في هذا المقال الأخير نشير
إلى رؤية المستشرقين للتراث العلمي الإسلامي باعتباره أحد الميادين المهمة التي
تبرز من خلالها عظمة الحضارة الإسلامية وقوتها أو ضعفها وتهافتها وتعمد الإساءة
إليها بالتلفيق والكذب واللصوصية وتجاهل الحقائق كما سنرى.
لقد سارت محاور العلوم
الإسلامية عند المستشرقين على التوازي مع ما رأيناه سابقًا من اهتمامهم الملحوظ في
الدراسات الحضارية لا سيما ميدان النظم بصوره المختلفة، والحق أن كثيرًا من هؤلاء
المستشرقين قد برع في تحقيق العديد من المخطوطات العربية في ميدان العلم النظري
والتطبيقي.
لقد تجلت حركة
الاستشراق العلمي بصورة ملحوظة في ألمانيا؛ فقد اهتم كراوز بالكيمياء عند العرب،
ونشر مايرهوف عدة كتب عربية عن الصيدلة والتشريح وطب العيون وغيرها، وللمستشرق
روسكا عدة مساهمات في الجيولوجيا والكيمياء والرياضيات.
ويبدو أن نظرة يوليوس روسكا
(ت1949م) التاريخية البعيدة وموهبته النقدية التي عُرف بها قد مكنته من فك عقال
تاريخ كتاب الفلك للقزويني، وقد أعطاه اكتشاف كتاب الرازي "سر الأسرار"
في مخطوطة بمكتبة جوتنجن الحافز للقيام
بدراسات جادة حول علم الكيمياء عند العرب، حيث وقف بمفرده على الطبيعة
التجريبية لمنجزات الرازي الكيميائية، وبالإضافة إلى روسكا فقد حظي الفيزيائي
آيلهاردن فيدمان (ت1928م) الأستاذ في جامعة أيرلانجن على تقدير كبير بسبب معرفته
الدقيقة بالعلوم الإسلامية، وبنشاط لا يعتريه الفتور في ضبط وتصحيح المادة العلمية
الإسلامية المخطوطة والمطبوعة على السواء[1].
وقد قدّم الطبيب
الألماني آرنست شايدل (ت1922م) ترجمة للفصول الطبية في كتاب "مفاتيح
العلوم" للرازي، وعلّق عليها ونشرت في عام (1915م) في تقارير جلسات الجمعية
الطبية، وكان عمله مهمًا لما تضمنه من ملاحظات مستفيضة حول أسماء الأدوية. وقد حقق
طبيب ألماني آخر وهو ماكس سيمون (ت1909م) النص العربي من الجزء الخامس والأخير
لجالينوس بلغته اليونانية لغويًا.
ومن الملاحظ أن كتب
الصيدلة وطب العيون العربية قد لاقت الاهتمام ذاته على أيدي المستشرقين الألمان،
وقد ضمّن ذلك ي. هيرشبرج في بحوثه وماكس مايرهوف[2].
لكن ما يلفت النظر في الاهتمام بالتراث العلمي
الإسلامي أن بعض المستشرقين قد حاول إهمال اسم مؤلفي المخطوطات العلمية الإسلامية
ونسبتها إلى مؤلفين من اللاتين الأوربيين، وكان البعض الآخر إذا فشل في هذا المسعى
فإنه يحاول أن ينسب ما في هذه المخطوطات إلى أفكار يونانية مشابهة بهدف إظهار أثر
الحضارة اليونانية على الحضارة الإسلامية ويبدو ذلك واضحًا فيما فعله كاراديفو حين
ترجم فصلاً من تذكرة الطوسي وكذلك كتاباً للبوزجاني في الرياضيات[3].
ولقد تجلت هذه النزعة
في الاستشراق الألماني بصورة واضحة؛ من حيث اهتمامه بتاريخ العلوم عند العرب؛ فمنذ
أن كتب المستشرق الألماني فوبكة في هذا المجال منذ القرن الثامن عشر؛ فإنه دأب
يقارن بين التراث العلمي العربي والتراث اليوناني هادفًا عزو إنجازات العرب
والمسلمين العلمية إلى اليونان، بل من الملاحظ أن يستمر هذا الخط الاستشراقي عبر
السنين وينتقل إلى الولايات المتحدة عن طريق العلماء الألمان المهاجرين إليها.
فمثلاً نرى المستشرق
الألماني المهاجر لأمريكا فون جرونباوم والذي أثّرت آراؤه في مدرسة الاستشراق
الأمريكية يقول: إن الحضارة الإسلامية تقوم على الاقتباس والاستعارة التي لا ضابط
لها ولا حدود لها من الحضارات اليهودية والمسيحية والهلينية بل والألمانية القديمة
أيضًا. ويبدو أن هذه الآراء كانت من التأثير بمكان بحيث ظهر تأثيرها على فلاسفة
بارزين في الغرب مثل "برتراند راسل"؛ الذي ردد ببساطة النظرة
الاستشراقية في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية"، فيقول: "ليس
للفلسفة العربية شأن يذكر كفكر أصيل فرجالها أمثال ابن سينا وابن رشد ليسوا إلا
مقلدين"[4].
لكن مزاعم هذه الفئة
من المستشرقين مردود عليها، فقبل أن تقبل أوربا بإحلال الدليل الاستقرائي محل
الآراء الافتراضية في القرن السابع عشر، كان الدليل الاستقرائي موضع اعتماد
الحضارة العباسية قبل سبعة أو ثمانية قرون خلت، وقد اعتمد على هذا المنهج كل من
ابن سينا وابن الهيثم والبيروني في الكثير من استنتاجاتهم التطبيقية والنظرية[5].
لقد اكتشف المسعودي
على سبيل المثال دورة المياه في الطبيعة قبل أن يعلن عنها هاتون في عام 1785م،
وميز ابن سينا بين مادة البخار ومادة الهواء قبل علماء عصر النهضة الأوربية بقرون،
وقبل أن يتبلور مبدأ الواقعية في دراسة العلوم الصرفة في أوربا في القرن التاسع
عشر والذي يتلخص في دراسة المعطيات المعلومة في الحاضر للكشف عن الحوادث المجهولة
في الماضي، وكان البيروني قد استند على هذا المبدأ في منهجه العلمي القائل
"بالترقي من المشاهد المحسوس إلى الغائب المعقول".
ومن اللافت أن المناوئة
الاستشراقية للتراث العلمي الإسلامي قد طالت بعضًا من كبار العلماء التجريبيين في
الإسلام مثل الحسن بن الهيثم (ت430هـ) والخوارزمي (ت383هـ) وغيرهم.
إن المطلع على مصنفات
ابن الهيثم يلمس دقة في التفكير وعمقًا في البحث والاستقراء والمنهج العلمي
التجريبي المبتكر الذي أوصله إلى مستوى الإبداع في نظرياته بعلم الضوء، فقد كان
إذا ابتكر فكرة جديدة يقول: "ولا نعرف أحدًا من المتقدمين ولا المتأخرين بيّن
هذا المعنى ولا وجدناه في شيء من الكتب".
لقد عارض ابن الهيثم
نظرية إقليدس وبطليموس القائلة بأن العين ترسل الإشعاعات البصرية إلى الأجسام
المرئية ووضع قاعدة جديدة هي أن الضوء هو العامل الخارجي الذي يحدث عنه إحساس
البصر، لقد ذاع اسم ابن الهيثم في أوربا في عصر النهضة الأوربية وعرف تحت اسم
"الهازن"، وقد نُقلت أغلب كتبه ورسائله إلى اللاتينية والعبرية دون ذكر
اسمه أحيانًا، والواقع أن علماء أوربا قد استقوا معلوماتهم، بداية من روجر بيكون
إلى كبلر من الحسن بن الهيثم، والتحري الحديث قد أثبت أن كتاب الذخيرة المكتوب
باللاتينية لمؤلفه رزنر عام 1572 هو ترجمة لكتاب المناظر لابن الهيثم[6].
لكن لعل ما قام به
علماء ومؤرخي الإسلام في الخمسين عامًا الأخيرة من جهد ملحوظ في الرد على هذه
المفتريات والأباطيل والأوهام يخفف من وطأة ما يراه الباحث في تهور كثير من
المستشرقين وحنقهم الواضح على التراث الإسلامي عامة والعلمي منه خاصة.
لقد كان مجلدي
"مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية" وهو مجموعة من
الأبحاث القيمة والجادة لمجموعة من العلماء والباحثين العرب، والصادر عن المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم في بداية الثمانينات من أجل الأعمال العربية في تجلية
مناهج المستشرقين في تعاطيهم مع كل محاور الحضارة الإسلامية والرد عليها، وقد صدر
في إطار الاحتفاء بالقرن الخامس عشر الهجري، وهي من الأعمال التي ننصح المثقفين
والباحثين باقتنائها والاطلاع عليها لفائدتها الجمة.
ففي الفصل الذي عقده
الباحث التونسي الدكتور محمد السويسي وهو بعنوان "آراء بعض المستشرقين حول
التراث العلمي العربي والرد عليها"، نجده تناول ظاهرة غمط المستشرقين للتراث
العربي باعتباره منقولا من الآداب اليوناينة والهلينية أو الهندية أو أن من كتبها
هم العجم في أغلبهم ولم يكن للعرب إلا أقل القليل مستندين في شبهتهم هذه على ما
ذكره ابن خلدون في مقدمته حول إسهام العجم في الميراث الحضاري الإسلامي، وقد رد
الدكتور السويسي على هذا كله في صبر وأناة، بل حصر شبهاتهم في: "القول
بالتفاوت الفطري بين الشعوب بل بالتباين المطلق بين عقلية العرب والساميين وعقلية
الآريين الأوربيين، هذا القول الذي تمخض عنه أن العرب لا يقوون بطبيعتهم على
ابتداع أي جديد في الحقل العلمي، وأن العلم العربي لم يكن سوى مجرد نقل عن اليونان
والهند، فإذا عُثر على أمر طريف في هذا العلم فلابد أن يكون له أصل في العلوم
القديمة، ومن ثم كان نقل العرب مشوهًا ضعيفًا يكتفي بإدراك الجزئيات ولا يرتفع إلى
مستوى القضايا والقوانين العامة، هذا العجز حال دونهم ودون اكتشاف أمريكا واكتشاف
حركة الكواكب والسلاح الناري والطباعة، وقد اعتنق كثير من هؤلاء المستشرقين ظاهر
ما ذهب إليه ابن خلدون في قوله: إن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم. أو
قوله إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب. ومن جملة ما ردده
المستشرقون أن العرب بطبيعتهم يتأثرون بالأوهام ويميلون إلى الانشغال
بالتنجيم.."[7]،
وقد رد الدكتور كما ذكرنا على هذا كله في ذلك الفصل الماتع.
ولعل من جملة المبشرات
أن هناك مراكز عديدة في أوربا قد بدأت منذ فترة محاولات جادة لتعديل الأوضاع
التاريخية بالنسبة للكشوف العلمية وإعادة الاعتبار إلى علماء الحضارة الإسلامية،
رواد العلم الحديث بعد أن غمط الأوربيون في عصر النهضة وما تلاه حقهم في نسبة
النظريات العلمية إليهم، ومن بين هذه المراكز المهمة "مركز التراث العلمي
العربي" في توبنجن في ألمانيا الذي أشرف عليه الأستاذ فؤاد سزكين، وقد نال
جائزة الملك فيصل العالمية على مجهوده المتميز في هذا الميدان الصعب.
وبعدُ، فلعل هذين
المقالين من حديثنا عن المستشرقين والحضارة الإسلامية قد تناولت – ولو بصورة سريعة
– رؤية الغربي لحضارتنا وغاية رؤيته تلك، بصورة موضوعية قد أبرزت سلبيات هذه
التجربة وإيجابياتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق