في بلد يغلب التيار
الإسلامي فيه، بل يُرجح أن يقود دفة البرلمان القادم، فضلاً عن تاريخه الطويل
المثخن بجراحات الاعتقال والسجن والقتل التي تعرض لها هذا التيار من أجل مبادئه
وأهدافه والتي تأتي على رأسها قضية الشريعة وتطبيقها ثمة أمور كاشفة تبرز من
خلالها حقيقة هذا التيار الإسلامي الكبير، ومدى ارتباط وتغلغل وفهم هذه القضية الجوهرية
في أعماقه حقًا.
لقد كان يوم السبت 19
نوفمبر يومًا حزينًا تعرض فيه متظاهرو التحرير ومصابو الثورة لهجمة بربرية متوحشة
قتل فيها وبعدها ما يقرب من 40 شابًا وشابة من أطهر من أنجبتهم مصر ثم لما رأى
الناس ما يتعرض له هؤلاء المستضعفون من قتل وتنكيل وإصابات بالغة وغازات مميتة
قتلت بعضهم بدأت روح الشريعة وحقيقتها ومقاصدها تدب في أوصال المؤمنين بها حقًا
ليقف أول من يقف مع هؤلاء المصابين وأهالي القتلى شباب ورجال ونساء ألقوا عباءة
الأشياخ/المسئولين التي تثبط الهمم، وتقعد الناس عن أبسط مشاهد المروءة والنخوة
وهي إغاثة الملهوف، تلك الصفة التي امتاز بها نبينا صلى الله عليه وسلم حتى وسلم
بين المشركين في مكة، بل كانت من دواعي تطمين أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها له
لأنها من جملة أسباب الفرج القريب، مؤمنة بالمآل الطيب الذي ينتظر كل ذي معروف
وخُلق جميل.
بعد ذلك أعلنت الدعوة
السلفية عن وقوفها بجوار معتصمي ومتظاهري التحرير وكانت قد تراجعت عن رؤيتها التي
قالت فيها إن ما حدث فتنة وجب التريث وعدم النزول والاشتراك فيها، ثم لحقها حزب
النور، ثم رأينا جماعة الإخوان تحذّر من هذا المشهد الذي يُعد لاستدراجهم فيه لأجل
التصادم ولتأخير الاستحقاق الديمقراطي، لكن والحق يُقال كان الكثير من شباب
الإخوان والسلفيين والثوار الوطنيين مذ دعا حازم أبو إسماعيل وغيره بوجوب النزول
ونصرة هؤلاء الملهوفين من أوائل الملبين، وفي هذا المشهد ما يعيد ذكريات الثورة
الأولى.
إن إغاثة الملهوف تعني
بالضرورة حفظ النفس التي هي المقصد الثاني من مقاصد الشريعة وبالأخص ضرورياتها؛
فإذا ما وجدنا المطالبين بتحقيق الشريعة ومقاصدها يتقاعسون ويتناسون هذه القضية الجوهرية
في وقت الاحتياج إليهم فثمة خلل أخلاقي وشرعي كبير يحتاجون إلى ترميمه وإعادة مدارسته
واستيعابه وفهمه على الوجه اللائق به.
انتهت أحداث محمد
محمود التي كان الحل فيها بسيطا ظريفًا بوضع حاجز بين المتظاهرين والمعتصمين،
وبدأت الانتخابات وأعلنت عن حكومة يترأسها الجنزوري الذي أُعد له ما لم يُعد لمن
قبله من رؤساء الوزراء من هدية عظيمة جليلة وهي الصلاحيات التامة الكاملة التي لم
نفهم معناها حتى الآن عدا شئون القضاء والقوات المسلحة، لكن ارتأى كثير من شباب
الثورة أن الإتيان بالجنزوري وبحكومة نصف أعضائها من الوجوه المألوفة هي في مجملها
إعادة للمشهد النمطي القديم الذي دأبنا عليه منذ محمد علي باشا وأولاده حيث تنزل
الفرمانات فيه من السلطة الحاكمة على الشعب ليلتقطها أو يسمعها في سرور وحبور، أو
يأس وإحباط لا حول منه ولا قوة، وهذا ما رفضه ويرفضه من قام بثورة خالفت كل قواعد
الفعل الاجتماعي المصري في المائتي عام الأخيرة، وأصر هؤلاء على الاعتصام أمام
رئاسة الوزراء؛ لأنهم أرادوا حكومة حقيقية للإنقاذ الوطني، ولسنا في إطار الحكم
على رؤيتهم هذه؛ فقد نختلف معهم لكن وجب احترامهم واحترام آدميتهم وإنسانيتهم وليس
قتلهم وسحلهم وضرب نسائهم!
انشغلت الأحزاب
والجماعات بالانتخابات ونُسيت قضية هؤلاء، ورأينا الجيش بحلته الجديدة التي تحول
فيها عن صورته البائسة في محمد محمود لنرى مشهد الود والحب المتبادل بين الجيش
والشعب ليعودا مرة أخرى يدًا واحدة، وفي خضم هذا سمعنا عن تسمم المعتصمين في واقعة
"الحواوشي" ثم بالأمس تحرش أحد الضباط بأحد شباب ألترس أهلاوي في هذا
المكان الذي تم استدراجه وضربه حتى كاد الشاب أن يلفظ أنفاسه وصورته على الانترنت
تصور مدى بشاعة وجرم اليد التي ألحقت به هذا الضرر، ثم تطورت الأحداث من الأمس إلى
اليوم كما رأينا، ثم تكلل هذا المشهد المأسوي بقتل مجموعة جديدة انضمت إلى مسيرة
شهداء الثورة يأتي على رأسهم العالم الأزهري الجليل عماد عفت الذي تدمي صورته مع
أطفاله القُصّر قلب كل شريف على مآل هؤلاء الأيتام الجُدد والشاب الذي كان على
أعتاب التخرج علاء عبد الهادي من كلية الطب والآخر مهندس الميكانيكا وغيرهم من
شباب آخرين..
هذا المشهد هو ذاته
الذي حدث في محمد محمود، المقصد منه جس نبض الناس، ومعرفة حدود رد فعلهم للقتل
والتنكيل، وهذا مفهوم ممن لا يريد نجاحًا لهذه الثورة، فهذا دأبه منذ أشهر وبصور
شتى وسيستمر في وضع هذه الفخاخ إلى آخر يوم تُسلم فيها البلاد إلى سلطة منتخبة
ومعبرة عن الناس حقًا، لكن ما لا يمكن فهمه أن أولئك الذين ينادون بالشريعة (وأقصد
التيار الإسلامي كله) حكما وفصلاً بين
الناس نراهم يرددون ذات التسويغ القديم وهو أن هذه الأفعال المقصد من ورائها إعاقة
الاستحقاق الديمقراطي واستدراجهم لتصادم بينهم وبين الجيش.
هذا التسويغ الذي يبدو
للوهلة الأولى منطقيًا يتناسى أبسط وأول مقاصد الشريعة بحفظ النفس وإغاثة الملهوف
ونصرة المظلوم، أو على الأقل الفصل بين الظالم والمظلوم، وينسى قول النبي صلى الله
عليه وسلم الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه : "انصر أخاك ظالما أو
مظلوما". فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان
ظالما كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره".
هذا الحجز والمنع والفصل بين الظالم والمظلوم لم نره إلا في صورة لفظية تشجب
وتُدين وتذكرنا بالخطاب الانبطاحي الذي دأبت عليه السلطة الفلسطينية مع اليهود،
وهذه الإشكالية التي تقدم البرلمان على الإنسان ودمه العزيز هي خلل واضح لا غبار
فيه، وتتناسى قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يطوف بالكعبة المشرفة:
"ما أطيبك وأطيب ريحك. ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده لحرمة
المؤمن أعظم عند الله حرمة منك. ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا"، هذه
النصوص النبوية الصريحة فضلاً عن الآيات القرآنية التي تحرم قتل الناس وتجعل
القاتل مخلدا في النار لا تحتاج إلى تسويغات ومبررات تدعو إلى القعود والنكوص على
العقب، وتتجاهل أو تنظر لما يحدث من بعيد وكأن هؤلاء المقتولين ليسوا بشرًا أو من
أنصار هذا التنظيم أو تلك الدعوة!
بل الأعجب من هذا أن
بعض رؤوس هذا التيار الإسلامي كانوا قد وافقوا وانضموا للمجلس الاستشاري، لنرى أن
غيرهم قد استقال من هذا المجلس المشين – الذي أراه الآن عونًا للظلمة – وهم لا
يتحركون ولا يستقيلون، بل إن أحدهم كتب معزيًا في مقتل الشيخ عماد عفت ويقول إنه
يعرفه، بل ويستنكر هذه الهجمة البربرية وهذه الممارسات القمعية وهو رئيس حزب كبير
ثم يسكت ولا يعلن أنه يستقيل من هذا المجلس المخزي الذي قال زملاؤه فيه وعلى رأسهم
نور فرحات أن الجيش غير مخطئ!!
نقول إنه إذا ما وقعت
مصيبة يقتل فيها الناس، وتنتهك فيها الحُرمات ثم يخرج من يقولون إنهم
"إسلاميون" ثم يبررون عدم النزول أو على الأقل منع الظلم عن الظلومين
كما حدث في محمد محمود ويكتفون بالشجب والإدانة بحجة ضياع الاستحقاق الديمقراطي. نقول
لهم حسنا مطلوب منكم النوم تحت اللحاف والسكوت عن نصرة المظلومين والمقتولين
وشرعنة فعل الظالمين بحجة الاستحقاق الديمقراطي، لقد أصبح هذا الاستحقاق وثنًا
يُعبد، والبرلمان هو الغاية في حد ذاته، وكأن البرلمان هو الذي سيحق الحق ويبطل
الباطل، وكأن هذا البرلمان قد فعل أي تغيير حقيقي في هذا البلد منذ إنشائه أيام
الخديوي إسماعيل وحتى الآن!!!!
ومع هذا فإني لا أقصد
من هذا المقال إفشال الاستحقاق الديمقراطي، ومجرد الهرولة غير المدروسة لنصرة
الظلومين، وإنما المقصد هو التوازن بين الإنساني والسياسي، توازن يحمي الإنسان
ويخاف على دمه، ولا يخذله ولا يُسلمه ويضع في الحسبان هذا الحديث النبوي الشريف: "كونوا
عباد الله إخوانا: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره".
رواه الإمام مسلم.
اتقوا الله في الشهداء
والأرامل والأيتام والثكلى والمستضعفين وطبقوا ما دأبتم على الاستمساك به وهي
الشريعة والمطالبة بتحقيقها، وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا
كان يوم الْقِيامة نادى منادٍ: أَيْنَ الظلمةُ، وأَعْوان الظلمة، وأَشباه الظلمة،
حتّى منْ برى لهم قلما، أَوْ لاق لَهُمْ دواة فيُجْمعون فِي تابُوت مِنْ حَدِيد،
ثم يُرْمَى بهِم في جهنمَ". وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أحسنت.. أحسنت
ردحذف