبتغاه، ليُستشهد رضي الله عنه على يد أحمق
جاهل حسب أنه أحسن صنعًا بهذا ليئد الفتنة – بزعمه - التي ظلت مشتعلة لأعوام عدة!
اجتمعت الأمة على
الحسن بن علي سبط النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان مؤثرا للسلامة، محبا للأمن،
كارهًا سفك الدماء التي استمرت سنوات طوال بين المسلمين؛ ليتنازل عن الخلافة طوعا
لمعاوية بن أبي سفيان ليحقق وجهته بالقصاص لدم عثمان أولا، غير أن الاتفاق الذي
أُبرم بينهما كان يقتضي أن يرجع الأمر إلى الأمة بعد موت معاوية لتختار –
باعتبارها صاحبة الحق والولاية الحقيقية – من تراه مناسبًا لها، ملبيًا لرغباتها
ومتطلباتها، وبهذا حرص الحسن رضي الله عنه على اتباع نهج جدّه النبي صلى الله عليه
وسلم بترك الحق للأمة في اختيار من تراه مناسبًا لها، وهو الأصل الذي حادت عنه
الأمة طويلاً بعد ذلك!
توفي الحسن رضي الله
عنه في خلافة معاوية، ووجد أخوه الحسين رضي الله عنه أن الأمر يتجه خلاف ما تم
الاتفاق عليه بين أخيه ومعاوية، ليطلب معاوية الخلافة لابنه يزيد؛ لأسباب كثيرة،
ومستجدات فرضت عليه هذا الاختيار – ليس هذا المقال بصدد مناقشتها – ومن ثم كان رضي
الله عنه من جملة الصحابة الذين رفضوا بكل قوتهم هذا الأمر؛ لأنه يستلب حق الأمة
في الاختيار؛ فضلا عن نقضه للاتفاق الذي تنازل بمقتضاه الحسن رضي الله عنه
بالخلافة لمعاوية.
ورغم أن جل الصحابة
بايعوا يزيد؛ ورغم نصح الناصحين للحسين رضي الله عنه إلا أنه أصّر على اتباع الحق،
والجهاد في سبيل تحقيق العدل ورفع لواء الأمة عاليًا باعتبارها صاحبة الحق الأصيل
في هذا!
توفي معاوية رضي الله
عنه في عام 60 من الهجرة، وتولى من بعده ابنه يزيد؛ الأمر الذي قابله الحسين
باستياء بالغ، ورفض واضح، وبدأت الأمور في التطور ليرسل له أهل العراق الرسائل
التي تدعوه للمجيء إليهم؛ فقد تعهدوا له بالوقوف في وجه الظلم، ونصرته؛ وبالفعل
قبل الحسين رضي الله عنه رسائل أهل العراق، رغم تحذير المقربين له من الصحابة وآل
البيت من خطر أهل العراق وغدر هذه القبائل مذ كانت مع والده علي كرم الله وجهه،
لكنه – ورغم ذلك كله – قرر الخروج متحديا البطش والظلم وبوادر انتزاع حق الأمة في
تقرير مصيرها، واختيار وجهتها، وانطلق إلى العراق مع أهل بيته في نموذج حي وراق في
البذل والتضحية لمن يستحق لقب سيد شباب أهل الجنة.
لكن ما حذّره منه بعض الصحابة قد وقع بالفعل،
فقد خانه أهل العراق، وأخبروا واليهم عبيد الله بن زياد بخطتهم ووجهة الحسين
إليهم، ومن ثم أراد رضي الله عنه أن يغير وجهته من الكوفة إلى الشام بعدما اكتشف
غدرهم، غير أن جيش عبيد الله بن زياد الوالي الغشوم قد لحقه وحاصره عند منطقة
كربلاء غرب الكوفة في أواخر ذي الحجة من عام 60هـ لتظل محاصرة له، مع مساومات
وابتزاز عبيد الله، لكن الحسين رفض كل هذه المساومات، رفض أن ينصاع لهذا الوالي
الحقير، ورفض الظلم والذل، ورفض أن يؤسر ويؤخذ إلى الكوفة رغم قلة عدده وعدته؛
ليُستشهد في نهاية الأمر في مثل هذه الأيام في العاشر من المحرم من عام 61 من
الهجرة مع جل أهل بيته من أبنائه وأبناء إخوانه؛ مخلفًا وراءه النموذج الإسلامي
الحي في مواجهة الفساد والاستبداد والظلم، في ثورة أخمدت بسبب الخونة والأفاقين،
مع التأكيد أن يزيد بن معاوية كان بعيدا عن هذه الأحداث، وأن معاوية رضي الله عنه
كان قد اجتهد في تنصيب ولده من بعده خليفة لأسباب موضوعية تناولها العديد من
المؤرخين والمفكرين طوال تاريخ التراث الإسلامي!
