قد يبدو السؤال للوهلة
الأولى ساذجًا؛ إذ إن مسار تسليم السلطة متفق عليه، ومعروف للكافة منذ وضع الإعلان
الدستوري الذي يرسم خارطة الطريق، ويُفصّل مسار اتجاه المصريين بعدما وافقوا عليه
بأغلبية ممتازة إلى إجراء انتخابات مجلسي الشعب والشورى وانتخاب الجمعية التأسيسية
للدستور الجديد ، ثم إجراء انتخابات رئيس الجمهورية ثم الاستفتاء على الدستور
الجديد.
غير أن خارطة الطريق
تم تشويهها زمنيًا وفنيًا فبدلاً من إجراء الانتخابات البرلمانية بعد ستة أشهر
نراها تتم بعد تسعة الأمر الذي يزيد من الفترة الانتقالية إلى عام ونصف، بعدما
كادت تصل إلى عامين ونصف أو ثلاثة لكن تُحسب لثورة الثائرين في محمد محمود أنها
أرجعت ميزان القوى إلى مكانه الطبيعي بين الشعب والعسكر، ليتم تحديد موعد انتخاب
رئيس الجمهورية باليوم والشهر.
والآن يقترح وزير
مجلسي الشعب والشورى المستشار محمد عطية فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة في شهر
إبريل مفصّلا هذا الأمر بمجموعة من الإجراءات والشروط.
لكن الذي لفت نظري في
كلام الوزير قوله: "إنه سيتم تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور في اجتماع
مشترك لمجلسي الشعب والشورى, بعد إتمام الانتخابات البرلمانية, وتقوم هذه الجمعية
بوضع الدستور خلال شهر ثم يجري الاستفتاء عليه, لتبدأ بعد ذلك انتخابات الرئاسة"
بحسب ما ذكر موقع بوابة الأهرام بتاريخ الثاني من يناير الحالي.
والسؤال السريع الذي
يأتي للذهن ما علاقة وزير مجلسي الشعب والشورى بتحديد إجراءات انتخاب لجنة تأسيس
الدستور وتحديد ميقات الانتهاء منه؟ ولماذا يربط وضع الدستور والانتهاء منه قبل
شهر إبريل بفتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة؟ ولماذا الإصرار بعد كل هذا على وضع
الدستور في ظل حكم العسكر؟! وهل هناك تفاهم بين العسكر والقوى المسيطرة على البرلمان
بضرورة كتابة الدستور في مدة أقصاها شهر بعد انعقاد مجلسي الشعب والشورى؟ ثم أليس
هذا مخالفة صريحة للإعلان الدستوري الذي سبق وأن أشرنا أن خارطته التي أعدها
المستشار البشري والمجموعة المعاونة له تخالف قول الوزير مخالفة صريحة وواضحة؟
ولماذا يسكت من تكلموا مرارا عن ضرورة احترام الإعلان الدستوري، وعلى رأسهم
الأغلبية الإسلامية في البرلمان من الإخوان وغيرهم؟
***
تزامن كلام الوزير عن مشروع
قانون انتخابات رئيس الجمهورية مع تصريحين في غايتي الأهمية والخطورة لكل من محمود
غزلان المتحدث باسم جماعة الإخوان وعصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة؛
فالأول لا يرى حرجًا في إعطاء العسكر، وبالأدق مجموعة من أفراده حصانة من الملاحقة
القضائية معللاً ذلك بحمايتهم للثورة، قال: "إنه من الممكن صدور قانون من
مجلس الشعب لمنح أعضاء المجلس العسكري حصانة، وأشار إلى أن هذا الأمر سيكون محل
اتفاق بين القوى الوطنية، وستتقبله جماعة الإخوان المسلمين، تكريمًا لمواقف أعضاء
المجلس العسكري لإدارتهم شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية، وتقديرًا لموقفهم
من الثورة من البداية". اليوم السابع 31 ديسمبر.
ورغم إقرار غزلان بأن
إدارة المرحلة الانتقالية كانت سيئة أو بالأحرى تُعمد الإساءة والتفخيخ والقتل
والسجن فيها والتلكؤ الواضح لكل ذي عينين عن تحقيق أهداف الثورة إلا أن ذلك لا يهم
إذا سلموا السلطة لجهات مدنية منتخبة؛ وأن هذه الحصانة ستكون لأفراد بعينهم وليس
للمؤسسة كلها كما كانت تؤمل وثيقة السلمي.
وأما التصريح الثاني
فهو لعصام العريان في لقائه ليلة الأول من يناير مع محمود سعد على قناة النهار،
وكلامه عن "الجيش ومجلس الدفاع الوطني" حيث قال: "يجب احترام وضع
الجيش لأنه في بلد ديمقراطي له حساسيته ولابد من أخذ رأيه في القضايا المتعلقة به،
وميزانيته ليست مشاعًا، ثم ضرورة وجود مجلس للدفاع الوطني مكون من عسكريين ومدنيين،
وهو مجلس صغير مختص بمتابعة واتخاذ القرارات الخطيرة التي تتعلق بالأمن القومي المصري
بكل "تفاصيلها وحساسياتها"، مثل قرارات الحرب والمعاهدات الخطيرة والتهديدات
الخطيرة التي تهدد البلاد، وهو مكون من قيادات الجيش والقيادات المدنية المسئولة
في البلد وليس المعارضة ... ثم أضاف أخيرًا الجيش المصري سيظل موجودًا في المشهد
ولكن لن يكون له دور سياسي"!.
ولم يفصّل العريان ما المقصود بأن ميزانية الجيش
ليست مشاعًا؟ وأين الدور الرقابي للبرلمان ولو بصورة سرية على هذه الميزانية؟! وما
علاقة "مجلس الدفاع الوطني" بالتحديد والتعيين والتفصيل بالبرلمان ورئيس
الجمهورية؟ وما هي اختصاصاته بالضبط؟ ومن رئيسه؟ ثم السؤال الأشد أهمية وخطورة ما
نسبة كل من المدنيين والعسكريين فيه؟ وما وظائفهم في الدولة؟ وكلمة مَن مِن العسكر
أو المدنيين التي ستهيمن على مشهد هذا المجلس في نهاية المطاف إن حدث اختلاف حول
قرار من القرارات؟! وهل يعني انعقاده وتدخله في المعاهدات الخارجية أنه يتدخل في
السياسة الخارجية للدولة؟ ولو صح هذا أليس في ذلك تقويض للجمهورية الجديدة والتفاف
على الديمقراطية واستعلاء على مجلس الشعب؟!
إذن تتضح أبعاد الرؤية
التي يقدمها قيادات جماعة الإخوان المسلمين للعسكر للخروج من الفترة الانتقالية فيما
يلي:
1-
عدم الملاحقة
القضائية وإعطاء الحصانة لبعض القيادات استثناءً، فضلاً عن سرية الميزانية
العسكرية.
2-
كتابة الدستور
في ظل المجلس العسكري.
3-
المشاركة في
اتخاذ القرارات السيادية من خلال "مجلس الدفاع الوطني".
***
إن التأمل في هذه
الخطوط الثلاث العريضة ليأخذنا إلى نتيجة مفادها أن المجلس العسكري انتقل من كونه
جهة خدمية تأتمر بأمر الرئيس والبرلمان وهم مجموعة من الأفراد من المفترض أنهم
أحرص الناس وأعقلهم وأقدرهم على إدارة البلاد سياسيًا اقتصاديًا واستراتيجيًا، ومن
الطبيعي أن يستشيروا القيادات العسكرية في الأمور الفنية التخصصية وليس أكثر؛ إلى
كونه شريكًا في الحكم بحيث يرتهن القرار السيادي النابع من ممثلي الشعب بما يراه
مجلس الدفاع الوطني المختلط؛ وهذا إعادة بصورة أكثر شياكة لوثيقة السلمي، بل إذا
أصبح هذا المجلس بعيدًا عن وصاية مجلس الشعب أصبح بمنتهى البساطة مستعليًا عليه
وأقوى منه سياسيًا وسياديًا، ويتوقف هذا على الإعلان الدستوري أو القانون الذي
يوضح تفاصيل هذا المجلس واختصاصاته.
والحكم على هذه الرؤية
التي تطرحها القيادات الإخوانية صاحبة الأغلبية البرلمانية يتمثل في كون هذه
الخطوط الثلاث تنازلاً واضحًا؛ واعترافًا ضمنيًا منها بأن العسكر "سيظل
موجودًا في المشهد" كما قال العريان.
كنت أظن أن غاية ما
ستطرحه القيادات الإخوانية تقديم الحصانة القانونية للقيادات العسكرية وليس أكثر
من ذلك؛ وهذا التنازل الوحيد الذي كنت أراه صالحًا للخروج من الأزمة يحمل تبعة
أخلاقية واضحة إذ إن الفترة الانتقالية شهدت قتل وسجن الكثير من الأبرياء الذين
باتوا أصحاب خصومة مباشرة مع بعض القيادات العسكرية التي تورطت في ظلم هؤلاء، ولهم
الحق المباشر في العفو أو تقديم الحصانة من الإخوان أو غيرهم، لكن أن يقبلوا بوجود
العسكر في المشهد دون تدخله المباشر في القرارات السياسية فهو استنساخ للنموذج
التركي بصورة أقل وطأة، لكنه في الحقيقة يكبل إرادة الناس السيادية، هذا إذا كان
العسكر هم المسيطرون على مجلس الدفاع الوطني ذاك.
إن تلخيص المشهد
الثوري بين هذه القيادات الإخوانية وغيرهم من الإسلاميين القابلين بهذه الطروحات وبين
القيادات العسكرية الحاكمة لا يمكن أن يرضاه عاقل، أو يجعله في صالح الثورة؛ لأن
انتقال المشهد الثوري بفلسفته التطهيرية الشاملة إلى المشهد السياسي بفلسفته
البراجماتية النفعية التي يتقدمها تنازلات كما رأينا؛ هو استنساخ للمشهد السياسي
الذي كان يمكن أن يقدمه النظام البائد قبل سقوطه ونقبله نحن، وكان على رأسها إجراء
انتخابات رئاسية نزيهة في شهر سبتمبر الماضي وكان من الممكن القبول بهذا الحل
الجذري مع وجود ضمانات ثورية تحققه، ولكانت الثورة قد انتهت وأصبح لنا قيادة جديدة
وحكومة جديدة وبرلمان جديد، ولكان الجيش المصري كما هو جهة خدمية تابعة لقرارات
رئيس الجمهورية (القائد الأعلى للقوات المسلحة) وبين مجلس الشعب ممثل الشعب في
الرقابة والتشريع.
قد يقول قائل إن
البديل يكمن في التصادم بين الجيش والشعب، وهذا قول مغلوط جملة وتفصيلاً؛ لأن
الجيش من الشعب، ولأن الشعب يريد نجاح الثورة وكذا الجيش؛ ولأن قيادات الجيش قالت
مرارًا وتكرارًا أنها مع الشعب وأنها ليست بديلاً عن الشرعية، وهذا أوان تحقيق هذه
المقولات. ومع ذلك كنا سنقبل إعطاء حصانة قانونية للقيادات العسكرية التي قالت إنها
وقفت مع الثورة وإرادة الشعب فقط وليس أكثر من هذا.
الحل الآن يتمثل في
الحئول دون تلخيص المشهد الثوري وتحوله إلى طاولة من المفاوضات تتم فيها التنازلات
والضمانات، وتُنحى إرادة الناس الحقيقية في التغيير والتطهير جانبًا، ولذلك يتحمل
الميدان والتيار الثوري الثابت في كل المشهد خلال العام المنصرم والأشهر القادمة ضمانة
عدم قبول أي تنازل يقدمه مجلس الشعب يُخل بأهداف الثورة العليا، وعلى رأسها حكم
الشعب لنفسه بنفسه حقيقة لا صورية ولا شبهة فيها، وأن يكون البرلمان ورئيس الدولة
ورئيس الحكومة معبرين عن إرادة الناس كل الناس وليسوا مجموعة من القابلين بوجود
شريك رابع في الحكم؛ وإلا لكان من حق القضاء هو الآخر أن يكون له مجلس أعلى للقضاء
يتكون من المدنيين المسئولين في الدولة والمستشارين الأجلاء تتلخص فكرته في قبول
بعض القضايا ورفض بعضها بحجة كونهم شركاء في الحكم!!
مقال ممتاز أستاذ محمد.
ردحذف