قال العلامة ضياء
الدين بن الأثير (ت630هـ) في تاريخه "الكامل" عن بداية هجوم التتار على
العالم الإسلامي في العام 617هـ واكتساحهم كل ما كان في طريقهم، وكان معاصرًا لهذه
الحادثة: "لقد بقيتُ عدة سنين مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاما لها
كارها لذكرها، فأنا أُقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي
الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني
مت قبل هذا وكنتُ نسيا منسيًا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف،
ثم رأيت أن ترك ذلك لا يُجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى
والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، وعمّت الخلائق وخصت المسلمين،
فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها
لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها".
يعد اجتياح التتار
للعالم الإسلامي بداية من التاريخ أعلاه وحتى سقوط بغداد عاصمة الخلافة ثم سقوط
الشام ثم ثبات المصريين أمام هذا الاجتياح لمن الحوادث الكبرى في تاريخ البشرية
التي لا يمكن أن يقرأها القارئ، أو ينقب عنها الباحث دون فهم مغزاها ومبناها
ومعرفة السبب الذي جعل أمة فيها ملايين من البشر الذين يتكئون على عقيدة صلبة،
وثقافة متجذرة، وقوة عسكرية ليست بالهينة ولا بالقليلة تنهزم وتنهار في سنة واحدة
فقط أمام هذا الغزو الرهيب، وقد تعجب ابن الأثير نفسه من هذا الأمر فقال: "هذا
ما لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم
يملكها في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدا إنما رضي من الناس
بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا وأعدل
أهل الأرض أخلاقا وسيرة في نحو سنة ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو
خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه"!!
إن التأمل في حال
العالم الإسلامي وقتها يشبه إلى حد كبير وضع العالم الإسلامي قبيل مؤتمر برلين 1878م
الذي عمل على تقسيم واحتلال العالم الإسلامي والقضاء على الخلافة العثمانية وقد
نجح؛ وحتى وضع العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، فأبرز ما
يشاهده القارئ تلك الحالة من التشرذم والانقسام والتناحر والغل بين المسلمين وغياب
المشروع الإسلامي الحقيقي برغم أنهم بدوا أنهم ينضوون تحت لواء واحد، وخليفة
مسيطر!!
ولقد عمل على هذا
التناحر كلا من سياسيين وعلماء دين ورويبضات وخونة تصدروا مشهد العالم الإسلامي، ورأوا
أن التقولب حول الذات والرؤية الفردية أو الفكرية وإقصاء الآخر
"الإسلامي" واتباع المحتل هو الأولوية القصوى لمشروعه وفكره وفردوسه
الأرضي الذي يحلم به، فرأينا كم الخيانات التي تعرضت لها أمتنا في تاريخها الطويل،
من التحالف مع المحتل ضد القضية الوطنية والوطن عمومًا؛ وما حدث كل هذا إلا لغياب
مشروع إسلامي منظم له قيادة تحافظ عليه وتعمل له، حتى أصبح همُّ العلماء الذين من
المفترض أنهم المحرّكون للأمة ضد أي خطر الانغماس في قضايا معرفية وحياتية تافهة
والابتعاد عن مراقبة ولاة الأمر والحكام، بل أصبح بعضهم ممن يُشرعن الظلم والفساد
للظالمين المفسدين بحجة أنه ولي أمر وجبت طاعته ولو كان فاسقًا ظالمًا!
إذن كان فشل الأمة
ونكايتها من شعوب الأرض ناتجًا من سبب نبّه عليه القرآن مرارًا، وحذّر من خطره
الوخيم؛ فقد قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}،
فحدد معايير أستاذية هذه الأمة للعالم بخطوات جلية وجب الاستمساك بها والاستعصام،
وهي: طاعة الله ورسوله، والتوحد حول هذين الأصلين، والصبر عليهما!
كان التنازع سبب فشل
الأمم عمومًا، وأمة الإسلام خصوصًا، ونحن الآن بعد الثورة نجد أن التيار الإسلامي
الذي ينطلق من مرتكزات شرعية لا تهدف سوى أن تكون في المقدمة والصدارة نراها تُصر
على إفشال مشروعها الحضاري والنهضوي والرباني في الأساس من خلال النكوص على العقب،
وتقديم من يستحق التأخير في إعادة لإنتاج الفشل من جديد!
نعم إعادة إنتاج الفشل
من خلال البحث عن رئيس "توافقي" قد لا يؤمن بالشريعة حكمًا وفيصلاً
وإمامًا وهاديًا وسبيلاً للمؤمنين الذين هم أغلبية هذا الشعب وهذه الأمة؛ المهم أن
يُرضي الأطراف العلمانية والاستبدادية؛ فإذا كانت أولى أسباب الفشل التي حددتها
الآية الكريمة السابقة تتمثل في عدم طاعة الله ورسوله؛ فهل يرضى الله ورسوله أن
يقدم الإسلاميون الذين من المفترض أنهم يتبعون ما أمر الله به ورسوله رئيسًا
"توافقيًا" لا يرضى بتطبيق الشريعة، وكأن تطبيقها جرمًا وكأننا في حاجة
إلى إعادة تهيئة الناس إليها وهي في حقيقتها العدل والقسط والرحمة للناس أجمعين!
إن تطبيق الشريعة أي
كتاب الله وسنة رسوله لا يكون إلا وفق ما أراده الله ورسوله؛ لا وفق أهواء البشر،
ورؤاهم الفاسدة، وليس تطبيقًا للحدود والعقوبات بقدر ما هي تطبيق للحرية والعدل
والقسطاس المستقيم، وتغيير البنية القانونية والاجتماعية الفاسدة لهذا المجتمع
الذي رُبي على الجهل والفساد والاستخفاف لعقود طويلة من الزمن!
وإن زعم الإسلاميين
بأن هذا المجتمع - الذي وللمفارقة اختار الإسلاميين والمشروع الإسلامي، وجعلهم
أغلبية البرلمان، ومتقدمي المشهد السياسي والاجتماعي - يحتاج إلى تهيئة وتدريج
لقبول الشريعة إنما هو استخفاف بالعقول؛ لأن الحقيقة وقتها تتمثل في أن هؤلاء
الإسلاميين يحتاجون هم أنفسهم إلى تهيئة للحكم بالشريعة التي مبدأها ومبناها
القيام بمصالح العباد في العاجل والآجل؛ والتي لن يُدانيها قانون وضعي، ولا فلسفة
بشرية تظل حبيسة الزمان والمكان وعقل من استنبطها، وهذا الاستخفاف بعقول الأنصار
والأتباع والمؤيدين فضلا عن الإسلاميين إنما سببه يتمثل في الخوف من الآخر الذي
تصدر المشهد السياسي عنوة وظلمًا لعقود من الزمن، ثم لا نزال نخاف منه – ونحن
الأغلبية – برغم أننا نملك الحق الذي لا مراء فيه، ولا مشاحة وهو كتاب الله
ورسوله، فأي هزيمة نفسية هذه التي نلمسها في متصدري المشهد من الإسلاميين، ولم لا
نستغل اللحظة التاريخية في معاضدة ومعاونة والالتفاف حول مرشح إسلامي يأخذ بناصية
هذا المجتمع المأزوم والمظلوم منذ عقود إلى الأمل والسعادة وتحقيق معنى الاستخلاف
في الأرض بتطبيق ما أمر الله به أن يُطبّق وينفّذ فعلا، ولم نكون رحماء على
العلمانيين مهرولين لهم خائفين من خوفهم، ونكون شوكة في حلوق أنفسنا، أشداء على
بعضنا، متنازعين وقد علمنا أن التنازع سبب الفشل وإذهاب القوة والحلم والأمل الذي
صبرنا وصبرت وماتت وعُذبت وأهلكت في سبيل الوصول لهذه اللحظة المهمة في تاريخ
الإسلام في العصر الحديث أجيال ممن سبقونا؟!!
إن الزعم بأن الغرب
واليهود وأعداء الداخل سيرضون بوجود رئيس توافقي وأن هذا الرضا سيقلل من سخطهم
وغضبهم وحنقهم على الإسلاميين هو زعم باطل؛ لأن القاعدة الإلهية العظيمة والثابتة
تقول: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ
إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ
كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فقتالهم للحئول دون
تحقيق الإسلام في الأرض مستمر بألفاظ القرآن الكريم إلى قيام الساعة، ولا مناص من
ذلك، وإنه ليعيش في الوهم من يظن أن سياسة التوافق مع الحانق على ديني، والكاره له
قد تجدي نفعًا، أو يكون لها نتائجها الإيجابية في تعبيد الطريق أمام المشروع
الإسلامي!
إن المشروع الإسلامي
لا يحتاج إلى التوافق مع أعدائه الذين ينكلون به ويحاربونه في كل قطر من أقطار
الأرض ليصل إلى سُدة الحكم أو يأخذ هامشًا منه، فهؤلاء لن يتنازلوا عن التبعية لهم
مهما كلفهم الأمر، وفي ضوء هذه القراءة الإلهية لنفسية وعقلية الآخر كما دل القرآن،
لا يجب أن يثنينا ذلك عن تحقيق مشروعنا الذي لن ينطلق إلا من خلال الوصول للسلطة؛
فقد أثبت لنا التاريخ أن السلطة قوة في يد متوليها، وهي التي ترفع مشاريع وأفكارًا،
وهي التي تُسقط أخرى، والتفكير الذي يزهد في السلطة ويقبل بهامش ضئيل فيها لا يمكن
أن يكون تفكيرًا صائبًا للوصول إلى تحقيق المشروع الإسلامي في المجتمع المصري ومن
ثم في العالم كله وأستاذيته!
من يُضيعون التاريخ
والواقع مرة أخرى، ولا يتحمسون للّحظة الحاسمة التي رضي الشعب فيها أن يكونوا على
رأس البلاد والعباد؛ عليهم أن يُراجعوا منطلقاتهم الفكرية الفاسدة التي تحول دون
حكم الإسلام وممثليه بعد إقصاء دام عقود!
نُشر في رابطة النهضة والإصلاح و شبكة رصد الإخبارية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق