ثمة إشكاليات كبيرة
تواجه الثورة المصرية، تأتي على رأسها تصريحات بعض أعضاء المجلس العسكري التي باتت
واضحة لا غبار عليها، بعدما احترقت ورقة "نائب رئيس الوزراء للتحول
الديمقراطي"؛ وإننا لا يمكن أن نستسيغ قول القائل إن اللواء الملا واللواء
شاهين إنما يتكلمان من رأسيهما وبصورة مستقلة عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛
فإن ذلك مخالف لطبيعة التربية العسكرية وحياة الجندية التي يتدرج في درجاتها
العليا ضابط القوات المسلحة طبقًا لعدة معايير أهمها وعلى رأسها مدى التزامه بطاعة
وأوامر قيادته.
ثمة من يقول: لكن
المجلس الأعلى خرج ببيان صريح واضح لا لبس فيه ولا غبار عليه بأن تصريحات بعض
أعضائه لا تعبر عن قناعات وآراء المجلس العسكري والجيش كله، وإنما تعبر عن آراء
فردية وذاتية؛ وأن مهمة مجلس الشعب والشورى لا يمكن الافتئات عليها أو تقليصها أو
التدخل فيها، وهذا كلام مطمئن لحد كبير؛ لكن غير المطمئن وغير المعقول أن يُنشأ
مجلس استشاري مهمته إبداء الرأي للمجلس العسكري في ظل انتخابات برلمانية سنرى
بعدها مجلسًا للشعب بعد شهر ونصف فقط؛ وقد كان من الأولى أن يُنشأ هذا المجلس منذ
عشرة أشهر خلت؛ ومجلس الشعب أعلى سلطة للتشريع والرقابة في البلد؛ فضلاً عن كونه
ترجمة واقعية للمجتمع المصري ومراميه، بل هو المُعبّر الحقيقي عنه، وكل ما قيل من
البرادعي أو اللواء الملا من بعده من أن هذا المجلس لا يعبر عن الشعب إنما هو
تسفيه لإرادة المصري الذي قام بالثورة من الأساس، وهذا التسفيه عبّر عن النموذج
الكامن في أدبيات وأفكار وسياسات العلمانيين والليبراليين التي تجعل من الشعب
مجموعات من الجهلة الفقراء الذين لا يمكن أن تُؤتمن السياسة العليا والأمن القومي
المصري في ظل اختياراتهم، ولذلك لم يكن من المستغرب أن نقرأ لأحد عباقرة التيار
العلماني اقتراحه الذي أشار فيه بضرورة أن تقتصر الانتخابات على خريجي الجامعات
فقط!!
إن المنطق الأبوي الذي
يرى ما لا يره الآخرين، ويعقل ما لا يعقله الآخرين، وينظر إلى ما لا تستطيع نظر
الآخرين النظر إليه، هو المنطق ذاته الذي كان يُقال عن حسني مبارك، وطالما طالعتنا
صحافة النفاق والشقاق في عصره بإضفاء أوصاف الحكمة والعقل على ذلك المخلوع؛ وقد
أوصلتنا حكمته العظيمة، ورؤيته الثاقبة إلى الجهل والفقر والمرض والمحسوبية
والفساد والظلم وغيرها من كل وصف تعيس عايشه المصريون ولا يزالون يعيشون تبعاته
على أمل منهم أن ينجلي قريبا.
هذا المنطق الأبوي
الذي يغتر بسلطة مطلقة أو ضعف الشعب أو خنوع التيار الإسلامي أو سجن المخالفين
للرأي لم يُفد مبارك وحاشيته بمثقال ذرة منه؛ رغم بطش ثلاثين عامًا؛ لكن لما حانت
ساعة السقوط سقط ولم ينفعه جبروته وقوته؛ وهذا المنطق ذاته نذكر به كل من يريد
القفز على شرعية الثورة التي هي شرعية المصري الذي أسقط ما أراده ويريد بناء ما
يريده هو ولا أحد غيره.