***
إن ثورة الحسين رضي
الله عنه ما كان يجب أن تندثر في تراث الأقدمين، ويتم تصنيفها على أنها حدثت في
زمن الفتنة والاضطراب والقلاقل؛ بل كان من الواجب أن تؤخذ كنموذج إسلامي أصيل
ينطلق منه كل مظلوم في مواجهة الظالم، تنطلق منه الشعوب المأسورة المقهورة عبر
الزمان والمكان مستنة بسبط النبي صلى الله عليه في إرجاع الحق لأهله، في جعل هذه
الأمة وهذه الشعوب صاحبة الولاية الحقيقية؛ فلها أن تعين من تشاء، وتعزل من تشاء،
وتحاسب من تشاء، وترفع من تشاء؛ ما دامت مرجعيتها واضحة لا لبس فيها، ولا غبار
عليها، لكن مذ دخلت في المؤلفات الفقهية تسويغات الفقهاء بقبول ولاية المتغلب على
إطلاقها، والمنتزع للسلطة بغير وجه حق على عنانه؛ بحجة درء الدماء ووأد الفتنة؛
انقلب الأصل الذي هو الجهاد في سبيل إحقاق الحق، وإقامة العدل، واحترام حرية الأمة
في الاختيار ووجوب اتباعها، انقلب هذا الأصل ليرتفع إلى السطح الاستثناء وحكم
الجبرية وإذلال العباد مع وجود فقهاء الانبطاح ومسوغي القبول بالأمر الواقع؛ لتعيش
الأمة عبر قرون عديدة تحت نير البطش والذل؛ ليتسلم مقاليدها فرعون ثم إذا حانت
منيته سلمها لفرعون جديد؛ وكأن ما أراده الإسلام تحقيقًا وتطبيقًا من إخراج العباد
من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد قد نُسي أو ظل قابعًا في المؤلفات منتظرًا
للخطباء المفوهين الذين يتكلمون عن الماضي المجيد، ورؤية الإسلام للإنسان باعتباره
حرا له كل الصلاحية والأهلية في اختيار رئيسه بل في اختيار إلهه!
إن الثورات العربية
بما فيها الثورة المصرية يجب أن تضع نموذج الحسين بن علي رضي الله عنه في الثورة
على الظلم وبوادر الاستبداد السياسي في حسبانها؛ فمثل هذا النموذج مما يقوي
العزائم على استمرار هذه الثورة ضد الفساد والاستبداد والقهر الذي أصيبت به مصر
عبر قرون كانت الرعية فيها كالغنم كلما مات راع سلمها لآخر دون أن تنطق ببنت شفة،
أو حتى تتأوه على الظلم الواقع عليها.
لقد قدم الحسين رضي الله
عنه نفسه في سبيل الله؛ قدمها في سبيل الحق والحرية والعدل والكرامة والإنسان؛
ولقد قدمت الثورة المصرية ولا زالت الأرواح الغالية للشباب المجاهد في سبيل الحرية
والكرامة؛ في سبيل إقامة العدل، في سبيل
إقامة أمة لا يجب أن تسكت بعد ذلك؛ فقد أكد لنا التاريخ أن سكوت أهل الحق عن حقهم سبب
مباشر للعبودية والقهر والفساد.
إن ثورتنا مستمرة لحين
اختيار الأمة – صاحبة الولاية الحقيقية - رئيسها
والقائم بأمرها، وحتى وبرغم اختياره لن تسكت على جريمة يرتكبها، أو تعدٍ يقوم به،
فمبدأ مراقبة الأمة للحاكم هو الأصل الذي سنه النبي وصرّح به الخليفة الأول أبو
بكر الصديق رضي الله حين قال في أول خطبة خطبها بعد مبايعته خليفة للمسلمين:
"أَيُّها الناسُ فَإِني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإِنْ أَحْسَنْتُ
فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني". فتقويم الأمة للحاكم هو
الذي جعل الحسين يبتدر لإزالة هذا الفساد الذي كان قد بدأ يدب في أوصال الأمة، وهو
المبدأ الذي نادى به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم من بعده
وهو الذي لا يجب أن ننساه مادمنا مسلمين!
يرى الدكتور عدنان ابراهيم أن معاوية وبعده الامويون اغتصبوا الحكم من آل البيت النبوي..وكم هي شائكة هذه القضية.. الأمويون كانوا أصحاب العصبية وهم أجدر للحكم حسب نظرية ابن خلدون..
ردحذفتوحيد الأمة الاسلامية لا بد أن يمر بمرحلة قراءة عميقة لهذه اللحظة التاريخية تعطي لكل حق حقه..