ولذلك فإن استلاب
إرادة الناس بأي صورة من الصور، لا يمكن أن تقابل بالترحاب والفرح أو السكوت
والخمول؛ وإنما تقابل بالرفض والفضح والإفشاء، فالشعب قد احتكم إلى إعلان دستوري
واضح أصبح بمثابة خارطة طريق للجميع؛ ولا يمكن أن يتنازل عن هذه الخارطة بأي صورة
من الصور أو أي شكل من الأشكال، ومن ثم فلا قيمة تذكر لمجلس استشاري في ظل مجلس
للشعب هو الأعلم بما يريده الشعب وليس أحد غيره، ولينسى كل حالم بالماضي القريب المنطق
الأبوي الذي أوصل البلاد والعباد إلى الحضيض والفشل.
***
هناك إشكالية أخرى
يعاني منها التيار الإسلامي وهي إشكالية البحث الدائب والدائم عن التوافق؛ ففي أي
مجتمع إنساني لا يمكن أن يتوافق الجميع على آراء تفصيلية بعينها؛ لأن هذا مخالف
لطبيعة وفطرة وأفكار كل مجموعة؛ فكيف يمكن أن يتفق الإسلامي والعلماني على دستور
موحّد مثلاً سوى أن يتنازل كل طرف للآخر عن بعض الأمور لتجري عملية التحول
الديمقراطي كما رأينا في تونس؛ فإذا كان هذا التوافق المرجو فلا ريبة فيه.
لكن أن يكون التوافق
على حساب فصيل بعينه، وهو الأغلبية في البرلمان مثلاً فهذا مما يُعجب له، بل
يُندهش منه؛ لأنه بمنتهى البساطة خلل فكري يحتاج إلى المراجعة؛ فحينما نقول إننا
لن نؤيد المستشار محمود الخضيري لرئاسة البرلمان لأنه غير توافقي؛ فهذا هو الخلل
الفكري الذي يحتاج إلى تصحيح المفاهيم والتصورات؛ لأن الرجل بتاريخه الثوري
والقضائي المشرف يتوافق عليه كل شريف ووطني مخلص؛ ولا يمكن أن أفهم التوافق ساعتها
سوى كونه التنازل ولا شيء آخر.
على الأغلبية
البرلمانية أن تعي أن اختيار الشعب لها إنما هو تفويض غير مطلق أو بالأحرى تفويض
مشروط؛ بدليل أنهم إذا اختلفوا على أمر مصيري كالدستور ولم يجدوا التوافق عليه
مثلا ردوا الأمر إلى صاحب الأمر الحقيقي وهو الشعب، ومن هذا المنطلق الفكري على
هذه الأغلبية أن تعي أن اختيار الناس لهم إنما هو اختيار لثوابت لا يمكن التنازل
عنها؛ فلا يمكن أن يقبل 70% من الشعب المصري أن يسيطر على البرلمان أو رئاسة
الحكومة المقبلة التيار العلماني بحجة أن الإسلاميين غير مؤهلين وأن دورهم إنما
ينحصر في التشريع والرقابة؛ فهذا خلل إداري وسياسي وقلة شجاعة تنال من رصيدهم ولا
تضيف إليه، وفي هذا السياق نذكر بكلام الأستاذ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة
التونسية، صاحبة الأغلبية في البرلمان التونسي الآن حيث قال: "الحركة
الإسلامية اليوم هي القوة الشعبية الأساسية، فما ينبغي أن تتأخّر عن أداء واجبها
الديني وواجبها الوطني. ما ينبغي أن ترتجف أفئدتها من مسألة الحكم، وتعتبر أن
غيرها من المجموعات العلمانية الصغيرة أولى منها بالقيام بهذا الواجب. ما ينبغي أن
ترتجف القلوب هلعا من الحكم، وكأنّ الآخرين يملكون أسراره. وكأنّ الآخرين هم أهل
الاختصاص في تحقيق أهداف الثورات في العدل والحرية. نحن لا ندعو إلى احتكار الحكم
من طرف الحركة الإسلامية، ولكن ندعو الحركة الإسلامية ألا تكبكب أمام أداء الواجب
في قيادة شعوبنا. إذا أعطيت الثقة من شعوبها، فالمفروض ألاّ تكبكب ولا تتأخّر ولا
تجبن، وإلاّ فسنكون قد ساهمنا في تزييف الديمقراطية... العلمانيون لا يملكون السرّ
المكنون. نخبهم تخرّجت من نفس الجامعات التي تخرّجت منها نخبنا، ونحن نتفوّق عليهم
بأنّنا أهل دين، إما أن يُقضى على الفساد، أو يحدّ منه إلى حدّ كبير. وهذا مهم
جدا، لأنه تبيّن أنّ مصدر فشل مشاريع التنمية هو فساد الحاكمين، والإسلاميون
يملكون الدواء، أو التقليل منه إلى حدّ كبير، لأننا مع بشر وليس مع ملائكة... أمّا
النظام الدولي، والإسلاميون يتخوّفون من أنّ للعلمانيين ظهيرا دوليا، وأنّ العامل
الدولي ضدّ الإسلاميين، فأوّلا ليس كل ما تريد أمريكا يكون. ما يريد الله هو الذي
يكون، وأمريكا ليست إلهاً. الكثير من الأحداث حصلت في العالم لا تريدها أمريكا،
بما في ذلك هذه الثورات، فقد حصلت بدون إرادة أمريكا، ونجحت بدون موافقتها وبدون
إذنها. ينبغي أن نتخلّى عن فكرة أن ما يريد الغرب هو الذي يكون، فما يريد الله، ثم
ما تريد شعوبنا، هو الذي يكون بإذن الله".
هذا الكلام الواضح
الصريح الذي يمتاز بالواقعية الشديدة والفطنة على الحركة الإسلامية في مصر أن
تفهمه وتعيه جيدًا؛ لأن تسول التوافق من فريق لا يريد سوى السيطرة وركوب إرادة
الشعوب وتحقيق أهدافه العليا والمعلنة بتمكين المشروع التغريبي المعادي للرؤية
والثقافة الإسلامية من ديارنا أمر فيه خلل بل بالأخرى تخلي عن ثوابت المشروع
الإسلامي، ومن هنا يصبح التوافق مع ذلك الآخر الذي يحمل كمًا من الكبر والصلف
والعداء الإعلامي والفكري الواضح أمر مهين لكل إسلامي بل لكل مصري ارتضى أن يختار
التيار الإسلامي ممثلاً عنه.
إن لحظة المفاصلة
وغياب الحوار وتهافت التوافق تقتضي أن يلتف الإسلاميون حول أنفسهم، وأن يكونوا
يدًا واحدة في تنفيذ أوليات المرحلة التي تمر بها مصر، وهذه الأولويات ليس التوافق
على رأسها بقدر ما تأتي متطلبات الجماهير من الخدمات والمشاريع التنموية والقضاء
على البطالة والفقر والمستوى المتدني من التعليم والبحث العلمي وغيره على قمة
الأولويات، وقتها تُصبح الأغلبية معبرة عن وعي وإرادة الناس حقًا، دون الدخول في
مناكفات تضيع الوقت والجهد وتخلق المشاكل والمعوقات، ولو كان العلمانيون أغلبية في
البرلمان لما سمعوا أو قبلوا للإسلاميين رأيًا أو نصيحة أو تشريعًا لأن التاريخ
والواقع والخلفية الفكرية هي التي تقول هذا وتحتمه، وكفى بعصر مبارك شاهدًا
وبصيرا!
والخلاصة أننا لا نرفض
التوافق بالكلية وإنما نقبل التوافق العادل الذي يراعي الأغلبية الإسلامية في
البرلمان، ولا يحد من إستراتيجيتها في الحكم وتحقيق أهدافها وأولياتها وما يرجوه
رجل الشارع منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق